بين القمتين… منهجان للعمل الجماعي
د. برهان غليون
أمام تعاقب القمم العربية والعربية الأميركية اللاتينية، ثم قمة مجموعة العشرين، لا يمكن للمرء أن يتجنب إغراء المقارنة. وإذا استثنينا مؤتمر القمة العربي اللاتيني كونه بالدرجة الأولى مؤتمر حوار وتعارف بين تكتلين، تقدم المقارنة بين مؤتمر القمة العربي الأخير (الدوحة 30 مارس 2009) ومؤتمر مجموعة العشرين الذي عقد في لندن (2 إبريل الحالي) دروساً مهمة ربما تساعد في فهم الحلقة المفرغة التي يعيشها العمل العربي المشترك منذ عقود.
وأول ما يلفت النظر في هذه المقارنة موضوع كل منهما وأولوياته، سواء كما نظر إليهما المشاركون أو كما فهمتهما الصحافة ووسائل الإعلام والرأي العام. فقد كان هناك إجماع على أن المؤتمر العربي، قبل أن ينعقد، هو مؤتمر المصالحة العربية، إشارة إلى هدف المؤتمر في التقريب بين وجهات النظر العربية، وربما قبل ذلك بين أشخاص الزعماء العرب الذين غالباً ما ينظرون إلى اختلاف بعضهم مع بعض في وجهات النظر على أنه موقف من دولهم نفسها، ويتصرفون على أساس ذلك، وربما لا يترددون في قطع العلاقات الاقتصادية وترحيل رعايا الدولة الأخرى التي يختلفون مع زعيمها. فما ينتظره القادة هنا من اجتماعهم ويطلبونه ليس، بالدرجة الأولى، البحث عن حلول ناجعة لمشاكل مجتمعاتهم الاقتصادية أو الاجتماعية، وإنما لتكريس زعامتهم الوطنية أو الإقليمية، ولنيل الشرعية.
بالمقابل كان محور النقاش حول مؤتمر العشرين مسألة محورية واضحة وملموسة، هي مواجهة ذيول الأزمة الاقتصادية العالمية، والتوصل إلى سياسة مشتركة توحد بين الكتل المختلفة، الأميركية والأوروبية والآسيوية. وكانت نقاط الاختلاف بينها معروفة مسبقاً، كما كان تذليلها للوصول إلى خطة عملية يلتزم بها الجميع هو الهدف الرئيسي للمؤتمر ومعيار نجاحه وفشله أيضاً. أما شخصيات الزعماء ومواهبهم وميزاتهم، فلم تكن مهمة في نظر الصحافة والرأي العام إلا بقدر ما كانت عاملا في فهم احتمالات توصل المؤتمر إلى الإنجازات المطلوبة، وتحقيق مصالح الأطراف وتوازنات القوى. كان السؤال مثلا: هل سيستطيع الثنائي الفرنسي الألماني إقناع الأميركيين والآسيويين بضبط الأسواق وتشذيب الرأسمالية الليبرالية قليلا؟ وكيف سينجح الرئيس الأميركي في حفز الأوروبيين على قبول تضحيات جديدة لصالح الولايات المتحدة، مسببة الأزمة وضحيتها الأولى معاً؟
الأمر الثاني الذي يلفت النظر هو الاختلاف الشديد في تقييم نتائج كل من المؤتمرين، من قبل المشاركين من جهة والصحافة والرأي العام من جهة ثانية. فبينما لم يختلف أحد، لا بين القادة ولا قطاعات الرأي العام، على أهمية ما أنجز في قمة العشرين، وإن تراوحت التقديرات بين من اعتقد أننا على طريق بناء نظام عالمي جديد ومن اكتفى بإعادة بناء الرأسمالية أو السوق على أسس أكثر صرامة، يكاد لا يكون هناك أي صلة بين التقييم الشديد التفاؤل الذي أعلنه الزعماء المشاركون في القمة العربية والتقييم المتشائم، وأحياناً اليائس، الذي سيطر على قطاعات واسعة من المثقفين والصحافة والرأي العام العربي.
وربما كان سبب التباين في تقييم نتائج مؤتمر القمة راجعا إلى أن ما حققه من إنجازات يفيد النظم والزعماء ويخدم مصالحهم أكثر مما يساهم في تحقيق مصالح الشعوب والمجتمعات. فقد نجح المؤتمر في وضع حد للنزاعات والانقسامات التي عطلت أي إمكانية للتنسيق والتفاهم بين الحكام العرب في السنوات الخمس الماضية. وهو ما كان يضر بمصالحهم الأمنية والسياسية والاستراتيجية معاً، ويهدد صدقيتهم كنظم سياسية في نظر شعوبهم والرأي العام العالمي معاً. فكان مجرد النجاح في التوصل إلى ما يسمح بإعادة الخناجر والسيوف المسلولة إلى أغمادها، والظهور بمظهر الوحدة أمام خصومهم ونقادهم، في الداخل والخارج، بمثابة إنجاز كبير وحاسم. وربما زاد من أهميته التدهور الإضافي للوضع العربي الإضافي نتيجة صعود اليمين المتطرف الاسرائيلي إلى السلطة، وتراجع صدقية القوة السياسية الأميركية الإقليمية، والخوف من الفوضى والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية القادمة في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية. بالمقابل ربما تعكس خيبة الأمل الشديدة التي عبر عنها الرأي العام العربي، بما في ذلك الصحفيون والمحللون السياسيون، شعور الجميع بأنه، فيما وراء إنجاز المصالحة التي قد تعني تضامن الأنظمة فيما بينها، لم يخرج عن مؤتمر القمة أي قرار مؤثر في كل ما يتعلق بالمسائل الحارقة التي تهم الشعوب والمجتمعات. فلا خطة عملية واضحة في شأن مواجهة الفقر والبطالة والآثار الاجتماعية والاقتصادية للأزمة العالمية، ولا في شأن القضية الاستراتيجية الرئيسية التي تُعنى بالأمن الوطني والإقليمي، وفي مقدمتها مواجهة تحدي الغطرسة الإسرائيلية، واستمرار الاحتلال وحركة الاستيطان التي تدمر ثقة المجتمعات العربية بقدرتها على الاستمرار في العصر، ولا بشأن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري الذي تطالب به الشعوب العربية، وقد أصبح الموضوع الرئيسي لوسائل الإعلام المحلية والدولية خلال أكثر من عامين عقب قمة تونس 2004، قبل أن يدخل في دائرة النسيان والتعتيم الشامل.
أما الأمر الثالث الذي يلفت النظر في المقارنة بين المؤتمرين فيتعلق بأسلوب التفكير والعمل الجماعي. ويكفي لتلمس ذلك قراءة بياني مؤتمر القمة العربية ومؤتمر العشرين وتحليل كل منهما. فبينما لا يتضمن البيان العربي صيغة قرار واحد، ويكتفي من بدايته إلى النهاية بالتهنئة والإشادة والتأكيد والتنديد والإعراب عن المشاعر والآراء، رفضاً أو قبولا، لا تجد في بيان قمة العشرين الدولية سطراً واحدا يشير إلى غير القرارات المطلوب تنفيذها مع رصد الموارد وتحديد الوسائل التنفيذية والالتزامات. وهذا هو الفرق بين مؤتمر يجد كامل معناه في مجرد انعقاده أو في الهدف الرمزي لحدوثه، واجتماع يشكل إطار عمل ووسيلة لإنجاز مهمات عملية واضحة ومحددة. أي بين مؤتمر همه الأول استعراض الوحدة وإظهارها، وآخر لا تعني له الوحدة شيئاً إلا عبر ما تقدمه من شروط ملائمة لتحقيق مهام عملية يصعب لأي طرف تحقيقها بمفرده، أي بين مؤتمر يجمع رجالا ملهمين، يدافع عنهم نظامهم نفسه، وليسوا بحاجة لإثبات أي كفاءة، ومؤتمر ثان يجمع رجال سياسة يدركون أن وجودهم في السلطة مرتبط بإظهار كفاءتهم، ومقدرتهم على إصلاح النظم التي يدافعون عنها، ومسؤوليتهم في الحفاظ على صدقية الديمقراطية التي لا يرون لأنفسهم ولا لمجتمعاتهم حياة سياسية ومدنية أخلاقية من دونها.
لا ينبغي التقليل من أهمية المصالحة التي حدثت في مؤتمر الدوحة، فالانقسام مدمر لمعنويات الأمم والشعوب، والوحدة حتى المظهرية منها تُبقي على بصيص أمل في المستقبل وفي إمكانية واحتمال وقف مسار التدهور والانهيار. بيد أن المصالحة لا يمكن أن تشكل هدفاً في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق أهداف. والرأي العام يحاكمها أو يحكم عليها انطلاقاً مما حققته أو تحققه من أهداف. فتحرير السياسات العربية من الارتهان للحساسيات والنزاعات الشخصية يأخذ قيمته من كونه التمهيد الضروري لقيام أي مشروع عمل مشترك يهدف إلى إخراج العالم العربي من حالة الضعف والانهيار الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي، ووضعه على طريق التنمية الإنسانية والازدهار.
جريدة الاتحاد