عندما تتماهى الدولة مع السلطة
فؤاد مرعي
لا شك في أن هناك فرقاً ما بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة. إلا ان هذا الفرق لا يعني أن العلاقة القائمة بين الطرفين تملك مناعة خاصة ضد الازدواجية. فالسلطة السياسية التي تقود الدولة في فترة زمنية محددة (في الأنظمة الديموقراطية) او في فترة زمنية غير محددة (في الأنظمة الديكتاتورية)، بإمكانها أن تستبيح مؤسسات الدولة كلما ارتفع منسوب الفساد في تلك الدولة.
في الأنظمة الاستبدادية لا توجد حدود مرسومة بين السلطات المختلفة. فكل السلطات محصورة في مكان واحد. ولا صلاحيات للسلطة التشريعية او التنفيذية او القضائية فيما يتعلق بالقضايا الكبرى او الهامة. لذا يصبح الحديث عن فصل السلطات في هذه الحالة لا معنى له.
أما في الأنظمة الديموقراطية «الهجينة» كالنظام اللبناني فالمسألة تبدو أكثر تعقيداً. هنا تُصادر الطبقة السياسية ـ الطائفية العليا كل المواقع في السلطات الثلاث بحيث تمحو الحدود القائمة فيما بينها من جهة، والحدود القائمة بين السلطة السياسية ومؤسسات الدولة الأخرى (الإدارات العامة والأجهزة الأمنية) من جهة ثانية. يحصل تماهٍ كلي بين الدولة والسلطة. لكن هذا لا يحجب حقيقة ان السلطة هي التي تدير الدولة الى حيث تريد وكيفما تشاء. إن النظام الذي يُتيح للطبقة السياسية (الطائفية) إعادة إنتاج نفسها كل بضعة أعوام هو نظام مقفل يؤدي مفاعيل النظام الاستبدادي. وهو لا يختلف عن نظام الاستبداد العربي إلا بتعدد الرؤوس بدلاً من اقتصار الأمر على رأس واحد كبير. هذا في العلاقة ما بين مكوّنات السلطة والدولة في المواقع العُليا. فماذا عن علاقة «المالكين الحصريين» لتلك المواقع بالمواطنين العاديين؟ وماذا عن علاقة هؤلاء بمؤسسات الدولة الشرعية؟
لقد قيل الكثير عن نظام المحاصصة وتوزيع المغانم والأرباح بين أطراف سياسية متنافسة. وهو نظام يسري على كل مستويات الإدارة والحكم وكل قطاعات الإنتاج الحكومي. بالإضافة إلى كل ما له علاقة بالإغاثة وإعادة الإعمار والتعويضات والمشاريع الخدماتية. وعلى الرغم من الضرر الكبير الذي أصاب خزينة الدولة اللبنانية نتيجة هذه السياسة الزبائنية التي تتعارض مع منطق التشريع وفصل السلطات والشفافية والرقابة المالية، فإن الضرر الأكبر قد وقع على علاقة المواطن بالدولة بما هي مؤسسات عامة مسؤولة عن تطبيق القانون وتأمين احتياجات المواطنين بمعزل عن اتجاهات السلطة السياسية الحاكمة. هذه العلاقة تحولت الى علاقة صراعية عدائية. فالمواطن الذي يرى الدولة مستباحة من قبل الطبقة السياسية ـ الطائفية التي تتفنن في ابتكار أساليب النهب الشرعي وغير الشرعي، يشعر بالظلم واللا عدالة والكراهية تجاه دولته الشرعية. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فالدولة التي تتخلى عن واجباتها الأساسية تجاه مواطنيها تطالبهم بأن يفعلوا ما لا تفعله هي تجاههم. ينقسم المجتـمع اللبناني حيال تشخيص هذه الظاهرة. فهناك من يؤيد موقف السلطة الداعي الى إلقاء اللوم على المواطنين الذين يتهربون من تسديد ما عليهم لمؤسسات الدولة ولا يُظهرون حماسة في الدفاع عن ممتلكاتها وحقوقها. وهناك من يلقي باللائمة على الإدارات العاجزة عن القيام بأبسط واجباتها حيال مواطنيها. فئة قليلة تلقي باللائمة على الطبقة السياسية مجتمعة. وفي أحسن الأحوال يتبادل أطراف هذه الطبقة الشتائم والاتهامات. إن مقارنة بسيطة مع مؤسسات أي دولة أجنبية كفرنسا او بريطانيا او غيرهما من الدول بإمكانها ان تكشف الكثير مما هو محجوب في الصورة اللبنانية. فأجهزة الرقابة المالية في تلك الدول ـ كجزء من مصلحة الضرائب ـ هي أقوى سلطة في البلاد. ولأنها كذلك بإمكانها ان تتهم وتحاكم وتسجن أقوى المتنفذين في السلطة السياسية بمن فيهم الرؤساء والوزراء.
ولولا سطوة هذه الأجهزة والصلاحيات الممنوحة لها لتهرّب من دفع الضرائب كل من استطاع الى ذلك سبيلاً من أغنياء وفقراء على حد سواء. لكن مقابل هذه الصلاحيات الواسعة الممنوحة لأجهزة الرقابة المالية، التي يؤيدها الفقراء قبل الأغنياء، ماذا تؤمّن الدولة لمواطنيها؟
يكفي ان تؤمّن التعليم المتساوي (لا التعليم المتفاوت المستوى بين رسمي وخاص) والتأمين الصحي وتسهيلات السكن ونظام الشيخوخة والتقاعد والدعم الاجتماعي للعاطلين عن العمل والماء والكهرباء والهاتف (بفاتورة واحدة!) وان تُنشئ حدائق عامة وأرصفة للمارة… إلخ، أي كل ما يدل على أنها تحترم مواطنيها، يكفي ان تفعل هذا لكي يقتنع المواطن بأن أمواله المدفوعة للدولة لا تذهب هدراً وأنها لا تُسرق. في هذه الحالة سوف يحترم المواطن دولته ويدافع عنها لأنه بذلك يدافع عن حياته ومكتسباته. ان ما يجعل دولة ما محتضّرة هو هذا التكامل المفروض بقوة القانون بين الإدارة الحازمة غير الفاسدة وذاك الالتزام الصارم بحقوق المواطن الأساسية على الدولة، فعندما يحدث خلل ما في العلاقة بين الطرفين تتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى مؤسسات الدولة باعتبار انها وُجدت من اجل القيام بوظائفها المحددة لها في القانون والدستور. فإذا لم يُنشئ القانون الأدوات اللازمة لتمكين الدولة من القيام بواجباتها فإن اللائمة تقع على السلطة التشريعية في المقام الأول. أما إذا ما كانت الدولة هي نفسها السلطة السياسية فهذا يعني ان إفساد علاقة الدولة بمواطنيها هو قرار تتحمل مسؤوليته هذه السلطة. ويكون هدفها في هذه الحالة الإبقاء على الولاءات السياسية القديمة التي تسبق عادة قيام الدولة. أي صيغة القبائل والعشائر والطوائف. في هذه المعمعة الكبرى يقع المواطنون «العاثرو الحظ» الذين لا مظلة سياسية فوق رؤوسهم ضحية استئساد الدولة لفرض هيبتها وسلطتها عند كل أزمة كبرى. فالدولة المفككة المنقسمة على نفسها بفعل انقسام السلطة السياسية، لديها مخالب أمنية وبوليسية بإمكانها التدخل عند الحاجة في الأماكن «الرخوة» التي تنطلق منها الاضطرابات. وهي أماكن خاصة بالطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تنزل الى الشارع احتجاجاً على اوضاعها المعيشية والاقتصادية المتردية. فالأغنياء يتصارعون عادة داخل الدولة، فيما يتصارع الفقراء مع الدولة.
اما وظيفة السياسيين فهي تحريف الصراع من اجل تضليل الرأي العام وصرف نظره عن الأسباب الحقيقية لكل ما يجري. لذا يجتهد هؤلاء في تبرير الضرورات التي أملت عليهم اتخاذ مواقف غير إصلاحية (الموقف من قانون الانتخاب مثلاً).
إن الحجج التي تسوقها الطبقة السياسية ـ وهي غالباً من صنعها هي ـ تبدأ بالحفاظ على الوحدة الوطنية والعيش المشترك وتنتهي بالخوف من اندلاع حرب أهلية. أي الترغيب بالشيء والترهيب بنقيضه. إنه نوع من الازدواجية لم يتوقف في يوم من الأيام، يجعل الشعب اللبناني بكل طوائفه رهينة طبقة من الإقطاع السياسي تُصادر السلطة والدولة والمجتمع الأهلي في آن واحد. أي انها لا تترك مكاناً واحداً شاغراً لكي يبدأ منه الإصلاح. فعندما تدعو الحركات النقابية او منظمات المجتمع المدني الى القيام بتظاهرات احتجاجية على سياسات الحكومة يتصدّر ممثلو الأحزاب المشاركة في الحكومة التظاهرات! وهي ظاهرة ينفرد بها المجتمع اللبناني الذي يفتخر دائماً بأن لبنان هو بلد فريد من نوعه.
([) كاتب لبناني
السفير