رسائل إلى روائي شاب
ماريو فارغاس يوسا
أخيرا وصلنا بريد جديد ، بعد طول زمن منافسا بريد “ريلكه” صاحب “رسائل إلى شاعر شاب”، هذه الرسائل الجديدة هي من الروائي البيروفي
الكبير:”ماريو فاركاس يوسا ” الذي يختار هنا <<أن يكتب عن الرواية بطريقة مختلفة عما كتبه كل النقاد ، في تجربة فذة على شكل رسائل (وهمية إلى روائي شاب) يلتقط الزوايا الخفية في روايات نعرفها وأخرى لانعرفها. خسر “يوسا “كرسى الرئاسة في بلاده وكسب القراء في كل أنحاء العالم. بهذه الكلمات يختم “يوسا” <<رسائل إلى روائي شاب>>. وباعتبارها بريدا واصلا لتوه ، فمن واجب إكرام الرسالة قراءتها . وفي ما يلي أهم مضامين الرسائل الإثنتي عشرة :
الرسالة الأولى:قطع مكافئ للدودة الوحيدة .
يستهل رسالته بالتساؤل عن الخطوات الأولى لكتابة الرواية ، والقصص التي تبهر قارئيها مثلما فعل فوكنر ، وهمنغواي، ومالرو ، ودوس باسوس، وكامو،وسارتر . ثم يحدد الأسباب الأولى التي تمنع أي مبتدئ من مراسلة كبار الكتاب، منها الخجل ، والرادع التشاؤمي الذي يحبط ميولهم الأدبية في بلدان لايعنيها الأدب شيئا، ذلك الذي مفاده هوعدم تكرم أولئك بالرد عليه. وفي معرض حديثه عن الخطوات الأولى ، يشير إلى أن المراسلة هي المغامرة الأولى ضمن البدايات ،تم الميل الأدبي كنقطة انطلاق ضرورية والممارسة الفعلية للكتابة عن طريق الانضباط والمثابرة والاستعداد المبكر لتخيل شخصيات ومواقف وحوادث مختلفة وكل هذا الاستعداد مرتبط بالتمرد والقلق على العالم العادي ومن ثم نسخ حيوات متخيلة لعالم افتراضي بحماسة كيخوتية ، وخلق موقف راديكالي رافض ومواجه للسلطة أو المؤسسات أو المعتقدات السائدة . هدا القرار بالميل إلى الأدب يجب أن يتحول إلى عبودية يكرس فيها الكاتب نفسه كليا إلى المعبود ، ويشبه ذلك بالدودة التي تقبع في أحشائه وتتغذى عليه ، حتى تصبح حياته يعيشها لتلك الدودة/الكتابة الأدبية، تماما كما فعل توماس وولف معلم فوكنر و مؤلف روايتين طموحتين:
عن״ الزمن و النهر״ و״ الملاك الناظرإلينا״ حيث يقول : <<نفذت الدودة إلى قلبي، وربضت ملتفة ، تتغذى على دماغي ، على روحي ، على ذاكراتي ، وإن الدودة ستتغذى ، والضوء يشع ، وأنه لايمكن لأي تسلية أو طعام أو شراب أو رحلات متعة أو نساء أن تطفئه >>. أما النبوغ والموهبة فلا تولدان بشكل مبكر،وإنما عبر سياق طويل من الانضباط والمثابرة. وبختم رسالته ينصح بقراءة مراسلات فلوبير إلى عشيقته لويز كولي (1850-1854 ) ، حيث كتب “مدام بوفاري” .
و “المدمن” ،”للأمريكي وليام بوروز. تلك السيرة التي يروي فيها كيف حولته المخدرات إلى إنسان حر وعبد سعيد لإدمانه وهذا أشبه بالكتابة التي يدمن عليها.
الرسالة الثانية : الكاتوبليباس .
<<من أين تخرج القصص التي تقصها الروايات ؟ >> سؤال لطالما أرق “يوسا” ، ويجيب بأن
الموضوعات التي تخطر على الروائيين هي قضية متأصلة من ينبوع تجربة من يبتكرها ، أي الحياة المعيشة التي تسقي القصص المتخلية حيث أن الروائي أشبه بالكاتوبليباس الذي يتغذى على نفسه ،<< ذلك الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطوان في رواية فلوبير (إغواء القديس أنطوان)، والذي أعاد إبداعه بورخيس، فيما بعد، في مؤلفه <<المرجع في مملكة الحيوان>>، والكاتوبليباس هو مخلوق مستحيل يلتهم نفسه بنفسه، بادئا بقدميه>>. إن الروائي يبحث قي تجربته الحياتية عما يفدي قصصه وشخصياته وأحداثه، تماما مثل بروست الذي يعتبره كاتبا- كاتوبليباس حقيقيا، خاصة في ״البحث عن الزمن المفقود ״ الذي هو عصارة تتقاطر من ذاكرته الملأى بتحولاته الحيوية على مستوى أسرته، ومشهده، وصداقته، وعلاقاته ، وشهواته. ويسرد صاحب الرسائل أيضا الكثير من الأمثلة على هذه الظاهرة، خاصة لدى كتاب السير الذاتية، كبينتر وريستيف دي لابريتون صاحب “المونسنيور نيكولاس” وآخرين الذين صنفوا قوائم جرد مطولة لأمور عاشوها، وكائنات واقعية ، كمادة أولية، نفخوا فيها من خيالهم الواسع وعرضوها إلى تحولات كثيرة بحرية تامة كتعبير عن التمرد الواقعي من أجل عالم بديل . ويختم رسالته بالتعريف بالكاتب الحقيقي الأصيل الذي يتعمد اختلاق قوة الإقناع بالرغم من خيال الرواية الذي يبقي مجرد كذبة مفتعلة على الواقع .
الرسالة الثالثة : القدرة على الإقناع .
ويقدم لها مؤلفين كبيرين هما “موبي ديك”و”الكيخوتية” لكل من العملاقين ملفيل وثربا نتس، تروي الرواية الأولى قصة ذئب بحر مهووس بحوت أبيض، يلاحقه عبر كل بحار العالم، والكيخوتية تروي مغامرات ومحن فارس نصف مجنون، يحاول أن يكرر، في سهول المانشا، مآثر أبطال روايات الفروسية. ويتساءل لما قرأهما، كيف له أن يتعرف على العوالم الغنية والحاذقة الكامنة فيهما، وكيف عليه أن يفصل بين الموضوع والشكل فيهما، وأنى له ذلك؟، وهذا هو ناصية أصالتهما وأحقيتهما التي تبرز قوة الإقناع تلك التي لاتقاوم ، ويضرب مثالا على رواية” المسخ” لفرانز كافكا ،التي تحول غريغوري سامسا بحذافيره إلى صرصار، ذلك أن كافكا أستطاع صياغتها بقوة إقناع عن طريق بعض الكلمات، وبعض الصمت، وبعض الكشف، وبعض التفاصيل، وترتيب معين للمعلومات، وخط سردي يفرض نفسه على القارئ ، بتقديم قصة وهمية مستقلة عن العالم الواقعي ، ومكتفية بذاتها، بحيث تجعل القارئ يعيش الحدث ويتقاسمه، ويشبه الأمر بنظرية برتولد بريخت الشهيرة حول التغريب في المسرح، حيث يكسر الوهم على المنصة ويذكر المتفرج إنما ذلك كذبة ، استعراض وليست حياة . وتبقى قوة الإقناع في الرواية تضييقا للمسافة الفاصلة بين الوهم والواقع، ومحو الحدود بينهما.
الرسالة الرابعة : الأسلوب .
وفي هذه الرسالة يربط جودة الشكل الروائي بعنصر الأسلوب ، الذي يعتمد فيه على الانتقاء الدقيق لمفردات اللغة وصياغتها ، وترتيبها، مما يشكل عاملا حاسما في جعل القصص تمتلك قوة الإقناع، بالإضافة طبعا إلى عمق موضوع القصة، هذا الثنائي، سلامة اللغة وعمق الموضوع، يجب أن يكونا عملة موحدة من أجل تقديم عمل أفضل وأصيل ، ومثال ذلك، مونولوج مولي بلوم في نهاية “أوليسيس” لجيمس جويس، ويشير بالمقابل إلى أن هناك نوعان من الروائيين الجيدين، منهم ثربانتيس، وستاندال وديكنز، وغارسيا ماركيز…..الذين كتبوا بأسلوب فائق السلامة وفق القواعد النحوية والأسلوبية السائدة في عصرهم ، وآخرون أمثال بلزاك وجويس، وبيو باروخا وسيلين، وكورتاثر وليثا ماليما الذين خرقوا تلك القواعد وكان أسلوبهم مليء بالأخطاء ومع ذلك نجحوا في تقديم روايات عميقة وجيدة الموضوع؛ ويبرر ذلك بأن فعالية الكتابة الروائية لدى كل أولئك مرتبطة بخصيصتين، أولهما، تماسك الرواية الداخلي وثانيهما طابعهما كضرورة لازمة، أي أن الكلمات والشخصيات والأشياء والمواقف تشكل وحدة لاتنفصم، تحس معها أن الرواية لن تكتب إلا بهذه الطريقة كما هو الشأن لدى بورخيس وفوكنر واسحاق دينزين ذوي الأساليب المتباينة فيما بينهم بمعنى أن الأسلوب البورخيسى مثلا، وهو أحد أكثر الناثرين أصالة في اللغة الإسبانية، يتطابق ويتماسك مع الموضوعات التي يتناولها، كالأنظمة الفلسفية، والبيانات اللاهوتية، والأساطير والرموز الأدبية والتاريخ الكوني داخل بوثقة واحدة برؤية أدبية سامية .
الرسالة الخامسة : الراوي المكان .
وينتقل فيها إلى حصر وترتيب المواد التي تتألف منها الرواية وهي :
أ-الراوي، ب- المكان،
ج- الزمان، د- مستوى الواقع.
بداية يصحح مفهوم يطال حتى أكبر الروائيين ، وهو أن الروائي ليس هو المؤلف ذاته ، حين يكتب سيرته الذاتية ، إذ يبين أن الراوي كائن مصنوع من كلمات وليس من لحم وعظم وهو يعيش فقط في الرواية ، بخلاف المؤلف الذي يعيش حياة واقعية خارج مؤلفه الخيالي ، ثم يخلص بعدها إلى أنواع الراوي الثلاث وهم :راو– شخصية في القصة بضمير المتكلم أو راو –عليم بكل شيء خارجي بضمير الغائب ، أو راو ملتبس بضمير المخاطب ، لا يعرف عنه إذا ما كان يروي من داخل العالم المروي ، أو من خارجه ، ويبقى الراويات الأولان تقليديين ، أما الثالث فهو حديث العهد ، فقط صنعته الرواية الحديثة ،ويبرر كون ذلك الراوي الخارجي بضمير الغائب قي عدة روايات ، مثل “القلعة “لأنطوان دي سانت كروز أكزوبري ، أو “عناقيد الغضب”لجون شتاينبك ، أو بضمير المخاطب في “استعمال الزمن “لميشيل بوتور ، أو “ﺁورا” لكارلوس فوينتس …. إنه راو مختبئ مشكلا قفزات في الرؤية المكانية من الأنا إلى الهو خاصة في رواية فوكنر” بينما أرقد محتضرة “حيت هنا يكثر الرواة ، ويتبدلون من شخصية إلى أخرى ، بالرغم من بقاء الرؤية المكانية على حالها ، وقد تتغير في أعمال أخرى ، عند تربانتس وفلوبير وملفيا ،إن هذه النقلات المكانية للراوي أو الرواة تكون بطريقة عامة أو عبر سرد طويل بل تكون خاطفة وقصيرة ، تغطيها بضع كلمات ، انتقال من راو كلي إلى راو شخصية .
الرسالة السادسة : الزمن .
يتحدث هنا عن الزمن الواقعي وزمن التخييل ، ويعرض بدءا موجزا النظريات الزمن لمفكرين ومبدعين كثيرين، فالزمن زمنان، زمن متسلسل (كرونولوجي) موضوعي واقعي نعيش حياتيا، وأخر نفسي(سيكولوجي)يطول أو يقصر حسب الانفعالات بالحياة وحسب درجات الاستماع (لهو ، لذة …)أو الانتظار والتألم والعزلة .والرواية تنشأ من الزمن النفسي هذا كقصة “حادث على جسر نهر البومة “لأمبيروس بيريس حيث يتم الحادث في لحظات سريعة جدا ، إذ توضع أنشوطة الحبل حول عنق المحكوم عليه بالإعدام ، وذلك بتعليقه على جسر النهر ، وحوله جنود الحراسة ، ينقطع الحبل في لحظة ويقع المحكوم عليه في الماء سابحا إلى الضفة الأخرى وسط طلقات الرصاص….ومع سرعة الحدث، يتسارع الزمن على إيقاع نفسي سريع، حيت مر الحدث خاطفا، دون وعي لتفاصيله، وزمن الرواية خاضع لاحتمالات ثلاث بفضل الفعل النحوي :
تطابق زمن الراوي مع مايروى.
رواية الراوي انطلاقا من الماضي أحداثا تجري في المستقبل أو الحاضر.
تموضع الراوي بين الحاضر والمستقبل ليروي أحداثا ماضوية قريبة أوبعيدة ، ويدرج مثالا طريفا لأقصر وأروع قصة قصيرة، للغواتيمالي أوغوستو مونتيروس، وهي “الديناصور” التي تتألف من جملة واحدة <<عندما استيقظ كان الديناصور لايزال هناك >>، هنا مايروى حدث في الماضي ، المطلق البعيد “استيقظ”والراوي متموضع ببن المستقبل والماضي ،أي زمن المستقبل: زمن الراوي، زمن ماضي بعيد: هو زمن مايروى(استيقظ#لايزال هناك). ويسترسل أيضا في تشريح هذه الظاهرة بحديثه على أن هناك أكثر من زمن في الرواية ، أزمنة متعايشة ، كرواية غونترغراس (طبل الصفيح)، ورواية سيمون بوفوار(جميع الرجال فانون)، وبورخيس في ( آلة الزمن ) ، وأدولفو بيوي كاساريس في ( الحبكة السماوية ) ، ويختم رسالته بأن هناك أزمنة ميتة ، تنقل لنا معلومات وتعليقات من قبيل الحشوة ، حيث تحدد الأزمنة الحية والأزمنة الميتة شكل الزمن الراوي أي النظام التسلسلي الكرونولوجي .
الرسالة السابعة :مستوى الواقع
وتبدأ بعرض مستويين قد يكونان متطابقين أو مختلفين، وهما اللذان يشكلان العلاقة التي تحدد التخيلات الروائية المختلفة. إنهما مستوى الراوي ومستوى المروي ، ويبق هذا المستوى الواقعي خاضعا للتسلسل الزمني، حاضر وماض ومستقبل ،هاهنا يتفرع الواقع إلى مستويات لاحصر لها، ولكن المؤلف يختار المستويين السابقين فقط ، ويجعلهما على مستوى عالم “واقعي”، ومستوى عالم “فنتازي” (سحري،إعجازي، خرافي، أسطوري….) وهنا يمكن الاختلاف من الناحية الأخرى بين الراوي والمروي، ويمثل لذلك بالقصة السابقة أي “الديناصور”، حيث لايمكن لحيوانات ماقبل التاريخ أن تحضر إلى واقعنا الآني الملموس .وهنا يصبح مستوى الواقع في مايروى فنتازيا متخيلا يتناقض المستوى الواقعي للراوي الذي هو الإنسان ، حيت يحول الراوي المتموضع في عالم موضوعي ديناصوري خيالي إلى واقع ملموس (الديناصور لايزال هناك)، شأن هذه التقنية حاضر لدى الكثيرين من كتاب الأدب الفنتازي كبورخيس، وكورتاتر، وكالفينو، ورولفو، وبييردي ماندبارغ، وكافكا، وغارسيا ماركيز….. وبالمقابل يبقى أيضا مستوى الواقع الحقيقي ينزع إلى مستويات متباينة وعوالم موضوعية ( عالم أشياء، وقائع، أشخاص) لدى همنجواي، وعوالم ذاتية ( عالم دواخل الإنسان من انفعالات، وأحاسيس، وأحلام….) لدى فوكنر، وفرجينيا وولف، وغرا هام غرين، ويشير على سبيل النقد أن “ﺁلان روب غرييه״ في روايته”،” الغيرة” التي هزت الأدب الفرنسي في الستينات ضمن حركة الرواية الجديدة، حيث حاول صاحبها في كتابه “من أ جل الرواية الجديدة “=pour un nouveau roman ، تخليص الرواية من التحليل السيكولوجي والذاتية والجوانية مركزا على السطحية والفيزيقية لهذا العالم الشيئي بكل أشيائه الحقيقية البادية ، ومعتمدا على النظرة الحسية الموضوعية لراو مجهول وغير مرئي حيث يبقى قريبا من المستوى الواقعي الفعلي دون أن يستقر فيه بالكامل راسما مسافات تكاد تضيق .
الرسالة الثامنة : النقلات والقفزات النوعية .
مرورا بالرؤى الثلاث التي أشار إليها سابقا ،يذكر إلى أنها تمر بنقلات تمكن الكاتب من ترتيب قصته ، أي أن هناك نقلات مكانية،أوزمانية ، أو في مستوى الواقع ، خاصة في رواية القرن العشرين ، ليس تبعا لتعدد الرواة وتحركهم في المكان وتحول ضمير الرواية من هو إلى أنا أو العكس كما هو الشأن في ” بينما أرقد محتضرة ” لفوكنر ، أو أوليسيس لجويس ، هذه النقلات المكانية والزمانية تؤثر سلبا أو إيجابا في قدرة الرواية على الإقناع حسب فعاليتها أو عدمها ، حيت تظهر نظامية النتيجة أو فوضاها ، أما القفزة الزمنية من المستوى الواقع إلى مستوى الفنتازيا ، تحدث عادة بالانتقال من الحاضر إلى المستقبل ، كما يحدث في ” ذئب البوادي “لهيرمان هيسه ، عندما تظهر للراوي-الشخصية الأرواح الخالدة لمبدعي الماضي الكبار ، حيث تغذو النقل أكثر تخييلية . وهذا النوع من القفزات التي تحول السرد الكامل في الرواية من المستوى الواقعي إلى المستوى الفنتازي هي قفزة نوعية ، استعارها من الديالكتيك الهيجلي ، القائل بأن التراكم الكمي يؤدي إلى قفزة نوعية ( عندما يغلي الماء كليا يتحول بخار ويتحول إلى ثلج عند تبريده ) ، تماما كما حدث للمسكين غريغوري سامسا حين تحول إلى صرصار مريع ، في رواية ” المسخ ” لكافكا، إنه التحول الفنتازي منذ الجملة الأولى في الرواية ، وبعد أمثلة كثيرة من الروايات ، يختم رسالته بأن نظرية الأدب الفنتازي طورها ناقد وباحت بلجيكي – فرنسي كبير هو روجيه كايوا “Roger Caillois ” في مقدمة لكتاب ” انطولوجيا الأدب الفنتازي ” ” Anthologie de Fantastique ” يؤكد أن الأدب الفنتازي الحقيقي هو مايحدث تلقائيا دون سابق تأمل ، أو حتى دون أن يلحظ المؤلف نفسه ذلك التحول العجيب .
الرسالة التاسعة : العلبة الصينية .
من وسائل الإقناع التي يستفيد منها الرواة ” العلبة الصينية ” أو ” الدمية الروسية ( ماتريوشكا ) ، تلك اللعبة الفلكلورية التي تتضمن أشكالا مماثلة لها وأصغر منها حجما ، في متوالية تمتد أحيانا إلى ماهو متناه في الصغر، وهذا مايحدث في الرواية ، إذ تتولد عن القصة الرئيسية قصص فرعية ، لتشكل كل تلك العناصر تحالفا وتكاملا ذا مفعول مختلط خاصة في رائعة الروائع “ألف ليلة وليلة ” ،لقد أصبح بناء العلب الصينية لمجمل الحكايات العربية الشهيرة حيث ترجمت متعة أوربا وبهجتها ، أنه بناء ميكانيكي في نواح كثيرة، يعتمد على دمج قصص ضمن قصص من خلال نقلات الراوي الزمانية والمكانية وفي مستوى الواقع ، تماما كما يحدث في العلب الصينية الميكانيكية ويحدث أيضا هذا التوليد للقصص في ” الكيخوتية ” حين تتداخل القصة – الأم بالقصص البنات ، خاصة في حكاية ” الراعية تورالبا ” ، أوقد تكون مجرد كولاج أكثر مما هو علبة صينية كما في قصص ” الفضولي السفيه ” في نفس رواية ” الكيخوتية ” ، فتقنية العلبة الصينية تعتمد على الانتقال من إحدى المواقع الكبرى (قصة –أم ) إلى وقائع صغرى ( قصة – إبنة ) وهو نقلات متزامنة في المكان والزمان ومستوى الواقع ، وخير مثال ثان هو رواية ” الحياة القصيرة ” لخوان كارلوس أونيتي ، وتبقى التفاصيل والحكايات المضروبة كمثال وارد على متن هذه الرسالة .
الرسالة العاشرة : المعلومة المخبأة
ويشير فيها إلى أن أرنيست همنجواي في بدايته الأدبية قد حذف واقعة رئيسية (شنق بطلها لنفسه ) ، حين أكتشف أنه أكثر من هذه الوسيلة في قصصه وروايته التالية ، باعتبارها تقنية قديمة قدم الرواية ، والواقع أن قصصه تتضمن مواقف صمت ذات مغزى ومعلومات مخبأة بقدرة راو ماكر – يملأ الفجوات بفرضيات وتخمينات انطلاقا من تجاربه الحياتية ، وقد استخدم هذه المعلومة المخبأة بجرأة في أشهر رواياته ” العجوز والبحر” ، وفي قصته البارعة ” القتلة ” التي يبين فيها مجرمين قرروا قتل السويدي ” أول اندرسون ” ، فيخبره الشاب ” نك أدامز” بذلك ، وهنا تتعلق المعلومة المخبأة ، لماذا لم يفكر في الهرب أو إبلاغ الشرطة ، ولماذا أستسلم لمصيره ؟ هنا يترك الراوي القارئ يبحث عن الجواب والسبب ، وذلك انطلاقا مما يرويه الراوي من معلومات ضئيلة ، وعبر طول السرد نكتشف أن السويدي كان ملاكما في شيكاغو ، وأنه فعل شيئا ما دفعه للاستسلام لمصيره . هنا بالذات يضع القارئ فرضيات من صمت الراوي ، التلميحي . وعلى سبيل التوسيع في شرح هذه التقنية ، يذكر روايات أخرى كرواية ” وماتزال الشمس تشرق” ” لهمنجواي ، و ” الغيرة ” لروب غرييه ، و ” الملاذ ” لفوكنر، و ” تيرانت لوبلانك” لجوانوت مارتوريل ( العصور الوسطى على بعد خمسمائة سنة )
ويختم بإبراز أهمية إخفاء المعلومات لإبراز الشكل الجميل والمقنع والمشوق للرواية ، فقط لإشراك القارئ في لعبة الحكي والتمتع بها .
الرسالة الحادية عشرة : الأواني المستطرقة .
يستدل ويشبه بالأواني المستطرقة تلك الأحداث المتشابكة والمترابطة في نظام واحد ، يجري بينها تفاعل ، مثلما يحدث في أثناء ” العرض الزراعي ” أي الفصل الثامن من القسم الثاني لرواية ” مدام بوفاري ” لڭوستاف فلوبير ، وفي هذا المجال يبدو نظام ترتيب المادة السردية في أوان مستطرقة جيدة التوظيف ، وأشد فاعلية ، فهنا يقيم المزارعون احتفالاتهم ويعرضون حيواناتهم ومنتجاتهم حيث يلقي المسؤلون الخطب ويقدمون الأوسمة ، بينما في جهة أخرى من الطابق العلوي في دار البلدية وفي قاعة الاجتماعات تستمع وتتبادل ” إيما بوفاري ” كلمات الحب الملتهبة من فم عاشقها ” ردولف “؛ بين هاذين الخطابين السياسى والخطاب الرومانسي وفي الأعلى ، يحاول الراوي المزج بين واقعين يجريان في زمن واحد ومكانين شبه مختلفين ، ويسعى إلى إحداث تعديل متبادل وتواصل تجاوري ، بين الحدثين مثل تجاور الأواني وتناسقها في فضاء معين هذه هي تقنية الأواني المستطرقة والتي يتوسع في شرحها عبر روايات أخرى مثل ” النخيل المتوحش” ” the wild palms” لوليم فوكنر الذي يحاول خلق قرابة تجاور بين قصتين مختلفتين ( قصة حب مأساوية ) و ( قصة سجين فر من السجن بعد كارثة فيضان ثم عاد بمحض أرادته ليحكم عليه بإضافة سنوات بتهمة الهرب ) أو في ” لعبة الحجلة لخوليو كورثاثر التي تبدو أحداث قصتيها في مكانين مختلفين باريس ( من ذلك الجانب ) وبوينيس إريس (من هذا الجانب ) حيث الفصول الباريسية تسبق نظيرتها البوينيس إريسية إنها كولاج مع الفصول الواقعية في إيطار عملية الأواني المستطرقة
الرسالة الثانية عشرة : على سبيل الوداع .
وعلى سبيل الختم، يقر ماريو فارغاس يوسا على أنه قدم لهذه الوسائل ، كالتقنية ، والشكل ، والخطاب ، والنص ، والراوي ، والأسلوب … على أساس وصفها وليس تشريحها نقديا باعتباره مبدعا وقارئا وليس ناقدا ، كما أنه يشيد بالنقد ، ذلك المرشد العظيم القيمة في النفاذ إلى عالم المؤلف وأساليبه ، وقد يكون النقد أيضا عملا إبداعيا مثل أي عمل أدبي مستدلا بكتب قيمة من قبيل:״ دراسات ومقالا ت غونغورية ״ لدامو ألونسو و״إلى محطة فنلندا״لإدموند ويلسون ، ״وبور رويال״ لسانت بوف، و״الطريق الى زا نادو״ لجون لفينغستون لو يس. هذه الأنماط الأربعة من النقد تعتبر بحق شديدة الاختلاف فوالقيمة والتشويق والإبداع أيضا. ومن جهة أخرى يوضح أن النقد أحيانا برغم صرامته قد لا يفلح في النيل من بعض الأعمال الإبداعية والنفاد إليها دالك أن النقد يصدر اكثر ما يصدر عن العقل والذكاء بينما الإبداع ينبع عن الحدس والحساسية والتخمين وحتى المصادفة التي تفلت أحيانا من شباك الناقد.
هكذا يختم المؤلف رسائله بكلماته الأخيرة :<< صديقي العزيز إنني أحاول أن أقول لك أن تنسى كل ما قرأته في رسائلي حول الشكل الروائي وان تبدأ دفعة واحدة بكتابة الروايات. حظا سعيدا. ليما 10ايار 1977 >> .
وحتى نختم بدورنا . لابد من الذكر على أن هذا البريد قد أصاب وأبلى البلاء الحسن ، بالرغم من كونها ، أي الرسائل ، مجرد اعترافات لروائي حرفي وليس ناقدا محترفا ،وكل الوسائل والتقنيات هي محض تسطير فردي منه ، خاصة إذا ما استثنينا منها ما تواضع عليه النقاد والروائيون ، غير أنها محاولة باهظة الثمن ، تنير للناشئة طريق الرواية ، وبالمقابل حبذا لو تفضل بعض روائيينا العرب بالقيام بمثل هذه الاعترافات الأكثر خصوصية وحميمية للشكل الأدبي ، خاصة الروائي العربي منه ، حتى نتعرف عن كثب كيف يؤثث المبدع العربي نصه انطلاقا من البيئة العربية ، وتجلو لنا تلك الثنائية العصية اللصيقة بإبداعنا المحلي في منظوريه التبعي أو الذاتي .
ولقيمة هذا الكتاب، لابد أن نشير إلى أنه صدر في قطع متوسط من 131 صفحة، عن دار المدى، بترجمة موفقة من لدن״ صالح علماني״، سنة 2005 ، تحت عنوان أصلي
:cartas a un joven nove lista. .
سعيد السوقايلي
المغرب