صفحات الشباب

الشباب السوري والإيديولوجيات: علاقة تصادمية أم تجاذبية ؟

null
هذا النص هو الفصل الثالث من كتاب “المشاركة السياسية والشباب في العالم العربي: الخيارات المتعثرة وافق التغيير”. والكتاب هو حصيلة عمل جماعي لسبعة مؤلفين بينهم الباحث في العلوم السياسية سلام الكواكبي. وقد صدر الكتاب بالتعاون بين “المركز اللبناني للدراسات” و”مؤسسة كونراد اديناور” – بيروت 2008:
الجيل الجديد يلهث
خلف الافكار الجديدة وخلف الامل(1)

في مجتمع شاب جداً، كالمجتمع السوري، يكون الحديث عن الشباب عملية شديدة التعقيد والتشابك، وخصوصاً ان تعلق الامر بانتماءات ايديولوجية محسوسة او منظورة. لقد نأى البحث العلمي المحلي بنفسه عن هذا الحقل الملغوم متذرعاً بهامشيته امام المعضلات الرئيسية للمجتمع السوري. هذا التصرف ينبع اساساً من خشية متنامية في الثقافة والممارسة العلمية السورية امام موضوعات شائكة ومعاصرة تلامس بصورة مباشرة حقولاً حساسة كالشباب مثلاً. هذا التجاهل المبرمج يترك الباحثين الحقيقيين امام نقص هائل في المعطيات العلمية لفائدة اي بحث جدي يبغون القيام به.

أولا: حقبة مضت وفاعلية انقضت
كانت الطاقات السياسية متفجرة في سوريا غداة الاستقلال عام 1946، ومحملة بمشاريع عديدة تتراوح من القومية العربية الى الشيوعية، والى جانبها تطورت انشطة البورجوازية الوطنية والتي قادت الدولة بعد ان ساهمت بفاعلية في تحقيق جلاء الجيش الفرنسي. وبالتالي، كانت تمخضات الدولة/الامة المتعددة تستند في جزء كبير منها الى جيل الشباب الواعد. وعلى الرغم من عدم وجود استقرار سياسي في البلاد بين الاعوام 1946 و1970، استطاع الشباب ان يكونوا حاضرين وبقوة في انشاء وتدعيم وحماية الدولة الوطنية. ومن اكثر الامثلة، الدور الذي قامت به جامعة دمشق حين عكست بامتياز ارادة الشباب في المساهمة الفاعلة والمكثفة في البناء الوطني.
لقد تمخضت هذه الفاعلية وهذه الارادة من خلال التظاهرات التي جمعت جميع الاطياف السياسية الموجودة  على الساحة السورية في عدة مناسبات وطنية واقليمية ودولية. وكانت المطالب متعددة ومتنوعة، ولكنها تلتقي حول نقاط اساسية وارادة متناغمة في الرغبة بتطوير المجتمع والممارسة السياسية والدفاع عن حقوق الامة السورية والعربية امام محاولات التدخل والاحتلال، وامام التحالفات الاقليمية المناهضة لتطلعات هؤلاء الشباب عماد العمل الوطني ومحرضيه.
كان للشباب دور اساسي ومحوري في انجاح المشاريع السياسية ذات الطابع التقدمي، والتي جاءت الى الحكم بايديولوجيات ثورية تريد التخلص من مخلفات ما وصفته حيناً رجعية تقليدية واحياناً رأسمالية كومبرادورية. ومنذ ذلك الحين، أيدت جموع الشباب الوحدة مع مصر عام 1958، وساهمت الى حد بعيد في تحقيقها، وما لبثت ان دفعت ثمناً غالياً من قبل السلطة الجديدة من خلال القيود الحديدية التي القت بها هذه الوحدة على العمل السياسي وخصوصاً في الاوساط الشبابية، التي اصيبت بخيبة لم تنفع معها نافذة الامل التي حملها الانفصال عن مصر، لأن تحولا آخر كان بانتظار المشهد السياسي السوري مع استلام حزب البعث عام 1963 مقاليد الحكم، وهو الذي كانت طاقته الاساسية اثناء الحكم الديموقراطي، جموع الشباب والطلبة  في المدن الكبيرة، والذي ما لبث ان تصدى لها بمنهجية ذات طابع منظم ومدروس.

ثانياً: تأطير العمل الشبابي وتنظيمه
بما ان حزب البعث “تحول من حزب تغييري الى حزب محافظ مع تسلمه السلطة”(2) فلقد فطن القيّمون على السلطة الى اهمية جيل الشباب وامكانية تحوله الى ذخيرة متقدة للعمل السياسي في جميع اصنافه وتعدد اطيافه. لقد انتبه الحزب الحاكم الى الدور المهم الذي قام به الشباب في الحركات المتعددة التي شهدتها سوريا بعيداً عن الانقلابات العسكرية، ولكن قريباً جداً من التأثر بفكر الايديولوجيات القومية والماركسية والدينية في هذه الاوساط.
اضافة الى الحماس الشديد الذي كان يدفع بالشباب الى التظاهر في الشوارع لدى الشعور  بأي تهديد فكري، او للتصدي لمشاريع محلية او اقليمية او دولية  كانوا يجمعون على مناقضتها للمصالح الوطنية او لمبادئ انسانية آمنوا والتزموا بها. لقد كانت دعامة التيارات القومية التي انبثق منها حزب البعث وبالتالي وصلت طلائعه الى الحكم،  هي جيل الشباب. وبالتالي، فان معرفة الوزن الهائل والفعال لهذا الجيل في اي حراك سياسي يحصل في مجتمع فتي كالمجتمع العربي عموماً والسوري خصوصاً، تدفع بالقائمين على الحكم الى الاخذ في الحسبان وبكثير من الحذر، موضوع الشباب وانخراطهم في العمل العام من خلال تأثيرهم في مختلف التيارات الفكرية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار مررواً بالتيارات الدينية والعدمية.
من خلال هذا الوعي العارف والمحتسب للدور الشبابي في الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، تم اللجوء الى التجارب الكورية الشمالية والسوفياتية في التأطير المنهجي للشباب السوري. وهذا لا يعني ان السلطة تبنت الايديولوجيات التي بنيت عليها هذه التجارب، بل انها تبنت المنهج والطريقة بهدف احكام التأثير والسيطرة على العمل الشبابي. وانطلاقاً من هذا “الوعي” تبنت النخبة السياسية الحاكمة الجديدة اسلوباً اكثر تركيزاً على القطاع الشبابي، وذلك ليس ما صرحت به عن رغبة  في استثمار هذا القطاع بما يحقق مصالح المجتمع واستقطابه بما يفيد مسيرة بناء وطن فقط، وانما كان الهدف الاكبر والاعمق يتمثل في تلافي ما عدته هذه النخبة بأنها هفوات من سبقها، والتي اتاحت للجيل الشاب بمختلف مشاربه السياسية، ان يكون له دور مؤثر في المشهد السياسي.
فابتدأ العمل الحثيث على الغاء كل مظاهر التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي في الاوساط الطلابية، التي كانت متنوعة ومرتبطة بالميول السياسية المختلفة وحتى بالانتماءات الاجتماعية المتعددة من دون ان يكون  لها طابع صدامي ولا تكاملي. فأندية الكشاف السوري العريقة حُلت، ولم يعد بامكان إلا اتباع الطوائف المسيحية والاقليات الاثنية كالجركس والارمن الاستفادة من حرية انشاء حلقات طلابية يحصر نشاطها في الامور الروحية والرياضية. وحتى في هذا النطاق، فان هذه النوافذ الضيقة ظلت تحت رقابة شديدة لتحاشي نمو اي رغبة او اتجاه يعبر  عن توجه يحمل رائحة السياسة. وحملت الحقبة الجديدة حزمة كبيرة من المحظورات المتعلقة بقطاع الشباب من خلال اغلاق الاندية الثقافية باستثناء ما يخص الطوائف المسيحية وبعض الاقليات الاثنية المرضي عنها.
وانطلاقاً من المبدأ نفسه  في العمل السياسي، تم العمل على اعادة صوغ المشهد  الرياضي المحلي والذي يمثل الشباب عماده، وذلك من خلال حل الاندية الرياضية واعادة تأسيسها بعد دمجها بحيث تصبح هلامية التمثيل وبلا جدوى. فتقليدياً، كانت الاندية تعكس واقعاً اجتماعياً او سياسياً او حتى طائفياً محدداً احياناً، وهذه الظاهرة على ما فيها من سلبيات وخصوصاً في ما يخص التقوقع الطائفي، لم تجد حلاً لها بالدمج الآتي من الأعلى لأنه لم يحظ بدراسة اجتماعية ولا حتى جغرافية تحدد له اصولاً اكثر علمية ومنطقية. فعلى سبيل المثال، تحول اسم “النادي الرياضي الاهلي الحلبي” الذي يمثل الطائفة السنية المحافظة في مدينة حلب، الى “نادي  الاتحاد”، و”نادي الشبيبة الكاثوليكية” في المدينة ذاتها اضحى “نادي الجلاء”. لكن هذه العملية “الثورية” في  منطلقاتها، لم تؤد الا الى تعميق الفجوة بين ابناء المدينة الواحدة ودفع ضعيفي الوعي الى ترسيخ الشرخ الطائفي. فتغيير الاسماء ودمج الانشطة بهدف تعديل المظهر  او المضمون الاجتماعي او الطائفي او المناطقي، لا يتم بهذه الطريقة، التي هدفت اساساً الى السيطرة على النشاط الشبابي تحت تسميات اللحمة الوطنية وازالة الفوارق الطبقية، وأتت بنتيجة سلبية رسخت من خلالها كل ما لم تسع اليه بعض الارادات الطيبة.
جاءت الخطوات الاهم من خلال منظمات واتحادات متخصصة بكل قطاع شبابي وطلابي لحصر العمل ومراقبته على  نحو منظم. وهذا ما قامت به  على أكمل وجه منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة والاتحاد الوطني لطلبة سوريا.

ثالثاً: المنظمات العقائدية وجيل جديد
في سوريا، “يبدأ الحديث  عن اي انتماء سياسي او فكري للشبيبة من اللحظة التي تتم فيها بداية عملية تطويعها في ماكينة المؤسسات الاجتماعية الاساسية، وبخاصة المؤسسة التعليمية (…) ذلك في وقت لا يزال الناشئ فيه غير متمتع بمقدار كاف من الوعي والثقافة اللذين يؤهلانه لاختيار اتجاه سياسي او تنظيمي او فكري”(3).
تخصصت “منظمة طلائع البعث” التي تأسست عام 1974 بطلاب المرحلة الابتدائية من الدراسة لتفرض نمطا مستمداً من التجربة الكورية الشمالية في تكوين عقل الطفل من خلال تبني ما قيل انه نشرٌ للثقافة التقدمية وللأفكار التحررية. ولكن صلب العمل من خلال هذه المؤسسة الحزبية، انصرف الى رفد العقول الناشئة جدا بالجمل المسبقة الصنع والصيغة والتي تحمل نوعا من اعادة ترتيب العقل البشري منذ الصغر في سبيل ابعاده عن الفكر التحليلي والنقدي، واضفاء صفة الحفظ والترداد دون مراجعة او مساءلة. وعملت هذه المنظمة على السيطرة على جميع الانشطة في المجال العمري، الذي انيط بها من رياضية الى فنية والى ثقافية.
اما “اتحاد شبيبة الثورة” الاقدم تأسيسا، اي منذ عام 1963 فتقوم مهمته على تسلم الطلائعيين بعد المرحلة الابتدائية وتنظيمهم في حلقات موجهة بصورة مباشرة من الحزب الحاكم، وقد عملت هذه المنظمة الحزبية بامتياز على استقطاب الشباب من خلال انشطة فنية متنوعة وفكرية ممنهجة، وكانت تمنح فضاءات من العمل الجماعي الايجابي على الرغم من سلبية ربطها وحصرها في جهة واحدة هي حزب البعث. وقد ساهمت هذه المنظمة في تكوين جيل كامل من الشباب المؤدلج على نحو تلقيني، جمعته الرغبة في التعبير عن الذات بعيدا عن محاذير الاستقلالية في العمل الجماعي ومن خلال نظام سياسي لا يحبذ البتة المراجعة والمساءلة في اي من مجالات الحياة والممارسة.
من خلال اتحاد الشبيبة هذا، نشأ لاوعي جديد احاط بالعمل الشبابي وقوننه بطريقة تؤمن مراقبته والسيطرة عليه وتعمل على توجيهه واستخدامه، واتى ذلك ليتوج قرارا سياسياً يحصر العمل السياسي في المدارس والجامعات بالحزب الحاكم مقصيا حتى حلفاءه الذين انضموا الى جبهته السياسية الجامعة.
وخلال فترة طويلة، اتاح الانتساب الى هذه المنظمة الشبابية الكثير من الحوافز، اذ حصل طلاب على قبول جامعي استثنائي لا يلتزم بمعدلات العلامات المحددة اصولا، فأصبح الشبيبي الفاشل دراسيا طالبا في كلية الطب واستبعد مجتهد مستقل لنقص علامة او اثنتين من مجموعه. وبالطبع، فهذه الخطوة لم تخلق شعورا بالضيم لدى غير المحظيين فقط، بل اثرت بصورة عميقة وسلبية في مستوى الدراسة والذي بدوره انعكس على امور مجتمعية عديدة.
كان العمل مختلفا بعض الشيء في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا المؤسس عام 1963 وهو المكلف بالسيطرة على الشباب في المرحلة الجامعية. وقد انفتح هذا الاتحاد على نحو خجول على المكونات الاساسية في الجبهة الوطنية التقدمية، التي تجمع احزابا ارتضت ان تعمل في اطار منظومة خاضعة للسيطرة الكاملة للحزب الحاكم. وبالتالي فقد عمل الشيوعيون الرسميون مع زملائهم الناصريين الرسميين على دعم الخط السياسي العام، مع القيام من حين الى آخر بالتعبير عن عدم الرضا عن امور هامشية تتعلق بالحياة اليومية للطلبة البعيدة كل البعد عن المناكفات السياسية وعن دور فعال كانت قد ادته هذه التنظيمات الى جانب البعثيين في اطار العمل الشبابي الديموقراطي في الخمسينات من القرن المنصرم.
ومن خلال المهمات المنوطة بهذا الاتحاد، يقوم بعض افراده، بدور الإخبار عن اية ظاهرة يقدرون انها مسيئة لمفهومهم للوطنية، وبالتالي، تسود الحياة الجامعية حالة من التوتر الناجم عن وجود تقديرات مكتوبة لولاء الطلاب، يصار احيانا الى مناقشتها خلال اجتماعات الوحدات الادارية للاتحاد. ويرتبط بهذه المؤسسة الحزبية عشرات من المنظمات الفرعية ايضا، والتي تراقب وتؤطر وتعطي تقديراتها غير المحايدة لوضع الطلبة الجامعيين السوريين في الدول الاجنبية. وتكون هذه المنظمات الفرعية نوعا من الرقابة على الطلاب السوريين وخصوصا الموفدين منهم، بحيث انها تتابعهم وتحدد احيانا مصيرهم الدراسي بربطه بنسبة ولائهم لما ترتئيه من مقاييس تحددها بعقلية حزبية اقصائية، تقبل الآخر بصعوبة فكيف برأيه؟
لقد “اقدم” المنتسبون الى هذا الاتحاد ومن يدور في فلكهم على الحلول محل السلطات الامنية وذلك “للتصدي” للمعارضين من شباب او غيرهم، انها استراتيجية جديدة ينفذها شباب كان يؤمل بأن يمثلوا قاعدة للحوار الوطني وللتلاقي المدني، واذ بهم، يُستعملون كأدوات قمعية شديدة البأس تجعل احيانا بعض المراقبين المحدودي الأفق، يعتبرونهم نموذجاً لشباب يأخذ مواقف وطنية مقابل “لا وطنية” المعارضين، وبالتالي، تحرر الاجهزة الامنية من تبعات تحمل مسؤولية القمع، فتعهده لشباب يافعين يضربون بأعلام البلاد المعتصمين سلمياً والمطالبين بازالة احكام الطوارىء وتحرير العمل السياسي. لقد تم تبني هذا الاسلوب منذ سنة و نيف، واضحت قوى الامن تراقب الغزوات الشبابية العنفية تجاه مجموعات صغيرة تجرؤ على التعبير عن رأيها بطريقة سلمية.
وفي بادرة صحية تبشر بوعي منبثق في فضاء ضبابي، قام بعض الشباب والشابات في الجامعات بمحاولة استعادة المبادرة من خلال تحركات سلمية للتعبير في مجالات ظنوا انها بعيدة عن الاسقاط السياسي المباشر، ولكن باءت محاولاتهم بالفشل، بل تعرضت لزجر وعقوبات شديدة من قبل الدوائر الجامعية ايضاً، وخصوصا من قبل زملائهم في الاتحاد المفترض به ان يمثلهم ويدافع عن حقوقهم. وعلى سبيل المثال، طالب بعض الطلاب في جامعة حلب في نيسان 2004 بتعديل قانون متعلق بعمل المهندسين بعد التخرج، فتعرضوا لاعتداء من قبل اعضاء الاتحاد وكافأتهم الادارة بطردهم من الجامعة.
في هذا الاطار، يعدّ النشاط السياسي للطلبة السوريين الاكراد مثيراً للانتباه، فعلى الرغم من الضغوط التي يتعرضون اليها كطلبة اولا وكأكراد ثانيا، فهم ينشطون في المجال المتاح او الممكن من خلال تجمعات تأخذ احيانأً نمطا فولكلوريا ولكنها تحمل دائما ابعادا سياسية وثقافية. وتعد جامعتا حلب ودمشق المكان الأميز لهذه الانشطة. تتلخص مطالبات البعض في الاعتراف بالخصوصية الثقافية والاثنية، وتتجاوزها مطالبات البعض الآخر بالتعرض الى موضوع الجنسية والادارة الذاتية.

رابعاً: العامل الديني والشباب
ادى الدين دوراً مهما في استقطاب جيل الشباب منذ نشوء الوعي السياسي في مرحلة ما بعد الاستقلال، وقد تواجدت حركات واحزاب ذات طابع ديني او محافظ، حاولت التغلغل في الحراك الشبابي ونجحت في استقطاب فئات لا بأس بها من الناشطين الشباب. هذا العمل السياسي السلمي تحول في مرحلة متقدمة الى عمل عنفي اقصائي جوبه بعنف مضاد، وأضحت الانتماءات الدينية للشباب في الاطار المدرسي او الجامعي محظورة ومعاقبا عليها بحزم.
وفي مقابل ذلك المد الديني غير المسيطر عليه، رعت الدولة نوعاً جديداً من الممارسة الدينية لدى الفئات العمرية المختلفة من خلال تشجيع اقامة مدارس دينية وانشطة تدور في فلك الروحانيات، وأعطيت للأنشطة الشبابية التي تقودها المنظمات الحزبية ابعاد دينية او قريبة من الصيغة الدينية في محاولة للسيطرة والاستقطاب. لقد امكن بهذا الاسلوب الاستقطابي ايجاد مجالات متنوعة تدور في كنف الدين الرسمي وتشد اليها افواجا من الشباب على نحو متابع ومبرمج بدقة. وقد تمخض عن هذه الاستراتيجية الجديدة نمو مكثف في النشاط الشبابي الديني، وفي الوقت نفسه، متابعة دقيقة وقامعة لكل تسييس في هذا المجال في المرحلة الاولى. وفي مرحلة لاحقة، اعتمدت السلطة اسلوبا متطورا من حيث تبني رموز شبابية للخطاب الديني. وترافق ذلك مع صعود الاصولية المسموح بها بل والمسيطر عليها في الصروح العلمية من مدارس وجامعات.
فالخطاب العلماني الذي كان يميز معلمي الخمسينات والستنيات وحتى السبعينات، تلون بتوجهات دينية لا تنقل ايديولوجية الحركات المتطرفة، وانما تبعث نوعا من الفكر المحافظ في عقول الناشئة عوضا عن الفكر التحرري الذي كان عماد الحركة التعليمية السورية لسنوات. وشهدت المدارس موجة عالية من التحول الى الحجاب لدى الفتيات، وحضور الدروس الدينية خارج ساعات الدوام للشباب. وقد قام بعض الاساتذة من الجنسين بطرح امور بعيدة عن المواد المدرّسة وتحمل طابع الدعوة والتبشير. ومن خلال هذه الآلية، تطور الفرز بين المؤمن وغير المؤمن، بين المسلم والمسيحي، وجرى ذلك كله من غير ان تتم السيطرة عليه حكوميا او ان تُراد هذه السيطرة.
وفي الجامعات التي كانت صروح نهضة وانفتاح ذهني وتحرر من القيود الاجتماعية والتقاليد البالية، تطور التوجه الديني من خلال تبني المسموح لهم بالحركة السياسية لخطاب ركب موجة الاصولية الوطنية كما قدرها هو وحده، فبدأت اعلام “حزب الله” وحركة “حماس” تحل مكان صور غيفارا ونزار قباني. وشهدت الجامعات صعودا شبه جارف لظاهرة الحجاب وخصوصا الحجاب الوهابي الذي لم تعرفه نساء سوريا سابقا. في هذه المرحلة الخطيرة من تكوين عقل الشباب، حرمت التيارات العلمانية في مجمل قطاعات المجتمع من التعبير عن رأيها، او حتى من التواجد بوجه مستقل وبعيد من الخضوع لضغوطات مزدوجة من الادارة حينا، ومن اصحاب الحظوة الجدد الدينيين المتخفين بعباءات متلونة احياناً.
لقد سُمح خلال هذه الموجة، ببناء كثيف للمراكز الدينية، الامر الذي ادى الى تنوع وتعدد الفضاءات المتاحة امام التيار المحافظ ولو انه تحت الرعاية الحكومية، ومما نتج عنه توسع في عمل التوعية ونشوء جيل من الشباب المتدين والرافض للأفكار العلمانية التي كانت ذخيرة كل الاحزاب على الساحة السورية بما فيها حزب البعث.
فضلا عن العوامل الداخلية المتعلقة بصعود “الوعي” الديني لدى الشباب، هناك تأثير مهم للعوامل الإقليمية. فمنذ صعود مفهوم الدولة الاسلامية بقوة مع الثورة الايرانية وإيديولوجية تصدير الثورة والتي ترجمت على أرض الواقع السوري بمغريات مادية في أطراف المدن وفي الأرياف لمجموعات من الشباب للانخراط في مذاهب أخرى حتى إن أرادوا الاحتفاظ بمذهبهم، أثرت فيهم وفي طريقة تعاطيهم مع الأمور فكرة “الحاكمية لله” وفكرة إمكانية ومشروعية “الدولة الإسلامية”. المشروع الإيراني وإن يظل تحت مراقبة حذرة، لكنه يحتفظ بتسامح مهم من قبل السلطة لأسباب التحالفات القائمة على مستوى السياسات العليا.
في المقابل، فإن انتصار المقاومة اللبنانية التي تحولت في مراحلها الأخيرة الى إسلامية وجردت بقية أطياف المجتمع اللبناني من حق المشاركة فيها، أدى الى صعود في “الغبطة” الدينية لدى شرائح كبيرة من الشباب الذين ردوا هذا الانتصار الى عامل ديني لا وطني.
لاحقاً، أثرت الانتفاضات الفلسطينية وصعود نجم الاخوان المسلمين في فلسطين عن طريق حركة حماس في تأجيج هذا الشعور بالانتماء الى جماعة دينية عابرة للحدود تؤثر بقوة في الحراك السياسي الاقليمي. والمفارقة أن الانتماء الى حزب الاخوان في سوريا يُعرّض صاحبه الى عقوبة الاعدام، أما دعم الاخوان في فلسطين فيعد مقياساً وطنياً لا غبار عليه.
لقد برزت خلال التسعينات من القرن الماضي، تقاربات في الفكر والممارسة بين التيارين القومي والاسلامي. من جهة التيار القومي في السلطة السياسية، كان هذا التقارب ملموساً كما ورد سابقا في مجالات التوعية والتدريس الديني والاستقطاب السياسي للخطاب الديني عن طريق أدوات مجتمعية وجمعياتية، فجرى تشجيع إقحام الموضوع الديني في الانشطة الاجتماعية كافة، وبخاصة تلك الموجهة للشباب. وأضحت المحاضرات تحمل بأغلبيتها طابعاً يعكس بعداً دينياً إن لم تكن محصورة تماماً في هذا الحيز الضيق. وأما المراكز الثقافية التي كانت في مرحلة مضت منارات علم وثقافة وانفتاح على جميع مكونات المجتمع بما فيها الاسلاميون، فلقد توجهت نحو إشراك المتعممين الرسميين في مجمل ندواتها وإقحام الشأن الديني في الشعر والرواية والطب والهندسة. والمتابع لأنشطة الثقافة الرسمية، يلاحظ ميلا يشتد بحسب الحاجة الى هذه المجالات، ويقرأ مثلا، الحجامة بين الدين والعلم، مرض نقص المناعة المكتسبة في القرآن الكريم، الذرة في القرآن الكريم… وكذلك، تعمد الهيئات الثقافية الرسمية الى إشراك رجال الدين في كل الحوارات بمختلف ألوانها، وهذا يعد للوهلة الاولى ظاهرة صحية، وبخاصة إن أتيح لبقية الأطياف المشاركة والحوار، وهذا احتمال ضعيف.
من جهة اخرى، فإن التقارب حاصل بين التيارين في الجهة المقابلة أيضاً، أي في ما يسمى خطأ عند المعارضة، والذي ليس هو إلا شخصيات معارضة تعمل في نطاق أطر ضيقة. فالتيار القومي الناصري أو البعثي والذي يعد نفسه في طليعة المعارضة الوطنية، تقرب ويتقرب من التيار الاسلامي متبنياً خطابه ومتقمصاً صيغته في المجالات كافة. وهذا التيار على الرغم من محدودية تأثيره في جيل الشباب، لكنه يستقطب من خلال تداخله مع التيار الديني وترسيخه لدمج القومي بالديني شريحة مهمة من الشباب الباحثين عن رموز سياسية معارضة.
في وقت قريب، قامت هذه “المعارضة” بالاعتراض لدى “السلطات المختصة” لمنع توزيع كتاب ترجمته دارا نشر محليتان، ووزعته على هامش مؤتمر عن المرأة والتقاليد بعنوان: فلننزع الحجاب، وهو مذكرات لفتاة ايرانية تروي تجربتها مع الحجاب. ومن مرارة السخرية ان هذا الكتاب نشر بموافقة رسمية من وزارة الاعلام، وأدت شكوى “القوميي – إسلاميين” المعارضين الى سحبه من التوزيع، وأدت الى اغلاق تعسفي لداري النشر آنفي الذكر أيضاً. وهذا ليس إلا مثالا على تقاطع المفاهيم والمصالح في المجال السياسي وابتعاد الممارسة الصحية والصحيحة للعمل السياسي بجميع أبعاده.

خامساً: الإيديولوجيات والإصلاحات
في زمن لم تمت فيه الإيديولوجيات القومية والماركسية وإنما خملت نتيجة عوامل عديدة، منها ما سبق وأشرنا إليه، فإن الفكر الديني أو المحافظ لم يجد أمامه إلا التطور في الأوساط الشابة، بعد أن تعرض لقمع عنيف بسبب تبنيه العنف وانتقاله في مرحلة تالية الى العمل السلمي والتبشيري من خلال رضا الدولة وتشجيعها لبعض رموزه الواقعين تحت السيطرة والتوجيه. وبالتالي، فقد تنوعت المنابر الدينية وكثرت مقابل شح لا مثيل له في المجالات المتاحة أمام عمل ثقافي لا ديني وخصوصاً في مجال الشبيبة.
الاصلاحات السياسية والاقتصادية التي حملها معه قرننا الحالي مع تجديد شباب النخبة السياسية في المجتمع السوري، حملت في كنفها جرعات تفاؤل كبيرة ما لبثت أن تقلصت وعادت الى زواياها المظللة بالخيبة. وبالتالي، فحال الشباب من حال المجتمع، هموم حياتية يومية تنحصر بالعمل والبحث عن العمل او الهجرة. من جهة اخرى، تلجأ شريحة واسعة منهم الى الدين وممارساته، التي من الممكن في اعتقادهم أن تبعدهم عن التوتر الناجم عن فشل المشروعات السياسية اللادينية أو فشلهم فيها.
في خضم سنوات التفاؤل الحذر في بداية القرن الحالي، برزت الى العلن منتديات تناقش جميع جوانب الحياة من اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية. ولكن وجود العنصر الشاب في هذه المنتديات ظل في حدوده الدنيا إذ اقتصر الحضور على النخبة الثقافية، ولم تتطرق الحوارات بكثرة الى هموم الشباب ومشاكلهم ومستقبلهم وهجرتهم. بكل الأحوال، لم تدم فسحة الحوار هذه طويلا، إذ سرعان ما أغلقت المنتديات وعدّ نشاطها مخالفة للقوانين وتهديدا للأمن الوطني على الرغم من أن تأثيرها لم يخص إلا قلة قليلة من نخبة المجتمع.
من ناحية اخرى، ابتعد الشباب عن النقابات والالتزام النقابي بسبب عدم قناعتهم بقدرة هذه الأنماط البيروقراطية من التجمعات النفعية على الأخذ بمصالحهم والدفاع عنها، أو على الاقل أن تتيح لهم مجال التعبير عما يحملونه من هموم. في كل الأحوال، فقدت هذه النقابات شرعيتها منذ أن أضحت معينة بقرارات سياسية وذلك منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي. إضافة الى غياب المعرفة بتاريخ وأساليب العمل النقابي الذي كان منتشراً وناجحاً لعقود مضت وذلك من خلال افتقاد المناهج الدراسية حاملة تاريخ هذه البلاد الى اشارات لمراحل مهمة تستحق أن تدرس كونها جزءا لا يتجزأ من تاريخ وطني. هذا التهميش المتعمد، أتيح له أن ينجح من خلال مرافقته بمناهج حولت ما كان يسمى بالتربية المدنية الى وطنية فقومية فاشتراكية، اضافة الى التربية العسكرية التي ألغيت منذ سنتين.
عملية “التثقيف” الموجه هذه، رافقها تصعيد في الشعور بالانتماء الطائفي والعشائري لدى الشباب كما لدى بقية فئات المجمتع، وأضحت الهوية الغالبة تعتمد على المرجعيات الدينية والمناطقية والمذهبية مبتعدة عن المرجعية المدنية الوطنية، بسبب عدم إتاحة المجال لحملة هذا الفكر المدني للتعبير او طرح مشاريعهم وخصوصا في حقل الشباب. أما “الإيديولوجية” السائدة لدى فئة مميزة رسمياً من الشباب، فهي الربح السريع والتمكن من وسائل الراحة الغربية بعيداً من أي تأثر بالمعايير الغربية في مجالات العمل العام والديموقراطية في ما عدا حقل واحد: الجميعات الشبابية في حقول الأعمال والعلاقات العامة.
ففي زمن يعد العمل في إطار المفهوم الصحيح في المجتمع المدني شتيمة من الممكن ان تودي بصاحبها الى عواقب غير سارة، تنشأ جمعيات تهتم بالأعمال لدى الشباب واخرى لدى الشابات وكذلك ينضم هذا “النوع” من الشباب الى جمعيات تُعنى بدعم انشطة معينة بعيدة كل البعد عن السياسة والثقافة. من هذه الجمعيات، شباب، وشباب الأعمال، والعلاقات العامة… الخ. ولا يخفى على أحد أن هذه الجمعيات تحظى مباشرة بمباركة سامية تمنحها السلطات وتعدها في الوقت ذاته مؤشراً على فاعلية المجتمع المدني السوري المهذب والوطني. تعد هذه الجميعات ظاهرة صحية في إطار مجتمع مدني منفتح ومتطور، يكون لكل أطياف المجتمع دور ومكان فيه، ويكون العمل لتنشيطه وتطويره مسموحاً بما يتيحه القانون المدني العادي للعمل على النهوض بالمجتمع سياسياً واقتصادياً وخيرياً واجتماعياً وثقافياً. أما أن يكون ذلك متاحا لفئة دون أخرى، فهذا ينزع عنه شرعية تمثيله لحراك صحيح في المشهد السياسي العام.

خاتمة
لقد شخص المفكر الكبير هشام شرابي(4) بدقة ما يتعرض له الشباب العربي بوجه عام من عوامل سلبية ترافقه منذ الطفولة. بالتالي، يصح هذا التشخيص حتماً من خلال ما اعتمده من عوامل ومؤثرات، للحديث عن الوضع الحالي للشباب السوري. فطغيان السلطة الأبوية من جهة، طرح امام تطور الشاب ثنائية الاستبداد والرضوخ، فهو نشأ في بيته على هذين القيدين اللذين رافقاه خارج الجدران الضيقة للمنزل وأوقعاه في ثنائية مماثلة وذات أبعاد أكثر تشعباً في المجتمع والمدرسة والجامعة والشارع. من جهة اخرى، كان ولا يزال، تمجيد الذكورة في هذه المجتمعات والتي تتأتى مشروعيته من المرجعيات الدينية اضافة الى التقاليد الاجتماعية، يشكل قيداً على نمو طبيعي وصحي للأجيال الشابة بمعزل حتى عن النشاط السياسي. الأمر الذي يؤدي الى تعطيل تكاملية الأدوار بين الجنسين وبعث مفاهيم إقصائية تجاه المرأة منذ الطفولة، وهذا ينعكس حتماً على أسلوب النظر والتعامل في الأعمار اللاحقة مع الأنثى. كل ذلك يوجه توارث الخوف من جيل الى جيل، فلآباء الذين نموا في محيط الحذر والخشية والخوف والتواكل وعدم المسؤولية تجاه الشأن العام، سيورثون حتماً كل هذا الحمل الثقيل الى الأبناء الذين لم تتح لهم مجالات للتنشئة على الفكر النقدي والمنطق التساؤلي، فحملوا بشكل شبه فطري نزعة اللاهتمام واللاوعي في الشأن العام. إن هذا  الخوف المتوارث يحمل بعداً سياسياً بالدرجة الأولى، ولكنه يعكس نمواً لبعض المفاهيم المتشعبة والحاملة لأبعاد اجتماعية ودينية مختلفة أيضاَ.
لم تنته الإيديولوجيات بصورة مطلقة، وهي في حقل الشباب السوري بالتحديد تمر بفترة ركود وخمول، وكل ذلك مرتبط بعوامل ومؤثرات عديدة ومعقدة تم التطرق اليها. بل تطورت أساليب جديدة من التعبيرات الإيديولوجية لدى الجيل الشاب في سوريا من خلال دخول بعض الأفكار الليبرالية بالمعنى المطلق للكلمة، وكذلك للأفكار العدمية بالمعنى المجتزىء، من حيث كونها إيديولوجية العدم النابع من انعدام بصيص الأمل لدى البعض والعصابات السوداء التي تحجب هذه الرؤية لدى البعض الآخر.
ربما كانت الشبيبة السورية تمر في مرحلة ضبابية تدفع بالجزء الكبير الى حصر الاهتمام بأمور الحياة اليومية، ومحاولة تحسين أوضاع المعيشة  تزداد سوءاً يوما بعد يوم لكل فئات المجتمع عدا فاسديه ومفسديه. وجزء آخر يندفع باتجاه السفارات، إما لحرقها مفرغاً بذلك تراكمات تختلط بين الخوف من  الغرب والحقد عليه او الرغبة به. إن أولئك الشبان الذين تداعوا الى تخريب سفارات غربية في دمشق بداية شهر شباط 2006، انما حملوا في تصرفهم هذا مزيجاً مركبا من الجهل والرغبة. ربما يقول مراقب خبيث للاحداث بأن تلك السفارات كان بامكانها ان تمنع عن نفسها الضرر والاحتراق ان هي فتحت أبوابها لنفس المحتجين عليها وأعطتهم تأشيرات سفر الى غرب يسعى شباب عديدون من جميع الفئات السياسية للهجرة اليه والعيش فيه.
وفي الختام، نستعيد عبد الرحمن الكواكبي(5) (1854-1902) صاحب كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، والذي دفع حياته ثمناً لايمانه بمجابهة الاستبداد بجميع وجوهه والجهل والخضوع حين توجه الى الشباب منذ نيف ومئة عام قائلا: “يا قوم: وأريد بكم شباب اليوم، رجال الغد، شباب الفكر، رجال الجد، أُعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الاديان، واُعيذكم من الجهل (…). اناشدكم يا ناشئة الاوطان، ان تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم الا في السنتهم، المعطّل عملهم الا في التثبيط، الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تُدار ولا تدير. وأسألكم عفوهم من العتاب والملام، لانهم مرضى مبتلون، مثقلون بالقيود، ملجمون بالحديد، يقضون حياة خير ما فيها انهم آباؤكم! قد علمتم يا نُجباء من طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد جُمَلاً كافية للتدبر، فاعتبروا بنا واسألوا الله العافية:
نحن الِفنا الادب مع الكبير ولو داس رقابنا. الِفنا الثبات ثبات الاوتاد تحت المطارق، الِفنا الانقياد ولو الى المهالك. الِفنا ان نعتبر التصاغر ادباً والتذلل لطفاً، والتملَق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الاهانة تواضعاً، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً، والبحث عن العموميات فضولاً، ومد النظر الى الغد املاً طويلاً، والاقدام تهوراً، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كُفراً، وحب الوطن جنوناً.
اما انتم، حماكم الله من السوء، فنرجو لكم ان تنشؤوا على غير ذلك، (…) ونرجو لكم ان تبنوا قصور فخاركم على معالي الهمم ومكارم الشيم، ولا على عظام نخرة. وان تعلموا انكم خُلقتم احراراً لتموتوا كراماً، فأجهدوا على ان تحيوا ذلكما اليومين حياة رضية، يتسنى فيها لكل منكم ان يكون سلطاناً مستقلاً في شؤونه لا يحكمه غير الحق، ومديناً وفياً لقومه لا يضن عليهم بعين او عون، وولداً باراً لوطنه، لا يبخل عليه بجزء من فكره ووقته وماله، ومحباً للانسانية ويعمل على ان خير الناس انفعهم للناس، يعلم ان الحياة هي العمل ووباء العمل القنوط، والسعادة هي الامل، ووباء الامل التردد، ويفقه ان القضاء والقدر هما عند الله ما يعلمه ويمضيه، وهما عند الناس السعي والعمل، ويوقن ان كل اثر على ظهر الارض هو من عمل اخوانه البشر، وكل عمل عظيم قد ابتدأ به فردٌ، ثم تعاوره غيره الى ان كمل، فلا يتخيل الانسان في نفسه عجزاً، ولا يتوقع الا خيراً، وخير الخير للانسان ان يعيش حراً مقداماً، او يموت”.

(1) الرئيس السوري بشار الاسد في حديث الى صحيفة “الواشنطن بوست” بتاريخ 24 نيسان 2000.
(2) ياسين الحاج صالح، “نحو جامعة متقدمة وديموقراطية: المسألة الجامعية وقضية الطلاب في سوريا”، نص  محاضرة ألقيت في منتدى جمال الأتاسي للحوار في دمشق ونشرت في 3 كانون الاول 2004 على موقع الحوار المتمدن، www.rezgar.com
(3) تميم وماجد، “اوضاع الشباب في المجتمع السوري” في: فيوليت داغر، اشراف، حقوق الانسان والديموقراطية في سوريا (دمشق: اللجنة العربية لحقوق الانسان بالتعاون مع المفوضية الاوروبية، 2001)، ص 395.
(4) هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي (بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، 1985).
(5) عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاسعباد، دراسة وتحقيق محمد جمال طحان (حلب: دار الاوائل، 2003).

سلام الكواكبي
(باحث سوري في العلوم السياسية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى