المثقف «المنفي» وطنه «الكتابة»
في ظل الانظمة الشمولية لا يعود فيها متسع آمن للمثقف ذي المصداقية ، تنفيه هذه الانظمة – هذا اذا لم تعتقله – او تضطره ان يهجر وطنه ليقيم في «المنافي» يتحرق شوقا الى وطن أُبعًدَ عنه ، لانه صاحب قضية انسانية يدافع عنها بشجاعة ، قضيته هي «الحرية» لكل من يعيش فوق هذه الارض التي بسطها الله – سبحانه – للبشر ليعشوا عليها احرارا ، اعزاء حين يضطر «المثقف» ان يغادر وطنه «يتخذ من الكتابة وطنا يقيم فيه» على حد الفيلسوف والمفكر الالماني ادورنو. في «المنفى» يشعر المثقف المنفي بما يشبه «اليُتم» فيعمد الى الكتابة يفرغ فيها لواعج احزانه ، يتواصل بشجاعة مع قضايا الانسان في كل مكان ، او كما يورد المفكر الفلسطيني الراحل ذو الجنسية الامريكية «ادورد سعيد» في كتابه «المثقف والسلطة»:«يتمتع بمنظور مزدوج يمنعه من ان ينظر الى شيء ما في عزلة عن غيره من الاشياء ، فكل مشهد او موقف في البلد الجديد يستمد معنى ما بالضرورة من نظير له في البلد القديم»… د. ادورد سعيد «المثقف والسلطة» ترجمة د. محمد عناني 110ص «رؤية» للنشر والتوزيع.
هواجس هذا المثقف المنفي قسرا تظل متعلقة بـ «بلده القديم» بـ «الوطن» الذي درج في جنابه وترعرع على ارضه ، وكما يضيف ادورد سعيد «وهو محقق كما ارى ، يحصل المثقف على رؤية تهديه (وهي رؤية افضل وقد تكون اقرب الى الشمول والعالمية) الى سبل التفكير في بعض القضايا ، فقد يناقش احدى قضايا حقوق الانسان بمقارنتها بغيرها».. المرجع السابق – الصفحة نفسها.
«المثقف» المنفي عادة لا يلقي سلاحه الا اذا تم ابتزازه من سلطة معينة فضعف امام هذا الابتزاز ، ولم يعد مسكونا بهموم «وطنه» اما المثقف «العضوي» او الملتزم بالقيم الانسانية التي احتفت بها جميع الاديان السماوية فانه لا يمنّي نفسه في المنفى بالجاه والنفوذ ، فهو – وعلى حد قول د. سعيد – سيظل هامشيا على الدوام وان ما سوف ينجزه باعتباره مثقفا لا بد ان يبتكره بنفسه ، لانه لا يستطيع اتباع سبيل «مقرر سلفا»… المرجع السابق 114ص .
اتساءل هنا: كم من العلماء والمثقفين العرب نزحوا عن اوطانهم مضطرين بعد ان حوربوا في لقمة عيشهم لانهم رفضوا تقييد حريتهم ومنعهم من التعبير عن ارائهم باستقلالية. لماذا لم تمنحهم انظمة بلدانهم هامشا من الحرية يتيح لهم ان يبتكروا ويبدعوا . المثقف في كثير من بلداننا العربية مطارد ومقهور ، لا يستطيع ان يخدم بفكره قضايا الحرية والسيادة الوطنية المنتهكة في كثير من بقاع العالم ، وان حدث ففعل ذلك عوقب والعقاب معروف في دنيا العرب.
هل بتنا على المستوى الرسمي العربي لا نحب سوى المديح و«التلميع» لماذا يهرب المثقفون العرب الاحرار من اوطانهم العربية؟ أليسوا – وكما عبر احدهم – «لرفضهم تحمل الم رؤية «مملكة الحرية» هذه تداس؟ اليست لأنهم أُباة يأبون ان تُمتهن كرامة الانسان؟ اليست لأنهم رفضوا ان يكونوا عبيدا لا مواطنين.
قبل مدة اتصل بي مفكر عربي بارز من امريكا اسدى خدمات جليلة لوطنه العراق ايام العهد الملكي ثم اضطر بعد ذلك ان يغادر للخارج. اتدرون ماذا قال لي؟ قال بحرقة: «انني اشعر بالغربة والحنين لأرض الوطن ، اهفو الى دجلة والفرات ، احن الى بغداد والبصرة. وطني في الغربة هو «الكتاب والكتابة». قد شارفت – يا اخي – على الثمانين من العمر ، وجع الوطن قد برّح بي. تُرى هل القى وطني مكرما بعد طول اغتراب،،
كم اوجعتني كلمات هذا الصديق الذي اثرى الفكر التربوي والاجتماعي في وطننا العربي.. انه يتمنى «لقيا» الوطن يحن الى دجلة والفرات ، فلهما في نفسه ذكريات حبيبة.
كم نظلم مفكرينا ومثقفينا حين نرغمهم على ترك الاوطان يقول احد المثقفين والكتاب العالميين وهو وليم جيمس «ان العالم قد شرع يعي الآن ان ثروة الامم الحقيقية ، تكمن في عدد الافراد اللامعين عقليا فيها».
في بلداننا العربية لم «نشرع» بعد في تقدير هذه «الثروة» هذه «الثروة» مستباحة ، مهمشة ، تقيدها «الاغلال» هذه «الثروة» – واعني ثروة «المبدعين» لا تلقى في كثير من مجتمعاتنا العربية والاسلامية القدر الذي تستحقه.
اما السبب فهو غياب الديمقراطية الحقيقية ، هاجس الخوف من هذه «الديمقراطية» بلغ حدا كبيرا ، هاجس لا مبرر له سوى تسويغ «الاستبداد» بالطبع فانا استثني بعض المجتمعات العربية التي ادرك ولاتها وحكامها ان «الحرية» نعمة من الله – سبحانه – لا يجوز اضطهادها او حرمان البشر منها.
المؤسف ان ثمة«تزييفا» لمفهوم «الحرية» هناك. على حد تعبير د. خلدون النقيب «ديمقراطية بحد السيف» بمعى انها ديمقراطية صورية فثمة خطوط حمراء تضعها بعض النخب الحاكمة ، هذه – الخطوط الحمراء – تقيّد حرية المبدعين والمبتكرين لا تطيق نقدا ينصب على فساد هنا او فساد هناك ، على تسيّب هنا او تسيّب هناك.
وحتى ينأى المثقف عن «الديمقراطية بحد السيف» فانه غالبا ما يصمت او يهاجر عن وطنه ، وفي «المنفى» رغم الم البعاد فان «المنفي – وكما يشير المفكر العربي د. حليم بركات في «الاغتراب في الثقافة العربية» «يتحرر من الخوف ، فتنبع السلطة من قناعته وتمسكه بمبادئه ، فلا تُفرض عليه من الخارج» بعبارة اخرى لا يعود عقله «معتقلا» لا تعود «قناعته» متوارية خشية من قمع السلطة ، لا يعود في «المنفى» خائفا ان اطلق الحرية لـ «كوامن» ابداعه .
وبعد ، متى يغدو بامكان جميع الازهار ان تتفتح في اوطاننا العربية؟
متى تحترم في اوطاننا «ثقافة الاختلاف»؟
لماذا لا تتاح في بلداننا العربية الحرية لممارسة الجهد «النقدي» في حين يُقتصر ذلك على الجهد «التأملي»؟ ان الجهد النقدي هو الذي يسلط الضوء على عيوب المجتمعات في حين يعجز الجهد التأملي عن ذلك. الجهد النقدي الذي يمارسه المبدع والمثقف هو الذي يحول الكلمات الى «قضية» بدلا من ان تظل خلوا من اي مضمون اجتماعي وانساني.
ما هو مؤسف ان مثل هذا «التحول» يصطدم في كثير من الاحيان بالخطوط الحمراء التي تضعها «السلطة ، السياسية ، هذه الخطوط التي تحول دون تحويل الكلمات الى «قضية» تخدم المصالح الاجتماعية ، ما هو مؤسف ان «الابداع» في اوطاننا العربية محروم من اقوى ما يملك ، واعني بـ «الفكرة» يُراد لهذا الابداع ان يظل – كما يقال – مادة للمتع و«لعبة بأيدي الكسالى العاطلين» كما يقول الناقد العالمي بيلنسكي.
من هنا يضطر هذا المثقف او المبدع الى ترك وطنه الى اوطان اخرى باحثا عن متنفس لاشواقه وطموحاته في ارض «الغربة» يُبدع مثقفون عرب كثيرون حيث لا تُفرض عليهم رقابة سياسية وغير سياسية تحاكم بغلظة رؤاهم تتجسس على افكارهم على نحو مهين فتعتقلها قبل ان ترى النور وتنتشر.
ان اغتيال الكلمة المسؤولة لانها تكشف عن دمامة هنا ودمامة هناك مسألة آن ان تنتهي.
آن للمثقف العربي ان ينعم في وطنه بالأمن النفسي والاجتماعي حتى يُبدع وهو يطمئن الا يلاحق ابداعه فيشعر بالاحباط والعزلة مما قد يدفعه الى مفارقة وطنه.
آن ان ترتفع الوصاية الحكومية وغير الحكومية عن «الابداع» والا سنظل كعرب متخلفين حيث الكلمة الممتلئة مقهورة او شبه مقهورة.
الدستور الإردنية