أسئلة الحرية والابداع والهوية اليوم: عندما يصبح الجزائري من بلد ‘الشاب خالد’!
أحلام مستغانمي
كنت أكثر سعادة قبل أن أقبل دعوة المشاركة في ندوة عن ‘الحرية والإبداع’. أو على الأصح، كنت أظنّني أكثر حريّة قبل أن أجدَني مجبرة على التفكير في أسئلة الحريّة.
منذ سنوات وأنا أقاطع الملتقيات التي تعقد حول الإبداع. أراها شخصيًّا محرقة لوقت المبدع ليس أكثر.
أظنّني هذه المرّة وقعت في فخ كلمة ‘الحرية’ كمن يقيس عمق النهر بأقدامه حاولت أن أقيس حريّتي ككاتبة بالأسئلة.
لا أعرف لعبة أخطر.
يكفي أن تحاول أن تفهم لتكون قد دخلت في حالة عصيان. ‘الحرية فضّاحة لمن دونها’ حسب أنسي الحاج. وأنت ما زلت تحبو في روضة الحرية. ذلك أنّ أوّل درس تلقّيته في الديمقراطية كان من جلادك وبأمر منه.
لكأنّ الديمقراطية تتعدّى عليك. ترغمك أن تصبح حرًّا رغم أنفك لأنّ النبي ‘بوش’ كان قد أراد لك ذلك.
سنوات وأنا أقاطع كلمة ‘الحرية’ نكاية في الديمقراطية المستوردة.
أرفض أن أحلّ ضيفة على الفضائيّات التي تشتق اسمها من هذه الكلمة.. كي أثبت أنّني ‘حرّة’ أكثر منها.
لم أعثر على طريقة أخرى لممارسة حريتي غير رفض هبة الحرية. برغم حاجتي إليها ككاتبة.
الكاتب أمين على الذاكرة. وهي أخطر المسؤوليات على الإطلاق. فعلى رواية التاريخ يقوم الصراع مع أعدائنا، وعلى روايته نؤسّس ذاكرة أجيالنا القادمة.
مهمّة كهذه، تحتاج إلى مسافة لوضوح الرؤية. وإلى حريّة مطلقة يخاطر الكاتب بانتزاعها في كلّ صفحة، ليس فقط من كلّ رقيب، بل من كلّ قارئ على حدة. ذلك أن الحريّة عندنا قد تضيق إلى حدّ تزن فيه كلّ كلمة روح صاحبها.
ذات يوم قد يستيقظ الكاتب وإذا بقارئ يردّ عليه بالطعنات عن كتاب كتبه قبل سنوات.
فمن دون كتّاب العالم، وحده الكاتب العربي لا يكتب لقارئ، بل لقاتل محتمل.
سبعون كاتباً وصحافياً سقطوا في الجزائر في عشريّة الدم وسنوات الإرهاب مخضّبين بحبرهم، على يد قرّاء لم يقرؤوهم، لكنّهم على قناعة بأنّهم يملكون حقًّا إلهيًّا يفوّضهم واجب محاسبتهم وقطع رؤوسهم وكسر أقلامهم إلى الأبد.
على مدى سنوات، ظلّت أرواحهم تسكنني ودماؤهم تتدفّق على أوراقي كلّما جلست للكتابة حتى فاضت بهم رواياتي. وما كانوا حالة استثنائيّة في تاريخ جرائم الحبر العربيّة. فقد تكرّر المشهد نفسه في بيروت وفي بغداد وفي مصر.
حين قبل عشر سنوات، التقيت بنجيب محفوظ – رحمه الله – في لقاء فريد بمناسبة نيلي جائزة تحمل اسمه، آلمني منظر يده اليمنى التي كان يمسك بها طوال الوقت. بعد أن شلّتها طعنة تلقّاها من شاب لم يقرأه، لكنّه كان موعوداً بالجنة إن هو قتله.
لسنوات ظلّ يحمل جثّتها المعلّقة إلى جسده. يمسك بها، خشية أن يعودوا ويأخذوها منه، برغم أنّها ما عادت تقدر على الإمساك بقلم.
يدٌ تستوقفك. تخجلك. تربكك. تبكيك. فما الكاتب سوى يد.
كانت تختصر ما لا يُحصى من أيدٍ لكتّاب عبر تاريخ القهر العربي، نكّل الحكّام حيناً والظلاميّون حيناً بأعمارهم.
لم أقاوم رغبة في تقبيلها، فانحنيت عليها وبكيت. كنت أقبّل يد الإبداع ويد الحريّة، فما عرفت لهما رمزاً غير تلك اليد المشلولة لكاتب عربي صنع مجدنا وصنعنا مأساته.
لا أدري من أين عاد إليّ شبح تلك اليد، فأيقظ هواجسي.
كان يكفي أن يُطلب منّي كتابة رأيي في العلاقة بين الحريّة والإبداع بخطّ يدي، حتى ينتابني هلع الحبر. ما دمت كائناً حبريًّا ما الذي أخافني؟
لعلي خفت من يدي. أو أن أنفضح ببصمة أحرفي. أو خفت أن يوثّق هذا الضوء ما حميته بعتمتي.
المبدع العربي هو الابن الشرعي للخوف. لا ولاء له إلا له. لا يغادر دوائر الخوف، مخافة ألا يعود يتعرّف على نفسه. فالخوف يدخل في خريطة جيناته. لقد اختصر محمد الماغوط سيرة كلّ المبدعين العرب في جملة واحدة:’ ولدت مذعوراً.. وسأموت مذعوراً’، وهو القائل أيضاً ‘عندي احتياطي من الخوف لا ينضب مثل البترول’.
بعد ثلاثة عقود، ما زال قول يوسف إدريس يصلح شعاراً لملتقى عن الحرية والإبداع:
‘إنّ كميّة الأوكسجين في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً’.
ما زال المبدع العربي لا يشعر بالأمان في بلد عربي. وما زال بحكم العادة، لا يتنفّس سوى برئة واحدة. فقد تربّى على تقنين حقّه في الأوكسجين.
لذا، يهاجر المبدعون العرب كالطيور أسراباً، بحثاً عن وطن للحرية. ذلك أنّ الحريّة شقيقة الإبداع. إنّها السماء التي من دونها لا يمكن لمبدع أن يحلّق. هي نداء المدى.
إن كان حتى تحليق الفراشة البسيط، يحتاج حسب بول كلوديل إلى السماء كلّها. كيف يمكن لنسر الإبداع أن يحلّق ويكتب على علوّ منخفض للخوف؟ أن تكتب، يعني أن تفكّر ضدّ نفسك. أن تجادل. أن تعارض. أن تجازف. أن تعي منذ البداية ألا أدب خارج المحظور. ولا إبداع خارج الممنوع.
الإبداع انتهاك دائم للمألوف. تعدٍّ على ميراث الأجوبة النهائيّة. إنّه حالة عصيان فكري.
لذا، على من يطمع في إبداع شاهق، يخترق سقف الحريّة، أن يكون جاهزاً لكلّ شيء. بما في ذلك الموت مقابل حفنة من الكلمات.
ذلك أنّ الكتابة في العالم العربي ستظلّ أخطر مهنة، والتفكير أكبر تهمة. حتى أنّه يشترك مع التكفير في كلّ حروفه، ويكاد يبدو أمامه مجرّد زلّة لسان.
كيف حال الحرية في العالم العربي؟
تملكون أجوبة على هذا السؤال بعدد المبدعين العرب الذين يعيشون ويموتون منذ نصف قرن في غير أوطانهم. مشرّدين بين المنافي القسرية وتلك الاختيارية، في انتظار أن يثأروا بموتهم لتاريخ طاعن في الاستخفاف والظلم. عساهم يعودون كباراً لأوطان كانت تحتاجهم أمواتاً لتكبر بجثامينهم. وتحتاج صمتهم الأبدي حتى لا يقاطع أحد صوتها.
من قال أنّهم يريدوننا أحياء؟
أوطان تحتفي بموت مبدعيها إلى هذا الحدّ، وتتجاهلهم أحياء إلى هذا الحدّ. كيف نصدّق حسن نواياها؟
لفرط تدليلهم لنا أمواتاً حبّبوا لنا الموت. ما عدنا نخافه. أصبحنا في موسم الهجرة الأخيرة إلى الوطن، ننظّم إليه سفريات جماعيّة. نتسابق، نتدافع كي نفوز بأجمل جنازة عربيّة لكاتب.
الأمر أصبح يستدعي تنظيم مسابقة بين الدول العربية للفوز بجائزة أفضل جنازة لمبدع عربي. حسب رأيكم هل هي جنازة نجيب محفوظ، أم محمود درويش، أم نزار قباني، أم منصور الرحباني، أم مصطفى العقّاد، أم الطيّب صالح؟ وأعتذر إن كنت لا أملك نموذجاً عن الجزائر. فمحمد ديب أحد كبار كتّابنا، الذي كان مرشّحاً لنوبل، مات قبل سنوات تاركاً وصيّة ألا يدفن في الجزائر. مما يجعلنا خارج المسابقة. لكن هذا لا يعني أبداً أنّنا الأسوأ. نحن فقط نحترم الوصايا. ثمّة بلاد تعتبر المبدع ملكها الخاص حيًّا وميْتاً.
و ميْتاً أكثر منه حيًّا. ولا تسأله إن كان يريد أن يعود إليها جثماناً.. هل سألَتْهُ أصلاً.. لماذا ما كان يستطيع العيش فيها؟
حين يلتقي المبدعون العرب في مناسبة ما، لا أحد يسأل الثاني من أين هو؟ بل من أين جاء؟ لا أحد يأتي من حيث نتوقّعه. لكلّ مبدع وطنان، واحد يحمله وآخر يسكنه. يقيم في الأوّل ريثما يدفن في الثاني. الحرية هي أيضاً حقّك في أن يكون لك وطن واحد تعيش وتموت فيه حرًّا، كريماً. فالكرامة أهم من التكريم.
من يكرّمك ميْتاً، يكرّم نفسه بك. يستفيد من صمتك الأبديّ ليقوّل جثمانك ما يشاء.لكن عندما يصمت الكاتب ينطق التاريخ. ماذا كان بإمكان ياسر عرفات أن يقول أمام جثمان محمود درويش، لو أنّه عاش وشاهد جنازته؟
و ما جدوى أن تكون السلطة الفلسطينيّة قد طبعت أكثر من خمسة آلاف علم عليها صورة درويش لتوزيعها خلال التشييع، وأن تصدر طابع بريد عليه صورته؟ وأن تخصّه بجنازة الرؤساء وقد قاصصَتْه قبل ذلك بسنوات قصاص الغرباء والأعداء. عندما رفض اتفاقيّة ‘أوسلو’ وقدّم استقالته من عضوية اللجنة التنفيذيّة احتجاجاً؟
الشاعر الذي كان رمز المقاومة. لم تشفع له جماهيريّته، ولم يحمه اسمه. لقد عومل كموظف عصى أمر مديره. فقد أصدر الرئيس الراحل ياسر عرفات أوامره حينها بوقف مخصّصات محمود درويش المالية، ومن بينها أجرة الشقة المتواضعة التي كان يقيم فيها في باريس. وقضى أشهراً قلّ ما يغادر بيته إلى مقهى أو مطعم خشية أن يلتفّ حوله المحبون ولا يستطيع دفع الفاتورة.
حتى سطوة اسم كاتب في حجم محمود درويش لا تحميه من الغضب الإلهي للسلطة. لقد خضع للحصار والمقاطعة والجحود والإقصاء وكان يردّد مازحاً لشرح وضعه ‘لا نقود.. لا نفوذ.. لا يهود’.
ذلك أنّ الأنظمة العربيّة لا تقبل بأقلّ من إذعان المبدع وانضمامه إلى حظيرة دواجنها وماشيتها.
سلطة الاسم قد تحمي الكاتب من الاعتقال، ولكن لا تحميه من أنواع أخرى من القصاص المادي والمعنوي وحده يدري بها قد تتجاوزه إلى أهله وأقرب الناس إليه. وفي حياة كلّ كاتب عربي كبير، أعني كبيراً بمواقفه، قصصٌ تنتظر أن يكشفها التاريخ يوماً.
وأتساءل، لو عاش الطيّب صالح إلى اليوم، وقدّمت له حين زيارته للسودان عصاً ليرقص بها مع عمر البشير فوق 200 ألف جثة ورفض العرض، هل كانت ستقام له جنازة رسميّة بذلك الحجم وبتلك الوجاهة؟ لكنّه مات في الوقت المناسب وأهداهم بجثمانه المتعب بعد عمر من الاغتراب فرصة أن يتطّهروا ويتوضّؤوا بدمه.
هذا هو بالضبط المطلوب منّا. أن نواصل حتى بعد موتنا تجميل من شوّهوا حياتنا وسطوا على أحلامنا. لقد اكتسبت الأنظمة العربيّة خبرة وذكاءً في إسكات الكاتب حتى لو اقتضى الأمر تكريمه بعد أن تأكّد لها أنّ الثقافة ما عادت تشكّل خطراً عليها.
مع موت كلّ قامة إبداعيّة يموت رمز، وتخلو لهم الساحة. وحتى أثناء حياتهم، كانت حملات التشهير والتخوين والتكفير تطال المبدعين بالتناوب. كأنّما ثمّة سياسة لتشويه كلّ اسم نظيف في هذه الأمّة يمكن الاقتداء به.
ذلك أنّ الأمم تحيا برموزها وتكبر بها. وكلّ جيل يحتاج أن يعاصر رموزاً أكبر من أن تقول ‘ نعم ‘ وتمشي مع القطيع. إحدى مِحَن هذه الأمّة موت الرموز.
الرمز والقدوة اليوم هو المغنّي. أعني المغنّي الذي لا قضيّة له. يكفي أن يظهر في برنامج تلفزيوني ليبلغ النجوميّة ولاحقاً الثراء الفاحش دون جهد ولا تضحيات. ما حاجة الشباب إلى المبادئ وسمّ البدن الذي عشنا عليه؟
وصلت إلى بيروت في التسعينات وفي حوزتي مخطوط ‘ذاكرة الجسد’ من أربعمئة صفحة قضيْتُ أربع سنوات في نحتها جملة، جملة.. لتضمينها نصف قرن من نضال الجزائر. وكنت ما أكاد أُعلن عن هويّتي حتى يجاملني أحدهم قائلاً ‘ آه أنت من بلد الشاب خالد ‘ ثمّ يسألني عن معنى (دي دي واه). أشهراً وأنا أعتذر عن جهلي وأميّتي أمام أغنية من كلمتين قذفت بصاحبها إلى النجوميّة العالميّة والثراء.
في الخمسينات كان الجزائري يُنسب إلى بلد الأمير عبد القادر وفي الستينات إلى بلد أحمد بن بلّة وجميلة بوحيرد.. وفي السبعينات إلى بلد الهواري بومدين والمليون شهيد. اليوم يُنسب العربي إلى المغنّي الذي يمثّله في ستار أكاديمي.
في أوطان كانت تُنسب للأبطال وغدت تنسب إلى الصبيان. أكبر مجد يمكن أن نُهديه إلى أوطاننا أن نتحوّل جميعنا إلى مطربين.
بهذا الركب وصلنا إلى هذا المطاف.
كيف في إمكان الكاتب العربي أن يكون ضمير الأمّة ولسان حقّها وهو ما زال منذوراً لمزاجيّة الحاكم وأميّة الرقيب وأهواء القارئ الذي أصبح بدوره رقيباً يعمل لحسابه الشخصي؟ فمتى نتحوّل من سكّان ‘ضواحي الأدب’ و’ضواحي الحرية’ إلى أدباء أحرار رغماً عن الجغرافية العربيّة؟
هل بلوغ العالميّة يتطلّب العثور على بلد آمن للكتابة؟ أم على ‘لغة آمنة’ غير اللّغة العربيّة المحفوفة بالمخاطر والمسيّجة بـ’حرّاس النوايا’؟.. أم يكفي التنازل عن بعض المبادئ والتنكّر لقيم العروبة والإسلام لاجتذاب القارئ الغربي؟
هل مهمّة المبدع العربي الذود عن شرف العروبة وكرامتها اللذيْن مرّغهما الإرهابيون في الوحل؟ بتقديم أدب يُصلِح ما أفسده الإرهاب، أم العمل أوّلاً على إصلاح الأمراض التي تفشّت في العالم العربي وشوّهت صورته في الخارج؟ هل ما زال للمبدع العربي دور في تغيير المجتمعات العربيّة، أم أنّ دوره أصبح يقتصر على تصدير صورة مجتمعه إلى العالم؟
و الأهم طبعاً.. أيّة صورة عليه تقديمها للعالم. الصورة الواقعية لمجتمعه؟ أم الصورة المنقّحة؟.. أم تلك المُنتظَرة من القارئ الغربي والتي من دونها لن تُفتح الأسواق لأعماله؟
كلّ هذه الأسئلة مجتمعة مخيفة في طرحها بالنسبة لأيّ كاتب. لأنّها تشوّش على عمله.. وبرغم ذلك كثير من هذه الأسئلة تحتاج من الكاتب العربي جواباً مذ باتت الترجمة والتعريب يمثّلان قضيّة أمن قوميّ حسب أمين الجامعة العربيّة، مع أنّي أرى أنّ وجوه 70 مليون أُمّي في العالم العربي أكبر خطورة على الأمن القوميّ. فمن خزّان الجهل والبطالة يأخذ الإرهاب وقوده.
لا أدري إن كنت الخيار الأمثل ككاتبة للتحدث عن الترجمة والكونيّة. فربما كنت أشكّل حالة في الأدب العربي لكوني على انتشاري الكبير في العالم العربي الذي يتجاوز حسب مجلّة ‘فوربس’ المليونين وثلاثمئة ألف قارئ. وربما بسببه أنا زاهدة في ترجمة أعمالي، والخمس لغات التي ترجمت إليها كتبي كانت بفضل الجامعة الأمريكية في القاهرة يوم حصولي على جائزة نجيب محفوظ.
عندما صدرت أطروحتي بالفرنسيّة قبل ربع قرن في باريس وكانت في علم الاجتماع عن صورة المرأة في الأدب الجزائري وبتقديم البروفسور جاك بيرك.. أدركتُ أنّه لا يمكن اختراق الحصون الثقافيّة الأوروبيّة وفتح شهيّة الإعلام لكتابك إن لم تقدّم له وجبة من الانتقادات لوضع المرأة في الإسلام.. والتهجم على دينك ووطنك ورجال بلادك. وهو ما لم يكن ممكناً أن أقبل به بحكم حساسيّتي الوطنيّة والدينيّة. ربما وُلدَتْ يومها مرارتي، وقناعتي بأنّ قيمة الكاتب تعادل قيمة القضايا التي يُدافع عنها؟ لا عدد اللغات التي يُترجم إليها. وأنّ عليّ أن أختار لأيّ قارئ أكتب أللقارئ العربي أم للقارئ الغربي؟ وأعتقد أنّ خياري كان موفّقاً فقد كافأني القارئ العربي على وفائي له.
أفهم تماماً أن يسعى الكتّاب العرب إلى ترجمة أعمالهم. وهذا هدف شرعي وجميل. لكنّي أشفق على من يعيش لاهثاً خلف وهم الترجمة. معتقداً أنّ صدور أعماله بأيّة لغة أجنبيّة كافٍ لبلوغه العالميّة. حتى تحوّل الأمر إلى سباق مرضيٍّ بين الكتّاب على من يجمع أكبر عدد من الترجمات. فخسروا القارئ العربي دون أن يكسبوا نجاحاً خارقاً في أوروبا.
حين فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب أربك النقاد والقرّاء الغربيّين الذين ما عثروا له في المكتبات عن ترجمات تمكّنهم من التعرّف إلى أدبه. فما كان همّ نجيب محفوظ مطاردة المترجمين أو الانشغال عن هموم قارئه العربيّ بمغازلة قارئ غربيّ مفترض. كان كاتباً لم يحضر يوماً مؤتمراً ‘عالميًّا’ عن الأدب ولا غادر يوماً القاهرة حتى إلى استوكهولم لتسلّم جائزته. ولذا أصبح نجيب محفوظ الروائيّ العربيّ الأوّل.
لنكن نزيهين ونعترف أنّ كثيراً ممّن جمعوا هذا الكمّ المذهل من الترجمات وعلّقوها كما يعلّق بعض الحكّام النياشين سجاداً على صدورهم، مدينين لهذا الفوز بعلاقاتهم الشخصيّة وواسطتهم وشطارة وكيلهم الأدبي في الخارج. وأنّ آخرين ممّن كانوا أهلاً لصنع مجدنا العربي في الخارج لم ينعموا بهذه الوجاهة وأحياناً ظُلموا حتى في انتشارهم على المستوى العربي. وربما كان في ظاهرة تأسيس مؤسسات عربيّة وغربيّة بشركات كثيرة في عالم الترجمة والنشر والجوائز الكبرى إنصافٌ لهؤلاء وترشيدٌ لحالة الفوضى السائدة. بتبنّي الحكومات العربيّة لمشروع تعريف العالم بالأدب العربي المعاصر. ذلك أنّ معركة الألفيّة الثالثة ستكون ثقافيّة بالدرجة الأولى. وعلى المبدع العربي ألا يكون مغفّلاً أو مستغفلاً أمام هيمنة ثقافيّة لا يمكن أن تكون بريئة. وقد سبقتها هيمنة التكنولوجيا الأكثر تطوّرا، وهيمنة البضائع الأكثر انتشاراً. فالعولمة ليست سوى تسمية لبازار عالميّ يغطّي الكرة الأرضيّة قاطبة. ولا يمكن التبضع منه إلا بعملة التراث أو الهويّة. وإن كانت أوروبا على قوّتها واعية لخطر الهيمنة الثقافيّة الأمريكيّة، فماذا نقول ونحن على هذا القدر من الهشاشة. لمثل هذه المعركة الكونيّة لا بدّ أن نتسلّح بالذكاء ونعي أنّنا بآلاف المليارات التي دفعناها للغرب لشراء أسلحة كنّا ندري أنّنا لن نستعملها. اشترينا السلاح لكنّنا لم نشتر الاحترام ولا الإنصاف الذي هو أوّل ما تتسلّح به الأمم، وهو ما تحصل عليه إسرائيل مجاناً. فالغرب لا يرى يدها التي تقتل وتدمّر وتقصف، يرى يدها التي تكتب وتعزف وترسم وتخرج الأفلام العالميّة. بينما لا يرى منّا إلا الأيدي التي تخطف وتذبح وتفجّر.
ذلك أنّ الحرب مع إسرائيل هي حرب إعلام بالدرجة الأولى. هي تجمّل نفسها بالثقافة ونحن نصدّر صور قتلانا وأشلائنا وهمجيّتنا. لذا لا بدّ من الإشادة بالدول الخليجيّة التي تنبّهت إلى كون واجهتنا الثقافيّة هي جزء من وجاهتنا. ووضعت استراتيجيّة سياسيّة لتصدير الثقافة العربيّة. في هذه المعركة الطويلة النفس، علينا أن نسلّح المبدع العربي بما يحتاجه من حرية. خاصة الذي يكتب باللغة العربيّة ويصرّ على الوفاء لها، برغم صرامة الرقابة عليها وتطرّف بعض قرّائها.
علينا أن ندخل العالميّة من دون أن نخسر اللغة العربيّة التي هي هويّتنا الأولى. فبعد أن شهد القرن الماضي هجرة المبدعين العرب بالمئات إلى دول الغرب، أتوقّع أن يشهد القرن المقبل هجرة المبدعين العرب بتدفّق مخيف إلى اللغات العالميّة الأخرى حيث الأمان والجاه والكسب السريع. ويومها كم سيندم أولئك الذين لا شغل لهم سوى معاقبة من أحبّ هذه اللغة الجميلة واختار أن يكتب بها.
بلى نريد أن نصل إلى الكونيّة وإثراء المجتمع الإنساني بإرث حضارتنا. لكن من دون أن نغيّر فصيلة حبرنا. ولا جينات قيمنا. ولا حزب ذاكرتنا.
هل ثمّة مجد أكبر من أن تبلغ العالميّة وأنت مزدحم بعروبتك؟
12-04 2009-
كاتبة من الجزائر، وهذا نص المحاضرة التي ألقتها في ‘مهرجان الدوحة للإبداع والحرية’ في ندوة عن الإبداع والكونية بالاشتراك مع الشاعر سميح القاسم.
القدس العربي