صفحات مختارةياسين الحاج صالح

ليس للدولة أن تفهم غير لغة القوة

ياسين الحاج صالح
الدولة بما هي كذلك لا تفهم غير لغة القوة. تفاوت اللغات والثقافات والأديان والأعراق لا ينال من هذا المبدأ. ينال منه فقط مدى اكتمال الدولة، أي تشكلها في صورة الدولة القومية أو الدولة – الأمة، السيدة، المستقلة عن مثيلاتها وعن الطبقات والطوائف داخلها. الدول الأكمل هي الدول التي تفهم لغة القوة أولا وأساسا. الدول التي قد تفهم غير لغة القوة قد تكون دولا ناقصة لا دولا فاضلة، وتابعة لا مستقلة. ليس هناك، تاليا، دول تفهم من تلقاء نفسها لغة الحوار والأخلاق.
هذه إيديولوجية قد تنسبها دول لنفسها، وتتذرع بها لتبرير ضرب خصومها الذين لا يشاركونها قيمها المزعومة. يقول إسرائيليون إن العرب لا يفهمون غير لغة القوة. وسبق لأميركيين أن قالوا مثل ذلك أيام حرب الخليج الثانية عام 1990. هذه أحكام عنصرية، الغرض منها تسويغ ممارسة العنف ضد المعنيين بطبيعتهم المضادة للحوار.
كانت هنه آرنت قد نصحت الإسرائيليين بأن يتخلوا عن الاعتقاد بأن العرب لا يفهمون غير لغة القوة. قالت، بالعكس، إن العرب لا يفهمون لغة القوة. محقة تماما، لكن بالضبط لأن العرب ليسوا دولة، بل هم ثقافة متأصلة يفترض أنها تمنحهم رسوخا وجوديا وتاريخيا. أما كدول فالعرب مثل غيرهم، لا يفهمون غير لغة القوة، فيهابون الأقوى منهم لأنه أقوى، ولا يراعون الأضعف منهم. وسيرة صدام حسين معروفة. ومثله اليوم عمر البشير. وعقيدة أن الخصوم لا يفهمون غير لغة القوة تشارك بها نظم عربية ضد معارضيها، كما تسنى لي أن أعاين شخصيا في تسعينات القرن الفائت.
من الأمثلة الثلاثة، الإسرائيلي والأميركي والعربي، نلاحظ أن القوي العنيف هو من يتهم الضعفاء بأنهم لا يفهمون غير لغة القوة. من جهة يموه سلطانه، ومن جهة يبيح لنفسه ممارسة العنف ضدهم وتحميلهم المسؤولية عنه في آن معا.
لا يقوم النظام الدولي المعاصر المكون، مبدئيا، من دول قومية سيدة، على غير مبدأ القوة. ولا تكون الدولة عاقلة أو كاملة في هذا النظام إن لم تسع لحيازة أكبر قوة ممكنة. فإذا تمثلت هذه بالسلاح النووي كانت جميع الدول غير الحائزة على هذا السلاح منقوصة الصفة الدولية إلى حين تمكنها من حيازته. ليس هناك قاعدة أخلاقية أو قانونية دولية تدين هذا المسعى إلا إذا استبطنا المنطق الامتيازي غير العقلاني للنظام الدولي في صورته الحالية. هنا تناقض النظام. فمن جهة هو مكون من دول سيدة متكافئة، يتشكل مجتمع الأمم المعاصر من شراكتها في هيئات معلومة، أبرزها الأمم المتحدة، ولا تتحقق غريزة الدولية لأي منها على أكمل وجه إلا بحيازة «السلاح المطلق» المعاصر، أي القوة النووية. فإن تطور سلاح أشد إطلاقا كان واجب الدولة بما هي دولة أن تحوزه.
ومن جهة ثانية تحتكر التحقق الأتم لهذه الغريزة دول بعينها تهدد غيرها بالتدمير، أو إعادتها قرنا إلى الوراء، أو إلى العصر الحجري، وهي تعابير شاعت في العقدين الأخيرين على ألسنة سياسيين يحظون بالاحترام في بلدانهم، ويراد لهم أن يحظوا بالاحترام عالميا، قالوها عن بلدان جرى تحطيمها بالفعل مثل العراق، أو تهديدا لبلدان «شريرة» مثل إيران.
ولا يتوفر النظام على حل لهذا التناقض المتولد عن انبنائه على القوة غير المزيد من القوة، أي ضرب الطامحين الجدد للانضمام إلى نادي القوة العالمي. وفقط إن نجح أحد من هؤلاء في تحصين نفسه بالأسلحة الأشد فتكا، أمن شر الملأ المتربع على عرش القوة العالمية.
محصل ذلك أن تهديد السلم العالمي ينبثق من صميم النظام، وبالخصوص من الدول الممتازة أو «النبيلة» فيه. وجوهر النظام ذاته هو ما يقضي بأن الدول القادرة على الحرب هي الدول التي تحوز فرصة أكبر للتمتع بالسلام. هذا لأن السلام الممكن في ظل نظام الدولة الراهن هو هدنة قد تطول، لكنها مشروطة بتوازن القوى، بأهلية متكافئة لخوض الحرب. الحرب هي الأساس.
***
هذا من باب قول الأساسيات. وعليها لا على غيرها يبنى تفكير سياسي سديد.
الأساسيات بحد ذاتها ليـــست ســـياسة ولا تصلح سياسة. من يتصرف بموجبها وحدها يجلب على نفسه ودولته الدمار. فيكون أشد على وطنه من أعدائه ومن نظام دولي جائر.
فإن شئنا أن نكون مثل أقوياء العالم في القوة، وهذا حق، علينا أن نكون مثلهم في أشياء أخرى قد تكون أسست لقوتهم. وأول هذه هي الدولة الحديثة أو الدولة- الأمة، التي هي وحدة القوة في النظام الدولي. لا يسعك أن تشارك في نظام القوة الدولي دون أن تطور وحدته المكونة. وهذه دولة إنتاج وعلم، ودولة عقلنة وقانون عام، ودولة مواطنة ومساواة. وهي دولة لا تفهم لغة القوة جيدا إلا لأنها تنتج القوة وتتشكل منها وتعرف معناها. غريزتها القوة كما قلنا، فلا تكف تحسب وتجمع وتوفر وتراكم، وتحاصر التبديد والعشوائية. دولنا لا تكف عن التبديد، من الموارد العامة إلى الحياة البشرية. هذا يحكم على شكواها من هيمنة القوة في العلاقات الدولية بأن تكون متهافتة. هي نفسها لا تكف عن ممارسة القوة العشوائية في مجالها وضد رعاياها. يحصل أيضا أن تفهم دولنا من غيرها لغة غير لغة القوة وحساباتها وموازينها، لغة «الخواطر» و»الجاه» بخاصة. هذه ليست فضيلة. إنها مؤشر على نقصها كدول وعدم استقلالها عن حكامها. برهان على التبعية أو على التأخر أو عليهما معا. دولنا مدعوة أكثر، لا أقل، إلى أن «لا تفهم غير لغة القوة». هذا، وليس العكس، ما يكسبها الاحترام في العالم والشرعية أمام محكوميها.
***
هل يبدو أننا نقول شيئا، ثم نستدرك عليه لنقول ما يكاد يعاكسه؟ ننتقد وضع العالم المعاصر، ثم نندار بالنقد على أوضاعنا ودولنا؟ هذا على السطح فقط. نتحفظ على إيديولوجية شائعة بيننا تتماهى بالأقوياء وتلوم الضعفاء، بقدر ما نتحفظ على إيديولوجية شائعة أيضا تتوهم القوة خشونة وعنفا وتجاسرا على القتل. ننتقد الأولى لكي نفهم، والثانية لكي نعمل. منطق التحليل يقضي أن نبدأ من العالم ونظامه، أما منطق العمل فينطلق من أحوالنا.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى