عناية جابر تصدر مختاراتها الشعرية في القاهرة:لا أنوثة ولا إغواء بل جسد متألم فقط!
ناظم السيد
بيروت – ‘القدس العربي’ المختارات الشعرية التي أصدرتها عناية جابر عن ‘الهيئة العامة لقصور الثقافة’ في مصر، بعنوان ‘لا أخوات لي’، تتيح للقارئ أن يعيد تأليف الشاعرة جملة جملة وكتاباً كتاباً. ليس الهدف بالطبع قراءة نتاج جابر قراءة كرونولوجية وإنما إلقاء نظرة طولية في الزمن وعريضة في التجربة على هذا النتاج لشاعرة من جيل الثمانينات، لواحدة من أكثر الشاعرات والشعراء شعرية في هذا الجيل. المختارات الشعرية تعيد تصنيف عناية جابر التي لم يتم تصنيفها تحت وطأة القراءات الشعرية ‘العادية’ لكل إصدار لها على حدة وفي سياق الإصدار فحسب. ولهذا فإن جمع أكثر من مجموعة شعرية للشاعرة في كتاب واحد يجعلنا نقف إزاء هذا النتاج الشعري ليس من باب المناسبة بل من باب إعادة التقييم نفياً أو إثباتاً.
على مدى المجموعات الست التي ضمّنتها المختارات ‘أمور بسيطة’، ‘مزاج خاسر’، ‘ثم إنني مشغولة’، ‘ساتان أبيض’، ‘جميع أسبابنا’ و’أستعد للعشاء’، تختبئ عناية جابر المرأة لتبرز الشاعرة فقط. من الصعب قراءة شعر عناية جابر قراءة نسوية أو نسائية حتى. ليس هنا إلا الألم بصيغته البشرية. لا جنس للألم في شعر جابر. لا جنس للشعر في شعر جابر. تكتب الشاعرة خافية عنا جسدها. تكتب مخبئة أنوثتها وعلاماتها الفارقة كامرأة. عناية جابر واحدة من شاعرات قليلات في لبنان اليوم يصدرن تجاه الشعر من موقع لا يتكئ على المرأة. إنهن شاعرات الألم الذي ليس لديه أعضاء جنسية تدل عليه (صباح زوين، سوزان عليوان مثلاً). جسد المرأة في هذا الشعر الذي نترصده ليس جسداً مشتهى، ولا مغوياً، ولا متأوهاً تلك التأوهات الشبقة. إنه جسد متألم فقط. جسد مسحوق بأنوثته. جسد تتغلب فيه شهوات القاع على شهوات البروز، وشهوات العتمة على شهوات الأضواء الداعرة. بهذا المعنى، فإن أي دلالة على الأنوثة في شعر عناية جابر هي دلالة على الألم، وأي سبيل إلى الإغواء في هذه القصائد هو سبيل إلى الشفقة: ‘إن لي هيئة من يعرف/ لا جدوى الأشياء/ هل كانت حياة/ في الخامسة عشرة/ أم أنه الألم/ يضرب بصبر نافد/ شكل طفولتي/ بسروالي الداخلي/ وعيوني المفتوحة/ يلمسني/ في مواضعي الرقيقة/ أتسربل بضباب/ يرقق استدارتي/ يمحوها’ (صفحة 48).
ليس من المبالغة القول إن الغزل والفخر والمديح هي أغراض الألم في شعر عناية جابر. الحب في هذا الشعر لا يقوم على الإغواء بل على تشوّه الجسد ونقص الحواس: ‘أتساءل أحياناً/ أن لك… لو تعلم/ جمالاً عصبياً ومشية جريحة’ (صفحة 203)، أو ‘يدك ممدودة الآن/ الظهور العجائبي/ ولا/ يُصدّق/ أبداً لن أراك/ بجسدي المذنب/ تطير عالياً/ أزرقَ فاتحاً/ تملأ السماء/ الألم جيداً/ عيون كبيرة/ في وجه وحيد’ (صفحة 157). إن النظر بهذه الطريقة إلى الآخر يكشف صورة الشاعرة أمام نفسها: خليط من الرقة والهشاشة وهجران الأنا النسوية. الألم في شعر عناية جابر لا يقتصر على الألم الجسماني، الألم الصادر عن ضعف في الجسد إزاء الآخر، بل يمتد إلى الخارج أيضاً. ألم يشع من الجسم إلى ما حوله. لهذا ليس في شعر جابر وصف خارجي واضح لدرجة يشكل معها ملمحاً. لا وصف للمدن بل للألم في المدن. لا وصف للبيت أو للشارع بل للألم فيهما. إنها الشاعرة التي تحمل معها داخلها الجريح أينما ذهبت. الشاعرة التي تنظر طوال الوقت إلى هذا العالم الجوّاني والضئيل والمتقشف لكنْ ذي الآثار البليغة: ‘لأن لي وجنتين سمينتين/ وخصراً خاوياً/ تصلبني هكذا من ريبتي/ إزاء العالم الذي حلَّ/ في برهة حاذقة/ من مساء شتوي/ يتخفف من ألمي/ ويتنصت عليَّ/ أبداً، القصائد/ لم تكن تكفي/ وما كانت أصلاً/ غير حروف ملآنة بالرضوض/ أكثر يأساً/ كيما تبدي اعتذاراً/ للماء في استغراقه/ وإطراقه البعيد’ (صفحة 30).
إذا كان شعر عناية جابر استدعاء للموت في مطارح كثيرة منه، فإنه أيضاً شعر حب. قد يكون الحب هنا ليس سوى استكمال للألم، إضاءة على ما يناقض الموت. على مدار المجموعات الشعرية الست تبرز الشاعرة مأخوذة أمام الرجل. أداة الإغراء الوحيدة التي تتقنها الشاعرة هنا هو الحب. بجسد هزيل وقلب كأنه يد ممدودة باستمرار تقف الشاعرة أمام الرجل كاشفة له ضعفها. إنه حب ليس للمتعة بل لتوكيد الألم. كأن الحب هنا برهنة على عدمه. الحب ليس إلا أداة وصل بين ألمين: ‘الحب يكون البارحة/ حيث نام جسدك/ نامت يداك الخفيفتان/ في الفرجة الهادئة/ دعني مع ذلك أخطئ/ ليس في الصلاة، إنما/ في الحاجة إليها’ (صفحة 144)، ‘إنك تنتشر في الكلمات/ وفي التنفس/ أصفر/ مغطى بحطامك/ تعرق قليلاً جداً/ مطوقاً وملآن/ بصوت الماء… أيام حسنة، أيام سيئة/ ورد يتفتح تحت الجلد/ تعاودني،/ أنت تعاودني/ جسداً نائماً في العراء/ يتقلب عليه الغيم'(صفحة 147)، ‘البحر لا يبدو من هنا،/ ولكنك تقول لي شيئاً/ يجعلني أتنهد’ (صفحة 173)، ‘ذراع الليل الطويلة/ وضوع عطرها/ ثم قدماك عديمتا المهارة/ قدماك قرب قدميَّ/ ملطختان بالليل ذاته’ (صفحة 199).
ما تقدّم لا يصنع قصيدة. الاستناد على المضمون وحده لا يكفي لإنتاج شعرية عالية. لهذا فإن قصيدة عناية جابر مشغولة بحرفة أيضاً. هي قصيدة الحذف والإشارة والتلميح. يمكن للقارئ الشعري الأعلى أن يكشف بسهولة المناطق المتروكة فارغة في هذه القصيدة، المناطق غير الآهلة إذا صحَّ التعبير. الحذف في مثل هذه النصوص يلعب دور الحارس الشخصي للمعنى الشعري. تحذف عناية جابر لتحمي المعنى الذي تريد إيصاله. لتحميه من الثرثرة والتكرار والابتذال. ليست الحماية فقط وإنما إنتاج معنى آخر من خلال الحذف. نحن أمام قصيدة لا تقوم أحياناً على حذف الزوائد والنوافل فقط بل على تكنيك الحذف. يدخل الحذف كجزء من بناء النص الشعري. ثمة حذف في الأفعال وحذف في أدوات الوصل. أحياناً لإنجاز هذه المهمة تلجأ الشاعرة إلى عطف الأفعال على جمل اسمية في محاولة اقتراح لغوي جديد: ‘قوة الحب/ ويصطفق الهواء من انهياره… القبلة/ وعبرت وحدها…. ضعفي الرائع/ أنامني على باب بيتك/ ويصرُّ حلم/ تحت جفني…. لن أعبر، أسرع من النوارس،/ المحيطات/ وبقي منها نقطة صغيرة’ (صفحة 139).
والحال، فإن البناء في قصيدة عناية جابر (جزء من عملها الشعري) لا يتم عبر المعنى وإنما عبر التكنيك وأدوات الربط والعطف. مثل هذا التكنيك لا يلبث أن يتحول بحد ذاته إلى معنى. ذلك أن المعنى ينتج هنا من حذف أفعال ضرورية في الجمل المفيدة أو عبر الربط بالأسماء الموصولة أو عبر أحرف العطف.
وفي مرات كثيرة تلعب أحرف العطف دور المونتاج في السينما. المونتاج الذي لا يهدف إلى تلخيص الفيلم بقدر ما يهدف إلى تأسيس لغة خاصة وإنتاج معنى خاص. يُضاف إلى هذه العناصر الإجادة في استخدام الأفعال: ‘لأنك تتلف امرأة رقيقة مثلي’ (صفحة 32) أو ‘أتنامى كهرة رغدة’ (صفحة 36)، والقدرة على التقديم والتأخير بما يفيد تأجيل الضربة الشعرية حتى النهاية أو ما يُسمّى تجميد المعنى وتمديد الإعلان عنه: ‘بعينين متورمتين/ ليس من الأسى/ بل من الزكام/ أقرع أبواب الجيران/ خبطات محيِّرة/ أريد شراباً ساخناً/ ‘باندول’/ أحد يسليني/ يا لرقة الرشح/ في قميص النوم/ يد تلمسني’ (صفحة 54).
أخيراً، تتيح مختارات عناية جابر الشعرية هذه، إعادة موضعة الشاعرة في الشعر اللبناني الحديث بعيداً عن المزاعم الكثيرة التي تُؤخذ على هذا الشعر وتأخذ معها القارئ الغفل.
القدس العربي