عبقرية الكتابة الساخرة في الماضي والحاضر
فراس محي الدين عبد الله
لعل عبقرية الأدب الساخر والكلمة الساخرة تكمن في تلك الرمزية والقدرة على الإيحاء بعيداً عن المباشرة والرتابة فالسخرية موقف من حدث أو من واقع قائم على اللا معقول واللامنطقية ومحتوي على بذور التناقض في داخله لكنه يحتاج تلك الذهنية الماكرة القادرة على اقتناص الصورة الساخرة وإيجاد علاقات بين أشياء لا يجمعها رابط منطقي فالتكثيف الذي نلمحه في رسم كاريكاتيري يشغل مساحة قليلة ربما يكون أكثر فائدة من كتاب محشو بالمواعظ والكلمات الرنانة ،ولا يتقن هذا الفن إلا أولئك المبدعون المتعمقون في فهم الأشياء والحقائق كأبي العلاء المعري الذي كان يسخر من اسمه وشكله ،وجورج برنارد شو الذي رفض جائزة نوبل وسخر منها قائلاً {قد أغفر لنوبل اختراع البارود لكني لا أغفر له اختراعه لجائزة نوبل} .
أبو العلاء المعري في رسالة الغفران هرب إلى الجنة والنار ليحاكم الواقع السائد في مجتمعه كشيوع الواسطة ووصول غير الأكفاء إلى السيادة فيقول على لسان أوس بن حجر{ولقد دخل الجنة من هو شرّ مني لكن المغفرة أرزاق }كما يسخر من الجهل والسطحية المنتشرة في مجتمعه على لسان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد{وددت أني لم أنطق مصراعاًً ودخلت الجنة مع الهمج والطغام} ويتعرض برمزية لظواهر لاتتفق مع العقل كبعض رواة الشعر الذين وصل بهم الأمر إلى نسبة الشعر إلى آدم عليه السلام ،وابن الجوزي في كتابه{أخبار الحمقى والمغفلين}يتناول شرائح مختلفة من المجتمع بما فيها شرائح المتدينين ويذكر طرائفهم وغرائب حماقاتهم ويقدّم مبررات لكتابه في أقوال ينقلها عن الصحابة والتابعين كقول علي بن أبي طالب{روحوا القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان} حدث ذلك في زمن كان فيه الإسلام فكراً وفهماً عميقاً وفي ظل مناخ ثقافي واجتماعي متسامح قبل أن تكثر الشخصيات التراجيدية التي تعتبر نفسها رموزاً لا يجوز نقدها، وهذا ما اصطلح على تسميته في عصرنا بالكوميديا السوداء التي ازدهرت مع محمد الماغوط ومسرحياته الشهيرة غربة وضيعة تشرين تلك المسرحيات التي يختلط فيها الضحك بالحزن والحلم بالحقيقة وتهز مشاعرنا من الجذور لتشعرنا بمرارة الواقع ونجد فيها تطبيقاً لمقولة الكاتب التركي عزيز نيسين السخرية سلاح الضعفاء في وجه الظلم .
طبعاً حديثنا يدور حول أدب راق مبدع ولا يشمل الإسفاف والتهريج القائم على الضجيج الإعلامي والمغالطات اللفظية ،فالأدب الساخر يحمل رسالة وهو أقدر على التأثير بعمق في النفوس فهويرسم صوراً وظلالاً للواقع بروح الدعابة العذبة ويبتعد عن حقد اليأس وسوداويته وكما قالت العرب شرّ البلية ما يضحك ،هذه السخرية انتقاد وهدم لمفاهيم بائدة كما هي تأسيس لفهم جديد وإعلان حرب على الجمود قوامها المرح والروح المشرقة،فعندما سخر أبو نواس من وقوف الشعراء على الأطلال وتباكيهم على الآثار في سينيته الشهيرة :
قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً ما ضر لو كان جلس
وداليته :
عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
فإنه كان ينتقد ظاهرة عدّت من المسلّمات ويؤسس لمدرسة شعرية حداثية بمفهوم عصره وأدواته .
لطالما اعتقد بعض الأشخاص من ذوي الأمزجة الجنائزية أن رسالتهم الخالدة لا تصل إلى الآخرين إلاّ إذا كان الوجه عابساً مكفهراً والكلمة كجلمود صخر والصوت كقذائف الهاون متناسين أنهم يخاطبون بشراً يجب أن تلامس الكلمة روحه وتسحر خياله ليتأثر بها وقد زهقت نفسه من الكلمات الكبيرة والهتافات الفارغة ومن تلك الشخصيات المأساوية التي تبدو أقرب للتماثيل الحجرية منها إلى عالم الإنسان وقد لا يعلمون أن أرسطو صاحب المنهج العقلي والتحليل المنطقي عندما كان يتجرع السم ردّد تلامذته على مسمعه من المؤسف أيها المعلم أن تموت دون ذنب ارتكبته فردّ بسخرية وهل تعتقدون أن الموت كان يمكن أن يكون أسهل لو كنت مذنباً .
والعراقيون بعد أن سئموا من مشاهد الموت والقتل التي صارت جزءاً من يومياتهم ويئسوا من واقعهم راحوا ينشئون المواقع الساخرة التي تشهد الكثير من الإقبال ومنها موقع بعنوان(تحت نصب السخرية) مخصص لنشر المقالات والصور الساخرة وعنوان الموقع كما هو واضح مستوحى من نصب الحرية وقد انشغلوا مؤخراً ومعهم العالم بحذاء الزيدي الذي رجم به بوش رغم أن السخرية كانت أعمق حين استُقبل في بلدان عربية أخرى بالدبكات والسيوف ،وغني عن الذكر أن الواقع العربي بتناقضاته وسوء حاله منجم للسخرية التي تُعرّف أحياناً بأنها تمرد على الواقع فهل سنشهد نشوء جيل من الكتّاب الساخرين الذين يعملون على تغيير الواقع وتصحيح المفاهيم بعد أن فشل أصحاب الخطابات والمهرجانات وقبل أن نصبح سخرية للعالم
الهدهد