عمّا نحن فيه!
فادي طفيلي
منذ العام 2002، أصدرت هيئات بحثيّة عربيّة عدّة عملت بإشراف الأمم المتّحدة، سلسلة من التقارير العلميّة والإحصائيّة المتتابعة لواقع الحال في العالم العربي اليوم، مقارنة إيّاها مع التطوّرات التي تشهدها مناطق أخرى من العالم.
التقارير البحثيّة المذكورة نشرت في عدّة مطبوعات، كما تناولتها دراسات وتحليلات كثيرة تناولت المنطقة العربيّة مُحَاوِلة استشراف تحوّلاتها. أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون الأميركيّة، وباحث الإسلاميات المعروف، بيرنارد لويس، تناولها أخيراً في مقالة له بمجلّة فورين أفيرز (آذار\نيسان 2009) حول واقع العالم العربي في القرن الواحد والعشرين.
من المعطيات العربيّة الكثيرة والصادمة لتلك التقارير، يمكن التوقّف عند ثلاثة عناوين تتناول الوقائع الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة، أيّ مجمل الأطر الحياتيّة المؤثّرة في السياق الحضاري العام.
في العنوان الاقتصادي، وفي ما يخصّ جانب شديد التعبير منه يمسّ المشهد الاقتصادي برمّته، تراجع صافي الإنتاج المحلّي للأفراد، على مدى ربع قرن، في مختلف أنحاء العالم العربي. في عام 1999 وحده، بلغ صافي الإنتاج المحلّي المذكور في البلدان العربيّة كلّها مجتمعة نحو 531.2 بليون دولار، أي أقلّ من ذاك الذي لإسبانيا وحدها.
في الوقت الراهن فأنّ مجموع ما يصدّره العالم العربي، الذي يبلغ عدد سكانه نحو 300 مليون نسمة، من منتجات غير نفطيّة، يبقى قاصراً عن أن يوازي ما تصدّره فنلندا وحدها، هذه الأخيرة التي يبلغ عدد سكّانها خمسة ملايين نسمة فقط.
في الإطار عينه، وعلى مدى التسعينات من القرن الماضي، شهدت معدّلات التصدير العربيّة، القائمة أساساً على المواد النفطيّة التي تمثّل سبعين في المئة منها، نموّاً لم يتخطّ 1.5 في المئة، ما يشكّل قصوراً عن معدّلات النمو العالميّة في هذا المجال نسبته 6 في المئة.
العنوان الرئيس الثاني لتلك المعطيات تتعلّق بحال الثقافة والتعلّم في العالم العربي. ففي هذا المجال لم يبلغ عدد الكتب التي تترجم خلال العام في مختلف أنحاء العالم العربي، من لغات أجنبيّة إلى اللغة العربيّة ، أكثر من خمسة في المئة مما تترجمه اليونان وحدها. هذا ولا يتفوّق العالم العربي في مجال نشر الكتب وطباعتها سوى على دول شبه الصحراء الأفريقيّة.
أمّا في مجال العلوم فالحال يبدو أكثر تردّياً، حيث يمكن استشراف ذلك من شهادات براءة الاختراع المسجّلة في الولايات المتّحدة بين عام 1980 و2000. الشهادات المذكورة، على مدى تلك الفترة، ضمّت 171 شهادة من المملكة العربيّة السعوديّة، و77 شهادة من مصر، و52 شهادة من الكويت، و32 شهادة من الإمارات، و20 شهادة من سوريا، و15 شهادة من الأردن، وذلك مقارنة مع 16،328 شهادة من كوريا الجنوبيّة و7،652 شهادة من إسرائيل.
كما حازت الدول العربيّة معدّلات الأميّة الأعلى. وتضمّ المنطقة العربيّة العدد الأقل من العلماء التطبيقيين في العالم الذين ينشرون مقالاتهم ونتائج أبحاثهم دوريّاً.
في عام 2003، صدرت دراسة بحثيّة في الصين وُضعت بنتيجتها لائحة بأفضل خمس مئة جامعة في العالم. اللائحة المذكورة لم تضمّ جامعة واحدة من جامعات العالم العربي التي يبلغ تعدادها المئتين. على أثر الدراسة هذه بات جدول الجامعات الأفضل في العالم يصدر في كلّ عام في الصين، وهو، منذ عام 2003، ما زال خالياً من أيّة جامعة عربيّة، حتّى ولو قورنت هذه الأخيرة بالجامعات الآسيويّة وحدها.
العنوان الثالث في تلك التقارير الإحصائيّة، يتناول الوقائع الاجتماعيّة للمنطقة برمّتها. فمن أصل ستّ مناطق في العالم هي الأكثر سوءاً من ناحية الحريّات، نالت منطقتا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة الأخيرة، وذلك بحسب تقرير أصدرته منظّمة “فريدوم هاوس” العالميّة، غير الحكوميّة. بالتوازي مع الواقع المرتبط بالحريّات ذاك، وعلى مدى العالم الإسلامي بأسره، تُعدّ الظروف التي تحيا في ظلّها النساء، عاملاً جوهريّاً بالغ التأثير في الوقائع الاجتماعية في تلك المنطقة. إذ أنّ النساء في العالم العربي اللواتي تتجاوز أعدادهنّ نصف عدد السكان الإجمالي، لا يملكن أيّة سلطة سياسيّة فعليّة، كما يرى البعض أن وضعهنّ المذكور ليس سوى سبب رئيسي لمأزق التنمية الاجتماعيّة.
إلى النساء ومعدّلات التقدّم البالغة البطء والمحدودة الدوائر والأوساط التي يحققنها في العالم العربي، ثمّة قضيّة لا تقلّ أهميّة في انعكاساتها على الحال الاجتماعيّة، وهي قضيّة المهاجرين المقيمين في الدول العربيّة. هؤلاء الذين تجتذبهم المنطقة العربيّة للعمل، كون الأعمال التي يقومون بها لا تجدّ من يغطّيها محليّاً، باتوا يشكّلون شرائح متزايدة ممن يعيشون في الهوامش الاجتماعيّة وممن تُكبح مظاهر تأقلمهم الكامل. وقد أظهرت الدول العربيّة بذلك، دولة إثر أخرى، وهي جميعها دون استثناء لها مشاكلها المحجوبة والموغلة مع أقليّاتها الإثنيّة والدينيّة، أنّها تعاني من عطب بنيويّ أكيد وأصيل في جانب التسامح العرقي والديني، كما في بنيتها السياسيّة الناظمة للعلاقات المواطنيّة والحقوقيّة للأفراد المقيمين فيها. والأمر يجعل هذه الدول جميعاً تتأسّس على مبدأي الولاء المحلّي أو الطاعة، بدل القانون والمواطنيّة.
بحسب بيرنارد لويس فأن هذه التقارير، بمعطياتها المتدهورة في مجمل العناوين، تشي بتحلّل وبتفكّك جذريين يصيبان منظومة كاملة. غير أن التحلّل والتفكك اللذين يبدوان متّجهين للتسبب بشيء من التغيير قد يغدوان عاملين تثبيتيين، وذلك حين يقوم زعيم دولة من دول تلك المنظومة، تَواصل حكمه واستمر على مدى أربعة عقود، بإعلان أن إدارة دولته المذكورة وسياساتها الاقتصاديّة، أيّ حكومتها، قد باءت جميعها بالفشل، وأن حلّ ذلك هو في إنهاء “فكرة” الحكومة الفاشلة وحذفها من جذورها، هكذا لا أكثر ولا أقل.
ليس هذا الأمر فرضيّة أبداً. إنّه واقع موجود ومُعاش، وهو قريب وعربيّ وله تردّداته ونماذجه المحليّة أيضاً. ويكفي مراجعة تقرير نيويورك تايمز (20 آذار) من طرابلس الغرب الليبيّة، للوقوف عند تلك القدرة الهائلة للتحلّل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بالعالم العربي في تثبيت المنظومة السياسيّة الراسخة.
هناك في طرابلس الغرب، وفي إطار الشورى الشعبيّة المتجسّدة لجان وحلقات أهليّة، يناقش الشعب الليبي منذ أشهر فكرة التخلّي الكامل عن الحكومة. البديل المقترح هو توزيع عائدات النفط، إن وجدت، إلى مستحقّيها أو إلى الشعب مباشرة، وإسداء مهام التعليم والخدمات وغيرها إلى مؤسسات خاصّة.
إنّه حلّ واضح وحاسم، ويستلهم من يختاره الشعب ويبايعه وصيّاً على مصالحه ومعبّراً عن آماله. فذاك الأخير هو وحده ما لم يتحلّل أو يوهن.
المستقبل