لا أملك سوى النظرة المحدّقة التي تسبغ السواد على الوقت
مختارات من شعر الأميركية سيلفيا بلاث يترجمها سامر أبو هواش
مشروع شعري مميز تنكبه الشاعر سامر ابو هواش ترجمة مختارات من نصوص بعض أكبر شعراء اميركا المحدثين عن “منشورات كلمة” و”منشورات الجمل” في ابو ظبي وبيروت.
وسامر ابو هواش هو من اكثر ابناء جيله انفتاحاً، واحتكاكاًَ بالشعر العالمي لا سيما الأميركي الحديث منه وسواه من التجارب العالمية. وهذا ما اكسبه حساً مرهفاً في الترجمة، وكذلك في تجاربه الشعرية المميزة ولا يسعنا هنا الا ان نحيي هذا الشاعر الجميل على جهوده وجديته وشغفه.
المشروع يتضمن اسماء شعرية كبيرة دفعت الشعر العالمي ببصماتها، نختار منها الشاعرة الأميركية سيلفيا بلات (1932 1963) التي انتحرت وهي في الحادية والثلاثين من عمرها لتترك وراءها علامات جديدة محفرة في الشعر.
ولدت سيلفيا بلاث في بوسطن، ماساتشوستس في السابع والعشرين من اكتوبر 1932، والدتها اوريليا شوبر من اصل نمساوي ووالدها اوتو ذو الاصل البولندي كان بروفسوراً في علم الأحياء في جامعة بوسطن. بعد موت الاب عام 1940 انتقلت الأم بابنتها وابنها الاصغر من مدينة وينثروب البحرية الى مدينة ويلزلي حيث عملت الأم كمعلمة لاعالة العائلة. بدأت بلاث بكتابة الشعر في سن الثامنة وحصلت ضمن الحدود المدرسية الضيقة على التشجيع من خلال فوزها بالكثير من المسابقات الشعرية المدرسية التي شاركت بها. في سن السابعة عشرة بدأت بنشر قصائدها وقصصها القصيرة. وفي العام 1952 فازت بجائزة مجلة “مدموزيل” للكتابة السردية، كما باعت ثلاث قصائد لمجلة “هابرز” المرموقة. لكن لم يحل هذا النجاح دون غرق الشاعرة في أولى نوبات الاكتئاب في العام نفسه، ما جعلها ترتكب عدة محاولات انتحار كادت احداها تنجح، ليتم ادخالها الى احد المصحات النفسية حيث عولجت بوسائل شتى منها الصدمة الكهربائية. لتخرج بعدها وتنهي تعليمها الجامعي عام 1955. في العام نفسه سافرت الى انجلترا بمنحة للدراسة في كامبريدج، حيث التقت تيد هيوز واغرمت به، وتزوجته في يونيو في العام 1956. في العام التالي عاد الشاعران الى اميركا حيث مارست بلاث تدريس الادب الانجليزي في جامعة سميث. امضت بلاث العام التالي في بوسطن حيث حضرت صفوف روبرت لويل في جامعة بوسطن، والذي كما اسلفنا كان له تأثير كبير على اتجاهها الشعري، وفي الوقت نفسه تعرفت على عدد من الشعراء ومنهم آن ساكستون وجورج ستارباك. في 1960 ولدت ابنتها فريدا في لندن، وفي العام نفسه نشرت مجموعتها الشعرية الأولى “التمثال”. خلال الأعوام التالية استمرت بلاث بكتابة الشعر بكثافة، وفي العام 1963 نشرت باسم مستعار هو “فيكتوريا لوكاس”روايتها الوحيدة “مرطبان الخواء الرنان” التي سردت فيها تجربتها مع الانهيار العصبي ومحاولات الانتحار والمصحة النفسية، والتي تعلن فيها على لسان بطلتها عن توقها الشديد الى الانتحار التي ستعبر به “سنوات من التلاميذ والمعلمين” من الازدواجية والابتسامات والتنازلات، الى ماضي الخاص”. على الرغم من نوبات مرضها المتكررة عام 1962 فقد اندفعت بلاث وصولاً الى العام 1963 في حمى الكتابة منتجة في احدى المراحل ثلاث او اربع قصائد في اليوم، ليتشكل وقتذاك الجزء الجوهري كماً ونوعاً من تجربتها الشعرية والذي نشر بعد موتها.
في الحادي عشر من اكتوبر انتحرت سيلفيا بلاث عبر وضع رأسها في فرن شقتها في “بريمورث هيل” بلندن. مجموعتها “آرئيل” التي يعتبرها كثر اهم عمل شعري لها، وأحد اهم الأعمال الشعرية في الغرب خلال القرن العشرين، نشرت عام 1965 بعد عامين من وفاتها.
اعمالها الشعرية: “التمثال وقصائد أخرى” (1960) “آرئيل” (1965)، “ثلاث نساء، مونولوغ في ثلاثة اصوات” (1968) “عبور المياه” (1971)، “اشجار الخريف” (1972)، “الأعمال الشعرية الكاملة” (1981)، “قصائد مختارة” (1985)، “بلاث: قصائد” (1998).
محادثة بين الخرائب
تدخل متشامخاً بهو قصري المهيب،
تبعثر بثورات غضبك الجامح
اكاليل الثمر والعيدان المزهرة والطواويس الرائعة،
وتمزق غشاء الحشمة الذي يصد الزوبعة،
قد تهاوت الآن عمارة الجدران البهية،
وها هي الغربان تنعب
فوق الخرائب الرهيبة،
مصقع وهج عينيك العاصفتين
اللتين فيهما يفر السحر
كساحرة فزعة تغادر القصر
حين تبزغ النهارات الحقيقية.
ترسم الانصاب المحطمة كتلاً من الصخر
وبينما تقف منتصراً بمعطفك وياقتك،
أمكث رابطة الجأش
متدثرة بردائي الاغريقي،
عاقدة شعري كامرأة اغريقية،
عالقة في نظرتك السوداء،
وقد استحالت المسرحية تراجيدية:
بعد هذا البلاء العظيم
اي طقوس من الكلمات
يمكن ان ترمم الخراب؟
منظر شتوي مع غربان
مياه الطاحونة تندفع هادرة عبر قناة حجرية،
الى تلك البركة السوداء
حيث ناصعة كالثلج تطفو اوزة وحيدة
عبثية وخارج موسمها، تهزأ بالعقل المكفهر،
التواق الى انعكاسها الابيض.
الشمس الكالحة فوق المستنقع،
عين سيكلوب برتقالية، تأبى المكوث طويلاً
فوق هذا المنظر الكئيب
اتسلل بسواد فكري
كغراب يتأمل المشهد
عندما يهبط ليل الشتاء.
غربان العام الماضي قد نُقشت في الجليد
كما صورتك في عيني؛
جليد جاف يكسو نافذة ألمي
أي شرارة عزاء
يسعني قدحها من الحجر
لأعيد الخضرة الى قفار القلب؟
من سيجوب هذا المكان الموحش؟
مطاردة
نمرُ يتعقبني:
ذات يوم سيكون موتي على انيابه؛
قد أشعل جشعه الأشجار
وها هو يجوس الأرض اكثر زهواً من الشمس
يا لسرعة تلك الخطوات
التي دائماً في اعقابي؛
نعيب الغربان على شجيرات “الشوكران” الهزيلة
يعلن الخراب:
الصيد بدأ واعدّت الشراك.
افر، تجرحني الاشواك، بين الصخور الوعرة.
مضناة بحرّ الظهيرة البيضاء
اي نار تضطرم واي توق ينهض
في شبكة عروقه الحمراء؟
نهماً يجوس الارض الملعونة بخطأ السلالة،
صارخاً: الدماء، فلتسفك الدماء؛
ذلك الجرح في فمه البارد لا يرتقه الا اللحم
باترة انيابه وحلو ذلك الغضب المسفوع على فرائه؛
قبلاته تحرق ومخالبه اشواك برية،
خلف هذا الهر الوحشي،
تضطجع نسوة مضطرمات كألسنة اللهب
من اجل لذته،
يصرن طُعم جسده المتضور جوعاً (…).
أرمي له قلبي لكي اوقف خطوه،
ولأروي ظمأ أرش دمي؛
يأكل، ويظل محتاجاً الى ما يقوت،
الى التضحية الكاملة،
صوته يتربص بي، يرمي فتنة،
الغابة التي فرغت من امعائها
تسقط في رماد؛
اهرع من ضوئه
مروعة برغبة سرية
ادخل برج مخاوفي،
أوصد ابوابي على ذلك الخطأ الأسود،
اضع المزاليج، وارتج كل باب.
الدم في أذني يفور، يقرع:
النمر الآن على السلم،
رويداً رويداً يصعد الدرجات.
شروق جنوبي
ألوان الحامض والمانجو والخوخ،
وتلك المنازل الآتية من الحكايات
وما زالت تحلم خلف النوافذ المقفلة
شرفاتها جميلة كتطاير يدوية،
او رسم زهرة ووريقة شجر.
هلال من السعف الخضراء يتمايل مع الريح
على سيقان مدببة كسيت بقشور الاناناس،
يطلق عالياً ألعابه النارية
فتتفرع كالخوص.
فجر ناصع كالكوارتز،
ضوء ينير، بوصة بعد بوصة،
دربنا كله،
ومن المياه الزرقاء في “خليج الملائكة”
تشرق الشمس
بطيخة حمراء.
مشهد
بين أسطح البيوت البرتقالية
وقدور المداخن
ينسل ضباب المستنقع
رمادياً كالجرذان،
بينما على غصن مرقط
في شجرة الدلب
يجثم غرابان اسودان
ويرسلان نظرة سوداء،
ينتظران هبوط الليل،
بعيون ثملة
شاخصة نحو عابر سبيل
يعبر وحيداً في آخر المساء.
أغنية الشارع
بمعجزة مجنونة أخترق بسلام
حشود الرصيف والشارع والمتجر
ليس من جفن يرف ولا ثغر يتأوه او يصرخ
امام مرأى هذا اللحم المترهل
المتضرج من ساطور الجزار
الذي يتدلى قلبه واحشاؤه من خطافة
ويقطر دماً كبقرة مشقوفة
يقطعها جزارون بسترات بيضاء (…).
حتى عندما زغرد كل عصب مشوه في آلامه
على رقعة الأذن المشاءة،
هكذا، وحدي على الارجح،
كنت ارن بصمت في غيابك،
اسمع صرخة الشمس الظمآنة،
وكل نجمة مذبوحة،
تهوي وتصطدم
واكثر بلادة من اي اوزة
تهذر وتدندن صافرة
ابدية هذا العالم المتصدع.
المستغرقة في ذاتها تناجي ذاتها
انا؟
انا امشي وحيدة؛
وتحت قدمي
يولد شارع منتصف الليل؛
حين اغمض عيني
تنطفئ كل تلك البيوت الحالمة؛
وبنزوة مني
تتدلى عالية فوق الأقواس
غلالة القمر السماوية.
انا
أجعل البيوت
والأشجار تختفي
على ايقاع مشيتي السريعة؛
رسن نظرتي
يربط البشر الدمى الذين، غير واعين بتلاشيهم،
يضحكون ويقبلون ويثملون
غير عالمين انهم يموتون،
اذا قررت ان ارمش.
انا
حين يكون مزاجي حسناً،
اهب العشب خضرته
اسمح للسماء بالزرقة
وامنح الشمس وهجها الذهبي
لكن حين اكون مكتئبة المزاج
امارس سلطتي المطلقة
فأحظر اللون
وأمنع كل زهرة
انا
اعرف أنك تمشي
مزهواً بجانبي
إنكاري لك يخرجك من رأسي
اعترافي بك يشعرك
بما يكفي من لهيب الحب
حتى تصير حقيقياً
مع انه من الجلي تماماً
ان كل ما تملكه من جمال وفطنة
ليس يا حبيبي،
الا هبة مني.
مناجاة الذات في الثالثة فجراً
يحسن ان ينشق كل ثوب
ويتخذ الغضب الصدارة
دماًُ يتشرب الكنبة الزاهية والسجادة
والأرضية والروزنامة
التي على هيئة افعى
التي تثبت انك على بعد
مليون مقاطعة خضراء من هنا،
ثم ان اجلس بكماء مرتعشة هكذا
تحت نجوم تشبه النمش،
لا املك سوى النظرة المحدقة واللعنة
التي تسبغ السواد على الوقت
الذي قيل فيه الوداع،
وانطلقت القطارات
وطُردت، انا النبيلة الحمقاء،
من مملكتي.
عزيمة
يومُ ضباب: يوم بلا بريق
بيدين معطلتين
انتظر عربة الحليب
القطة احادية الأذن
تلعق مخلبها الرمادي
والفحم يشتعل في المدفئة
في الخارج
اصفرت اوراق الشجر على السياج
طبقة حليبية تغشو القناني الفارغة
على عتبة النافذة
لا مجد يأتي
قطرتا ماء تقفان
على ساق خضراء مقوسة
بين أزهار جارتي
آه يا لقوس الاشواك المنحني
القطة ترفع مخالبها
فيتحرك العالم
اليوم
اليوم لن اتحرر من اطبائي الاثني عشر السود الوهم
او ألكم بقبضتي
وجه الرياح.