صدام الدولة – “الغيريللا: سوريا – لبنان (1976) مصر – غزة (9 – 2008
بقلم جهاد الزين
ليست ثنائية “منطق الدولة – منطق الغيريللا” جديدة في الصراع العربي – الاسرائيلي. لا بل ان هذه الثنائية تشكل احدى السمات شبه الثابتة منذ العام 1948، تاريخ تأسيس اسرائيل واندلاع هذا الصراع المتواصل.
انها الثنائية بشكليها الصدامي او التناغمي بين الدولة و”الغيريللا” (المقاومة) حسب كل مرحلة. ولهذا فان الازمة المثارة الآن بين الدولة المصرية و”حزب الله” هي حلقة اضافية من تجليات المرحلة الاخيرة الابرز التي شهدت تناقضا بين منطق الدولة في مصر ومنطق حركة “حماس” منذ سيطرتها الوحيدة الجانب على قطاع غزة عام 2007.
تُذكِّر الثنائية الحالية بتجربة تصادمية بارزة صالحة للمقارنة معها هي التصادم الذي حصل بين الدولة السورية وحركة “فتح” ومعها “الحركة الوطنية اللبنانية” عام 1976 في لبنان. لكن قبل الدخول في خطوط التشابه والاختلاف لا بد من الاشارة الى انه كان على قيادة “حزب الله” وتحديدا السيد حسن نصرالله ان يطلب من مرجعيته الايرانية العليا عدم تكليفه بأية صورة من الصور بمهمة الهجوم على رأس النظام المصري وخصوصا من زاوية القوات المسلحة المصرية، ورأي كاتب هذه السطور انه ايا تكن اعتبارات الضغط المتبادل في الصراع حول غزة وعلى غزة مع بدء العدوان الاسرائيلي على القطاع فإن الخطأ السياسي الاساسي هو تكليف “حزب الله” بمهمة المبادرة الى الهجوم الاعلامي يومها على الرئيس المصري وبالطريقة الحساسة جدا التي حصلت. فاذا كان الصدام المصري – الايراني واقعا وباشكال مختلفة بما فيه بين بعض حلفاء كل منهما، كان يجب الا تُعطى هذه المهمة لـ”حزب الله” اللبناني وتحديدا لرئيسه الذي استطاع ان يبني هالة شخصية فعلية في اوساط العديد من النخب المصرية، بما فيها نخب موالية للنظام داخل مصر. وقوع الاختيار على امين عام “حزب الله” لم يكن فقط تسليما للحزب بمهمة ليست له باعتباره بنى رصيده بعد العام 1990 على “التخصص” في المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي داخل لبنان، بل ايضا كان تبديدا لرأسمال شخصي سياسي لحسن نصرالله ليس هنا مجال صرفه ولا يجب ان يكون. ناهيك عن تعريض لبنان والحالة الشيعية فيه الى أعباء غير جائزة وغير ضرورية. فالتناقض على مستوى محاور الدول المتصارعة موجود. ليبق الامر كذلك. ألم تؤد خصوصية وضع “حماس” الى استثنائها (واستثناء نفسها) من الصدام المباشر مع الدولة المصرية رغم انها كانت على الخط الاكثر حساسية… الامر نفسه، ولو بصورة اقل كان يجب ان ينطبق على “حزب الله”. وقع الخطأ واختارت الدولة المصرية ان ترد سياسيا بوسائلها “الدولتية” رغم ان العديد من المراقبين الجديين في المنطقة يعرفون ان جزءا من التسلل عبر الانفاق بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية كان يجري في السنوات السابقة بمعرفة ضمنية من الاجهزة المصرية، وحتى شبكة “حزب الله” كجزء من شبكة “حماس” التهريبية للاسلحة او غيرها ربما كانت تحت غض النظر المصري ايضا. فللدولة المصرية طريقتها في التعاطي مع الفلسطينيين على حدودها، دعما او ضغطا عليهم. والافتراض الشديد المنطقية انه لو كانت “فتح” لا تزال تسيطر على “قطاع غزة” لربما تكَشَّف غض النظر المصري عن مستويات مختلفة اكثر تسامحا!
سنعود الآن للمقارنة، تشابها واختلافا في تجربة التناقض الحالي بين مصر بقيادة الرئيس حسني مبارك وبين “حماس” واستطرادا “حزب الله”، وفي تجربة التناقض السابق بين سوريا بقيادة الرئيس حافظ الاسد وبين “فتح” واستطرادا “الحركة الوطنية” اللبنانية.
الخط الاساسي للتشابه بين التجربتين هو اعتبار “الدولة” (مصر اليوم – سوريا امس) ان “الغيريللا” وحليفها يقومان باندفاعة خطرة قد تهدد بتغيير – إن لم يكن بتقويض – النظام الاقليمي. فعام 1976 كانت اندفاعة “فتح” بزعامة ياسر عرفات وكمال جنبلاط على رأس “الحركة الوطنية” لضرب بل تصفية معاقل القوات المسيحية اللبنانية وعمادها “الكتائب”، ستؤدي من وجهة نظر الرئيس حافظ الاسد الى فراغ خطير في حال انهيار القوات المسيحية اللبنانية مما يعني دخول اسرائيل الى قلب لبنان لتقلب الاوضاع بطريقة، ليست سوريا مستعدة لها ولا مهيأة للتعامل معها آنذاك. فاتخذ قراره بالتدخل العسكري مستفيدا من “اللحظة” يومها التي كانت تدفع واشنطن الى تفضيل خيار دخول الجيش السوري ضمن اتفاق غير معلن على خطوطه الحمر. وعبر هذا الصدام، حوّل الرئيس حافظ الاسد المأزق الى فرصة سياسية – ولو خطرة – لتوسيع الدور الاقليمي السوري عبر لبنان. دور ظل في مد وجزر حتى تكريسه دوليا عام 1990. واستقر الى ما بعد وفاته حتى إلغائه دوليا عام 2005.
لبنان بالنسبة لسوريا، هو غزة بالنسبة لمصر بمعايير الصراع العام في المنطقة، على الاقل في مرحلة محددة. سيطرة “حماس” على غزة، والاهم اندفاعها في المواجهة مع اسرائيل في ظل قيام واشنطن – تل ابيب بسد الافق السياسي لاي حوار مع “حماس” حتى بعد فوزها في الانتخابات ودخولها حكومة “الوحدة الوطنية” شكل مأزقا متواصلا مزدوجا للدولة المصرية. فهي الدولة الملتزمة باتفاقية سلام مع اسرائيل تلمس يوميا مخاطر اتساع الهوة بين يمين اسرائيلي يضرب افق الحل، وبين قوة اصولية فلسطينية متنامية النفوذ في مواجهته. هذا الوضع ادى الى الموقف الصعب جدا للدولة المصرية على الحدود مع غزة، والتي كان عليها ان تمنع، من وجهة نظرها انفجاره الى حدود تقويض الوضع الاقليمي. فنشأ التناقض. لكن حتى اليوم لم يظهر بعد ما اذا كان النظام المصري قادرا لا على تجميد المأزق – وهو حقق نجاحا اكيدا في هذا المجال – ولكن على تجاوزه على المدى الابعد. انه السؤال الكبير في ظل الانسداد الجديد للافق التسووي الاسرائيلي – الفلسطيني مع مجيء حكومة اسرائيلية رافضة لحل الدولتين؟
بنى مؤسسو “فتح”، حتى قبل تشكيل المنظمة في اوائل ستينات القرن الماضي احد ابرز “مفاهيم” سياستهم على فكرة “التوريط”. كان ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف ورفاقهم يعملون في البدايات وحتى فترة طويلة بعد التواجد في لبنان على فكرة “توريط” الدول العربية المحيطة باسرائيل. مارسوا ذلك في سيناء – غزة مع مصر وحاولوا في الجولان مع سوريا، وفي الاردن كادوا يسيطرون على الدولة في مغامرة انهاها الملك حسين سريعا وبكلفة عالية جدا، اما في لبنان فـ”الملحمة” اطول واعقد وتبدو اللعبة الفلسطينية – رغم خفوتها بعد العام 1982، وكأنها متواصلة بصورة من الصور!
مهمة “الغيريللا” هي التوريط! ليس بالضرورة بالمعنى “الفتحاوي” القديم في الستينات والسبعينات. اكاد اقول في سياق الصراع العربي – الاسرائيلي الذي لم يفسد حياة جيلين واكثر فقط في العالم العربي بكل المعاني، بل سيطر عليها… أكاد اقول ان وجود “الغيريللا” بذاته هو وجود توريطي اذا جاز التعبير. ومهمة الدولة هي ضبط “التوريط” بل استيعابه وتجاوزه.
لكن الرصد في هذا المجال منذ العام 1948 يتطلب الاشارة الى تجربة من محاولة التناغم بين الدولة والغيريللا. فالرئيس حافظ الاسد نفسه وبمجرد استتباب السلم الاهلي اللبناني لمصلحته بعد العام 1990 شجع تجربة معقدة ولكن مباشرة من دعم تحويل “حزب الله” الى حركة مقاومة متخصصة ضد الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان، بعدما ساهم تدريجا في دعم هذا اللون المقاوم دون غيره من الالوان التي ساهمت المتغيرات الدولية والاقليمية واللبنانية في تراجعها خلال النصف الثاني من الثمانينات. لكن دعم الاسد، الذي استمر مع نجله بعد العام 2000 اي بعد التحرير! ولكن ضمن مهمات ترافقت مع متغيرات في حجم الدور الايراني… هذا الدعم كان يخضع لضبط سياسي شبه يومي دقيق يمنع خروجه عن الاستهدافات الاساسية للدولة (السورية) الراعية لـ”الغيريللا” اللبنانية.
انها الدولة… وهي “الغيريللا”… منطقان مختلفان، صداما او تحالفا مثلما كان الامر في حالة التحالف طويلا بين “فتح” ياسر عرفات ما بعد “اوسلو” وبين مصر حسني مبارك! تحالف لم يكن ايضا ليمنع ظاهرة القلق المصري او المرارة الصامتة والمعلنة حيال الدور العام في المنطقة تجاه ما بدا انه تنامي الدور الاسرائيلي “الشرق اوسطي” في التسعينات واليوم التنامي الايراني والتركي على اختلاف النموذجين الأخيرين… اختلافا جوهريا!
النهار