بصدد مواقف “الإخوان المسلمين” في سوريا
عبد الاله بلقزيز
أنضجت جماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا موقفاً سياسياً عاقلاً ورشيداً إزاء الأوضاع والعلاقات السياسية الداخلية: ما اتصل منها بالعلاقة بنظام الحكم الوطني، وما اتصل منها أيضاً بتمتين نسيج الوحدة الوطنية في مواجهة ما يحدق بسوريا من تهديدات خارجية. وهو موقف عبرت من خلاله الجماعة عن إرادة جريئة لتصحيح سياسة درجت عليها منذ زمن في مناوءة السلطة وركوب خيارات في المعارضة باعدت الشقة بين الفريقين، ووسعت رقعة الشرخ السياسي والنفسي بينهما، وكان من آثارها العزلة السياسية للجماعة في الداخل، والاستثمار الخارجي لآثار الصراع الداخلي لتشديد العزلة السياسية على سوريا في الخارج وإلحاق أبلغ الإساءات بصورتها لدى الرأي العام الغربي.
ولقد كان معلوماً لدينا أن هذا الإنضاج الهادئ للموقف السياسي الإخواني في سوريا بدأ منذ وقت مبكر، وأسفر قبل سنوات عن برنامج عمل استند إلى مراجعة عميقة لأخطاء الحركة في الماضي، واستقر على خيار العمل الديمقراطي السلمي ومن طريق الشرعية القانونية والمؤسسات. وكان معلوماً لدينا أيضا أن هذا البرنامج خرج إلى العلن، وأراد به “الإخوان” لا طيّ صفحة ماض فحسب، بل فتح صفحة تعاون على بناء حقبة جديدة في سوريا. لكن الذي ليس معلوماً لدينا حتى الآن أو بعيداً عما يشاع ويقال هو السبب الذي حمل الجماعة على الخوض في خيارات وتحالفات أخرى (آخرها “جبهة الخلاص الوطني”) لم يكن من معنى لها، ولا من مآل، سوى قطع آصرة التفاهم بينها وبين النظام، وهو عين ما حصل منذ النصف الثاني من عام 2005.
كان في حوزة الجماعة ظرفية سياسية مثالية لتغليب موقفها الوطني السوري على موقفها الحركي الإخواني، وإقامة الدليل على صدق توجهها وصدقية مراجعتها وحمل المتشككين في طويتها على كسب ثقتها. ولم تكن تلك الظرفية المثالية التي نعني سوى سنوات 2005 2008: السنوات الأصعب في تاريخ سوريا المعاصر، حيث اشتد عليها خناق الضغط الأمريكي والأوروبي، وحوصرت سياسياً، وحرّكت في وجه استقرارها أدوات من الداخل والجوار، وأوشك أمنها وسيادتها على التعرض لامتحان الاستباحة الأجنبية. ولسبب نجهله (أو قل يجهله كاتب هذه السطور: لأنه يأبى أن يتعامل مع الإشاعات بحسبانها معلومات دقيقة)، اختارت الجماعة أن تسلك في السياسة نهجاً آخر ما كان له في أقل أحواله سوى أن يقدم مساهمته، ولو من طريق غير مباشر، في المزيد من إحكام طوق الخناق على الوضع الرسمي في سوريا، وتوفير الشرعية الداخلية للضغوط الخارجية على النظام باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في لحظة سيئة من فقدان التوازن السياسي، كانت أيدينا على قلوبنا ونحن نسمع أو نقرأ مفردات “سياسية” معارضة ملتبسة العلاقة باللغة الطائفية والمذهبية البغيضة (وليس بعض ألسنة “الإخوان” وحده مسؤولاً عن ذلك: من باب الأمانة)، ثم كان يأخذنا العجب الشديد من حلف الجماعة المفاجئ مع عبد الحليم خدام، وقد كان في عرفها إلى عهد قريب واحداً من عناوين نكبتها في الماضي. لكن العجب الأكبر كان في اتصال ذلك الحلف ببرنامج “نشر الديمقراطية” الأمريكي في “الشرق الأوسط الأوسع” وعدم تمييز الجماعة نفسها عن البرنامج إياه وبعض ممن جهر بالانتظام داخله من حلفائها في “الجبهة”.
وأياً كانت الأسباب التي دعتها إلى ركوب هذا النوع من السياسات في هذا النوع من اللحظات المفصلية التي تعرض فيها البلد لامتحان عسير، فإن موقف الجماعة الأخير بالخروج من “جبهة الخلاص الوطني” وفك تحالفها مع عبدالحليم خدام، وقبله تعليق نشاطها السياسي المعارض للنظام تأييداً منها لمواقفه الوطنية، يصحح مساراً سابقاً سلكته، ويعيدها إلى الموقع الطبيعي الذي يفترض أن تكون فيه دائماً: موقع المشاركة في تحصين المنعة الذاتية للوطن وتعزيز قدرة سوريا على الصمود في وجه الضغط الأجنبي والعدوان الصهيوني، والمشاركة في بناء تطوره السياسي من خلال المؤسسات الدستورية والحوار الوطني الصادق.
ولقد يتساءل من يتساءل لماذا أتينا على ذكر مواقف الجماعة في مرحلة العسر السياسي والوطني بين العامين 2005 و2008 فيما هي تخطو نحو خيار الحوار وتصويب نهج العلاقة بالسلطة؟ وهل في إيراد تلك المواقف، في معرض هذا المتغير الإخواني، رغبة في تعكير صفو العلاقة من طريق محاسبة الجماعة بمفعول رجعي، أو رغبة في التشكيك في صدق ما تقوله اليوم بقياسه على ما قالته بالأمس القريب وعاكسته .. الخ؟ وللمتسائل نقول إن الهدف من التذكير إنما ينصرف إلى أمر واحد وحيد وهو مصارحة القائمين على الجماعة بحاجتها وحاجة أية قوة سياسية أو اجتماعية أخرى إلى تجنب هدر الفرص التي تتاح في بيئة العمل العام، لأن إضاعتها قد تصبح فادحة التكلفة عليها وعلى تلك البيئة. وهذا الكلام ليس مصروفاً لمحاسبتها على مواقف الماضي، بل هو مصروف للحسبان في المستقبل.
وإذا كان أعداء سوريا وخصومها قد طووا أو أوشكوا أن يطووا صفحة المواجهة معها، فلِمَ استكثار هذا الخيار العاقل على قسم من أبناء الوطن تولّدت لديه هذه الإرادة في لحظة مراجعة صادقة للنفس؟ ثم لِمَ في أنفس هؤلاء النّقدة الناقصين رغبة في رؤية “الإخوان المسلمين” السوريين على شاكلة “الحزب الإسلامي” في العراق لا على شاكلة “الإخوان المسلمين” في فلسطين والأردن ومصر: وطنيين منحازين لقضايا الوطن والأمة.
على الجماعة ألا تلتفت إلى مثل هذا النقد. لقد اختارت طريقها بشجاعة سياسية وأدبية وعليها أن تمشي فيه من دون تردد خدمة للوطن ووحدته واستقراره. لا أحد في سوريا سيؤاخذها على الواقعية والرشد السياسي مثلما آخذها في الماضي على ما اعتبره غلوّاً أو اندفاعاً.
الخليج