أرض الشعر الخراب
فخري صالح
يواجه الشعر العربي في الوقت الراهن معضلة معقدة في علاقته بالجمهور. وباستثناء عدد قليل من الشعراء، يعدون على أصابع اليد الواحدة، وعلى رأسهم الشاعر الراحل محمود درويش، ليس للشعر سوق رائجة. واللافت للانتباه هو أنه على رغم التحولات العميقة، التي مر بها الشعر العربي خلال ما يزيد على نصف قرن، إلا أن الرؤية الجمالية التي تحكم ذائقة العرب للشعر ما زالت هي هي لم تتبدل ولم يمسسها سحر التغير الذي طرأ في حقل الكتابة الشعرية نفسها. لقد ظل القراء في واد ومنتجو الشعر في واد آخر. أقل ما يمكن أن يقال هو أن الشعراء، ونقاد الشعر، خلال النصف الثاني من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بقوا سائرين في درب نخبوي، غير منتبهين إلى ابتعاد القراء يوماً بعد يوم عن عالم الشعر والشعراء.
تلك رؤية متشائمة ولكن هناك الكثير من الأدلة التي تسندها: على صعيد النشر، فدور النشر العربية لا تحبذ نشر الشعر باستثناء القليل منها الذي ينشر لشعراء كتاباتهم رائجة عند جمهور القراء؛ وعلى صعيد استقبال الشعر، فالأمسيات الشعرية لم تعد تستقطب جماهير المستمعين، وبات الحضور هم من أصدقاء الشاعر أو أهله أو من المهتمين الذين قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة؛ وعلى صعيد نقد الشعر إذ تناقص عدد النقاد والمنظرين العرب الذين يهتمون بالشعر في كتاباتهم وتحول عدد كبير منهم إلى نقد الرواية التي أصبحت النوع الأدبي الأكثر مقروئية والأكثر رواجاً والأكثر استقطاباً للجوائز التي تثير الضجيج وتجذب فراش الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، كما تثير الصخب على صفحات المدونات بين الشباب وربما الشيوخ أيضاً.
خبا ضوء الشعر، الشكل الأكثر كثافة في التعبير عن قضايا الإنسان الكبرى وعن تجربته الوجودية العميقة. كما أن هذا الشكل الذي يلتصق بالتجارب الأولى لتعبير الإنسان عن نفسه، والتأتأة الأولى التي انبثقت منها اللغات البشرية، بدأ يتوارى في العالم كله لمصلحة أشكال تعبيرية منها الرواية، كما ذكرت، والسينما والفيديو كليب وكل ما يعرض على شاشات التلفزيون، وما يبتكره البشر، من جهات الأرض جميعاً، ويسبح على شاشات الحاسوب ويظهر كلما أبحرنا في مياه الشبكة العنكبوتية المزدحمة بالأشكال والمعارف جميعها، الغث والسمين منها.
وسط هذه التحولات جميعاً، على صعيد الكتابة الشعرية، والتحولات النظرية الخاصة بتعريف مفهوم الشعر، وغزو أشكال التعبير الأخرى من سينما ومسرح وفيديو للكتابة الشعرية في الوقت الراهن، ما زال قسم من القراء العرب يقيم في زمان سابق مؤمناً أن الشعر إيقاع صاخب مقعقع، وأنه مجرد صور تتوالى. يعود ذلك إلى غلبة الرؤية الكلاسيكية للشعر في ما يقرؤه الطلبة في المدارس والجامعات، حتى لو كانت بعض نصوص بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ومحمود درويش قد تسللت إلى مقررات الدراسة. إن المدرس ما زال يقول للطالب إن الشعر الحقيقي هو شعر زهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وأبي تمام والمتنبي، فكيف يقتنع الطالب المسكين بأن محمد الماغوط شاعر يعبر عن زمانه العربي الراهن ويخترق حجب الأزمنة كما فعل المتنبي وأمرؤ القيس؟
المشكلة كامنة في تربية الذائقة، في توجيهها وجهة محددة وإرغامها على رفض الجديد وعدم الدخول في الزمان الجديد. لكن هذا التوجيه المعاكس لرياح العصر، والذي يجعل الشباب في حيرة من أمرهم عندما يشاهدون كل هذه التحولات في العلم والمعرفة والتكنولوجيا وطرائق العيش في الوقت الذي يطلب منهم أن يتجمدوا عند ما أنجزه الأسلاف من شعر. إن الحل الأسهل بالنسبة لهم هو أن يديروا ظهورهم للشعر كله، ما داموا لم يعطوا مفاتيح قراءته.
الحياة