عامان على إعلان دمشق: المعارضة السورية وأحوالها
أكرم البني
عل رغم أن المعارضة السورية لا تزال توصف بالضعيفة والمترددة ولا يزال دورها وفاعليتها محدودين، وبرغم من أن الضغط الأمني يزداد إطباقاً عليها ويقضم يوماً بعد يوم ما تبقى من الهامش الضيق المتاح لحضورها ونشاطها، وبرغم من أن النظام نجح في خنق الحصة الإعلامية التي كانت تطل منها بعض الشخصيات المعارضة لتعرف عن نفسها وحقيقة مواقفها، وبرغم من أن ما يجري في العراق ولبنان وفلسطين قد أربك عملها وهشم إلى حد كبير الشرط الموضوعي المساعد لها في ظل تنامي قلق الناس وخوفهم من التغيير ومردوده، برغم من كل ما سبق لا يجوز التغافل عن الجوانب الايجابية التي حققتها المعارضة السورية خلال عامين من توحدها تحت مظلة إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي.
والميل للإشادة بالمعارضة السورية ليس من باب المبالغة والمديح المجاني أو لإحلال الرغبات مكان الوقائع، بل لرصد وجوه من التطور تحققت فعلاً على الأرض ربما لا يشعر بها من يشمئز أو ينفر من بطء التراكمات، أو من تهمه النتائج فقط ولا يعير انتباهاً لطبيعة البذار المنثورة، وأيضاً رداً على التطاول واستسهال توجيه السهام ضد العمل المعارض وأساساً، لأن القوى المنضوية في إطار إعلان دمشق تستحق فعلاً هذه الإشادة في ضوء الشروط الصعبة التي تعمل بها، مثلما تستحق الثقة بدور رئيس ينتظرها في عملية التحول الديموقراطي بالصورة الآمنة التي يريدها مجتمعنا.
أولاً، نجحت قوى المعارضة في التقدم خطوات واسعة نحو إيمانها بالخيار الديموقراطي المشترك، كخيار نهائي لا رجعة عنه وكمخرج وحيد من الأزمة الراهنة والمركبة التي تعانيها البلاد، خاصة بعد أن أجمعت رفض أي تغيير يحمل من الخارج وحسمت أولوية الاستحقاق الديموقراطي لمعالجة المسألة الوطنية ومواجهة التحديات والمخاطر الخارجية. ومن عاش أجواء الحوارات التي جرت بين أطراف إعلان دمشق بعيد إصداره ويعيشها اليوم يمكنه أن يكتشف ببساطة مدى انحسار الحسابات الأيديولوجية والمواقف الحزبية الخاصة لصالح الهمّ الديموقراطي العام، وكيف تبدو الأطراف المختلفة أكثر شجاعة في تقبل الرأي الآخر وأكثر قدرة على تأجيل حسم خلافاتها ما دام إيمانها أصبح أرسخ بأولوية الانتصار لمناخ الديموقراطية، بصفته المناخ الأكثر صحة وجدوى لإدارة صراعاتها والذي به يمكنها أن تحتكم إلى الناس لتقرير نتائج المواقف والاختلافات. الأمر الذي ساهم من جانب آخر في تطوير الروح التوافقية بين أطراف متباينة المصالح والاجتهادات الفكرية والسياسية وعزز حضور حالة من التفهم المتبادل لقضايا خلافية اقتصادية أو سياسية شكلت في ما مضى عائقاً أمام التواصل والتعاون المشترك، كمسألة الاقتصاد الحر أو المسألة القومية أو الدين وغيرها.
ثانياً، نجح إعلان دمشق، وتأثراً بما يجري في العراق، في طمأنة الشارع السوري بأن القوى والفعاليات المعارضة على اختلاف فئاتها ومذاهبها وطوائفها وقومياتها ومشاربها الإيديولوجية قادرة على التوافق وعلى احترام تنوعها والاحتكام لقواعد الصراع السلمي وأنه يمكن الوثوق بها لتجنيب البلاد الاحتمالات الأسوأ كالصراع الأهلي والتفكك. وما عزز هذا المسار بدء قوى الإعلان إلى جانب همها السياسي الديموقراطي في بناء شبكة أمان وطنية تطاول كل مكونات المجتمع، تبدأ بمعالجة ثغرات التمثيل التي اعتورت لحظة التأسيس عبر الانفتاح على قوى وشخصيات غدا من الضروري والملح مشاركتها، فضلاً عن تنمية روح التشارك والتعاضد والاستعداد لنبذ الفكر الاقصائي والوصائي، وفي المقابل نشر ثقافة تعترف ليس فقط بكل تكوينات المجتمع وإنما أيضاً بتفاوت مصالحها وهمومها، وتجد الخلاص في مفهوم دولة المواطنة الديموقراطية الحاضنة لبشر متساويين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم ومواقفهم.
ثالثاً، تبلور رؤية صريحة لإعلان دمشق تعتبر النظام قد عجز عن تنفيذ وعوده الإصلاحية ولم يعد هناك متسع من الوقت لمزيد من الانتظار ومنح الفرص، ما انعكس نجاحاً في فك الارتباط بين مشروع التغيير الديموقراطي وبين مشروع السلطة الذي نظم لسنوات نشاطات المعارضة، لتغدو كأنها المرة الأولى التي يتجه فيها الطيف المعارض بوضوح قاطع إلى الشعب وقواه الحية بصفته حاضنة التغيير وأداته ورافعته. وطبعاً ما كانت القوى المعارضة لتجمع على هذا التوجه لولا سنوات من الممانعة والركود وأيضاً التراجع إلى الوراء، ولو ما أفضت الوقائع إلى تظهير صحة الرأي الذي حذر منذ البداية من الرهان على دور أساس للسلطة في عملية التغيير وذهب إلى القول بأن النظام عاجز عن الإصلاح وأن ممانعته وتحجره لا علاقة لها بإرباكات وصعوبات موضوعية أو باجتهاد حول أولوية الإصلاح الاقتصادي وأسبقيته على الإصلاح السياسي بل ناجمة عن تبلور قوى تتعارض مصالحها وامتيازاتها مع أية خطوة جدية صوب الإصلاح الديموقراطي.
لقد دأبت القوى المعارضة طوال تاريخها على مخاطبة النظام السوري بالعرائض والرسائل كي يقوم بخطوات الإصلاح السياسي ويوسع هوامش الحركة والحرية، لكن سنوات من الوعود الزائفة ومن الممانعة والمماطلة، ثم ما شهده المجتمع مؤخراً من عودة إلى الوراء إلى الوسائل والطرائق الأمنية والاعتقالات والتضييق المستمر على النشاطات المدنية والسياسية حسم موقف المترددين وشجع الكثيرين على نفض اليد وإسقاط الرهان على انتظار مبادرة النظام أو دوره في عملية التغيير.
أخيراً، يصح القول أن إعلان دمشق يغدو يوماً بعد يوم، وبغض النظر عن حدود الدور الذي يلعبه راهناً، علامة بارزة في الحراك السياسي السوري المعارض لا يمكن لأي كان أن يتجاهلها أو يقفز من فوقها، أو لنقل بات أشبه بمظلة عامة تنضوي تحتها مختلف الأطراف الراغبة في الإصلاح لتوحيد هدفها وإيقاع ممارستها، والأهم أنه حفز روح المشاركة لإنقاذ البلاد مما ينتظرها وللسير خطوات واضحة في طريق التغيير الديموقراطي المنشود.