صفحات ثقافية

بين ثقافتي المشاكسة والمداهنة

null
مها حسن
يتطلّب نقد المشهد الثقافيّ جرأة وأخلاقية في وقت واحد. ففي الوقت الذي قد يسهل فيه على أحدنا نقد رموز الثقافة الظلامية، وتشريح مظاهر التخلف، والتعرض للثقافة الأصولية، المتخلفة، فإنه يصعب على أحدنا هذا، وفي أغلب الأحيان، نقد الثقافة الحديثة، ورموزها، التي بدأت ثورية، إلا أنها، وبعد أن اطمأنّت إلى مكانتها، تمسّكت بها فتحوّلت إلى ثقافة أبوية جديدة.
مع أني أقرّ، قبل الشروع بمادتي، بـ جبني أمام الأصدقاء، و”عنتريتي ” أمام الأعداء، إذ يسهل عليّ التصدّي للرموز الدينية أو الأصولية، الرجعية، ولكني أتحاشى نقد المقرّبين، لا من باب التملّق، بل من باب عدم كسب المزيد من الأعداء.
سأقرّ أيضا، بأن المنابر المفتوحة لحالات نقدية مثل هذه، ليست متاحة للكتاب غير المشهورين، أو المكرّسين كأصنام ورموز أبوية، بل وتابوات يصعب نقدها أو الخروج عليها. ففي ثقافة الموضة التي نحياها، وانتشار قانون السوق في العرض والطلب، لن يشجّع أيّ منبر، نشر مادّة تتعرّض لهذه الأسماء، التي صار لها وجاهتها وسلطتها الموازية للسلطات العسكرية والسياسية، إذ لا يريد صاحب أيّ منبر ثقافيّ، خسارة صداقة هذا الاسم وقرائه معا. وقد أجاب صموئيل شمعون، الذي يدير موقعا أدبيا على الانترنت بجسارة نادرة على اتهام وجّه له، بأنّه لا ينشر مقالات ضدّ أصحابه:«هذا لأنّي جبان، الحياة الثقافية العربية مليئة بالأمراض، لو نشرت شيئاً كهذا سيكون لديّ أعداء كثيرون، وأنا في غنى عن ذلك “. وأنا أورد هذا المثال هنا، فقط للتدليل على امتناع المنابر الثقافية من نشر انتقادات توجّه لأسماء راسخة ومفروضة في الواقع الثقافي، وعن صعوبة توجيه النقد إلى الكثير من هذه الأسماء، حتى لا يدخل أحدنا في المزيد من العداوات والمقاطعات، وبالتأكيد أنا لا أنوي محاكمة السيد شمعون، بل أحترم جسارته في الاعتراف بعدم قدرته على ” نشر ” الأمراض الثقافية، وكسب الأعداء.
وكي لا أتحدّث في العموم، فيبدو كلامي بمثابة هرطقة، سوف أطرح مثالا يشرح الحالة التي دفعتني إلى تشجيع الكتابة المشاكسة، كتابة لا تتوقّف عند نقد المتّفق على ضرورة نقده، بل على نقد المماثل أو الحليف الثقافي، أي فعلا تحرير الكاتب من ” المداهنة “، حتى مع أقرب المقرّبين، لكشف ظواهر الفساد الثقافي. فإن كان الهدف الأسمى للثقافة، أو أحد أهدافها التي يفترض أن تكون جميعها سامية، هو نقد السائد للإتيان بالمغاير، وفقا للمبدأ الديكارتي بأن “لا شيء خارج النقد”، فإنه حريّ بنا أن نبدأ بالأقربين، لا لكونهم أولى بالمعروف، كما تفترض أيضا أخلاقيات المداهنة، بل لأنهم ليسوا أبدا خارج النقد.
والفساد الثقافي الذي أعنيه هنا، ليس الفساد الذي تنتجه السلطات السياسية، أو المؤسسات النفطية، بل أيضا فساد الجهات التي تتعرّض لهذه الثقافات، والتي وجدت أساسا للردّ على هذه السلطات والمؤسسات، ونقدها. كأن نجد مثلا، أنّ أعضاء منظمة العفو الدولية المطالبين بالدفاع عن حقوق السجناء السياسيين، يسجنون أحدا ما. أو أنّ أعضاء مؤسسات الدفاع عن حريات الصحافة، يعتقلون صحفيا ما… أي حين تتحوّل الأسماء المفترض بها نبش القديم وتقديم صورة جديدة ونظيفة وأخلاقية للمشهد الثقافي، فتقوم بالتزوير والتملق والإدعاءات ….
لذلك فإني سأطرح الناشر رياض الريس نموذجا، للخوض في ثقافة المغايرة والمشاكسة، والخروج على الصنمية والتصنيم، للخضوع لأسماء أصبحت تابواتها أكثر صلابة من التابوات السياسية أو الدينية. وسبب توقّفي أمام الريس كنموذج أنه بدأ المعركة وحده، مدركا للعزلة التي سيتعرض لها، من حيث الشللية والتعصب، فنحن لا نقبل أن ينتقدنا أحد، ولا أن يُنتقد أصدقاؤنا.
ففي موقف مفاجئ هزّ المشهد الثقافيّ، كما أظنّ، أو المهتمين بتفاصيله على الأقلّ قدّم رياض الريس استقالته ” النهائية ” من مجلس أمناء جائزة بوكر للرواية العربية، محددا أسباب تلك الاستقالة، بثلاث كلمات مهمّة، تلخّص وتختصر المشهد الثقافي القائم “الشللية، الطائفية، المحاباة”.
لا أعرف إن كان ما أتى به الريس من شروح قد كان معروفا للبعض، حيث تتم الثرثرة في الأروقة، وخلف الأبواب، ولكن الريس لم يفعل هذا، بل رفع صوته وجهر بما عرف وخبر أمام الملإ.
وأنا شخصيا صدمت ممّا أخبر به الريس الصحافة، لأنّ بوكر، وفي نسختها العربية الطازجة، وفي دورتها الثانية فقط، تمثل بعض حالات الأمل لكثير من الروائيين. ولكن أن نسمع عن هذه القصص، فهو شيء صادم ومخيّب للآمال.. وكأنّ قدر هذه الأمّة أن تخضع دوما لعقلية ” القبيلة “، ولا تستطيع الارتقاء إلى الثقافة المدنية، التي لا تأخذ الاعتبارات الشخصية بالحسبان في تناول المنتج الثقافي .
وفي غمرة خلافات وسجالات لاحقة، وإثر ظهور ديوان محمود درويش الأخير، الصادر بعد رحيله، (لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي).. تعرّض الريس إلى أسماء، بمثابة تابوات، في الثقافة العربية، ليقول عبارة لم يسبق استعمالها في توصيف شخص ” بقامة ” إلياس خوري: ” يتسلّق على تركة درويش” .
أنا لا أنوي هنا أبدا الحكم على مصداقية أحد، فلستُ مع بوكر ولا ضدّها، كما أني لا أعرف حقيقة ديوان درويش، ولكني بالتأكيد ضدّ أن ينفرد أيّ كائن في العالم، بنتاج شخص بعد رحيله. ولن أضيف، إن كان هذا الشخص بمقام درويش. لأنه سواء أكانت الحال، أم لا، كان لا بدّ من تشكيل لجنة تضمّ أكثر من شخص، إضافة لحقّ الناشر في الحصول على النسخة الأصلية. ولكني لا أخفي بهجتي بتكسير الأصنام التي تنتج ذاتها، وتحدّد طرق وأشكال انخراطنا في المشهد الثقافي، كمنتجين ومتلقين، لتحدد معايير نجاحنا أو فشلنا، استمرارنا أو انسحابنا.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى