صفحات العالم

حتى لا تتحول كُردستان إلى جزائر أخرى

علي سيريني
يروي الجنرال المتقاعد خالد نزار (القائد الأسبق للقوات المسلحة)، في كتاب له عن أزمة الجزائر “الجزائر: إيقاف تقهقر مبرمج”، أن العنف الذي بدأ في عام 1988، يعود (وهو صائبٌ في ذلك)، إلى حكم الشاذلي بن جديد في ذلك الوقت. يقول نزار: “تميّز حكم الشاذلي بالفوضى الإدارية، وإنتشار الرشوة، والتلاعب بأرباح النفط، وهدر الأموال العامة، مما أسهم في خلق بيئة صراعية يتناحر فيها من يساند الإصلاحات ومن يعارضها”.
في عام 1990 فازت جبهة الإنقاذ الجزائرية بالإنتخابات البلدية، وفازت بأغلبية ساحقة في الدورة الأولى من الإنتخابات التشريعية في عام 1991، على أن تُجرى الدورة الثانية في كانون الثاني 1992.
كانت الحكومة قد أفرغت خزانات البلدية من الأموال، مما أجبرت الإنقاذ أن تعتمد على عناصرها ومؤيديها، لتدبير الخدمات مجاناً دون رواتب. في غضون ذلك عاشت الجزائر مأساة حقيقية، لذلك كان إندفاع الشعب الجزائري كبيراً للتخلص من نظام الشاذلي الفاسد، فأعطى ثقته للإنقاذ والمعارضين الآخرين للحكم.
لم تفلح خدعة الحكومة بتفريغ خزانات الأموال، وكذلك لم تفلح المناورات الأخرى، فتدخل الجيش المسيّس وواجه قرار الشعب بفوهة الدبابات والرصاص الحيّ “لأنه لم يكن لدى الجيش الرصاص المطاطي آنذاك لمواجهة المظاهرات”، يضيف خالد نزار في كتابه!
ألغيت نتائج الإنتخابات، وقامت جنرالات الحرب بشن حرب دموية ضد الشعب وضد الفائزين بالإنتخابات، وأهدرت الدماء في الشوارع، وامتلأت السجون بالناس!
منذ بداية التسعينيات وحتى الآن، تراوح عدد الضحايا في الجزائر بين مائة ألف إلى مائتي ألف شخص!
لو نظرنا إلى واقع كُردستان اليوم، نجد أنه نسخة مكررة لما كانت عليه الجزائر قبل عام 1990.
الفوضى الإدارية، إنتشار الرشوة، التلاعب بأرباح النفط، هدر الأموال العامة هنّ العناصر التي تشكل الحياة اليومية في كُردستان منذ عام 1991.
الحزبان الحاكمان في إقليم كُردستان، وكطبيعة ثابتة في بنيتيهما، يتخذان كل سبيل من أجل البقاء في الحكم والإستحواذ على كلّ شئ. هذه بديهة يعرفها كلّ الناس في كُردستان.
تحت هذا الحكم الدكتاتوري، يجري تحت السطح قتلٌ منظم لحياة الإنسان، وقتل القيم والمُثل التي تكوّن عالَم الإنسان الكُردي على الأصعدة الإجتماعية والثقافية والسياسية.
قبل أسبوع، وكأحدث دليل على ذلك، قام شرطي كُردي في مدينة أربيل بقتل نفسه بسبب الفقر الهالك الذي عاناه مع عائلته، بالرغم من خدمته في سلك الشرطة منذ عام 1989، إلى حدٍ لم يقدر شراء الدراجة الهوائية لإبنه الصغير، تحت إلحاح الطلب الذي طال وقوفه على قدم وساق منذ سنين!!
قبل حوالي ثلاثة أسابيع إنتحر شخصٌ آخر في بلدة (طوبزاوه) التابعة لأربيل، يُدعى كوسرت، وهو أبٌ لطفل. الفقر الشديد كان السبب أيضاً (للتأكيد راجع إن شئت أسبوعية روداو الكُردية، أعداد الأسابيع الأخيرة). ولو تابع أحدٌ ما الصحافة الكُردية المحلية، لهاله العجب العجاب، والدهشة الثقيلة التي لا يخفف من عبئها أي جواب، لكثرة أعداد المنتحرين رجالاً ونساءا!
بالتزامن مع الحدثين المذكورين، كان مسعود بارزاني (رئيس إقليم كُردستان) يقضي عطلته في أوروبا!
أحد الفنادق التي أقام فيها بارزاني آواخر أيام عطلته، هو فندق “ماريوت” بفيينا عاصمة النمسا. وسعر المبيت للجناح الذي حجزه رئيس الإقليم هو عشرة آلاف يورو للّيلة الواحدة! هذا عدا الخدمات الأخرى، بالإضافة إلى تكاليف المرافقين والحرس الذين صاحبوه في السفر المذكور!
طبعاً لا تساوي هذه التكاليف شيئاً، أمام ما أهدره الشخص المذكور وحزبه، من أموال الناس في غضون ثمانية عشر عاماً متواصلة!
إذن فهذا الرجل لا يعيش آلام شعبه، ولا يتقاسم المعانات والرغيف معهم.
لذلك فوجوده كزعيم، ليس فقط خارج الضرورة فحسب، وإنما وباءٌ ووبال على الناس وعلى الأجيال القادمة.
من المقرر أن تجري في الحزيران القادم، الإنتخابات البرلمانية في كُردستان. وكعادتهما يقوم الحزبان الحاكمان منذ مدة، بتدبير الخطط والحيل الإجرامية، للحيلولة دون سقوطهما في وهدة خسران الحكم، وتحويل نفسيهما إلى مُلاحقين قانونياً وقضائياً، وهذا أيضاً علمُ يقينٍ ثابت في لاوعي قيادة الحزبين برئاسة بارزاني ـ طالباني.
طبعاً لا شك أن الخلافات والتناقضات، تنخر في هذين الجسدين المترهلين، بين القيادات والقواعد. ولكن يجب أن ننتبه بشدة إلى المناورات والألاعيب التي تطفو إلى السطح، وقد لا تكون وفق خطة مرسومة، لكنها دون شك تجري في المسار الذي يوافق أهواء هذين الحزبين.
نوشيروان مصطفى، المنشق عن الإتحاد “الوطني الكُردستاني”، وجوهر نامق، المنشق عن الحزب “الديموقراطي الكُردستاني” يشكلان ظاهرة ملفتة للنظر في راهن الواقع الكُردستاني.
كلا الرجلين، خدما لسنين طويلة في صفوف حزبيهما. وإذا كان الرجلان يتحدثان عن الفساد الذي يتمتع به زعماء ومسئولي الحزبين، فهناك من يؤكد دور كليهما في هذا التأريخ المذموم.
وليس من شك أن نوشيروان وجوهر، شاركا في الحرب الأهلية التي حصدت الآلاف من رؤوس الأكراد.
من الحتميات التي لا تقبل المساومة، هو التغيير الحقيقي للسلطة في كُردستان، وتقديم مسئولي الحزبين لمحاكمة عادلة، لبناء ديموقراطية حقيقية. والمحاكمة طبعاً تشمل الأعوام التي مضت من الحروب الأهلية، والقتل، والإغتيال، والإختلاس والسطو على المصالح العامة.
ومما يريده المسئولون في الحزبين، الإدامة بسلامتهم الشخصية، للحيلولة دون الوقوع في شرك المحاكمات التي كبّلت أقدام قيادات البعث في السجون، مخارجها فتحة الإعدام النازلة فوق رؤوسهم!
ومن المعلوم أن أغلب القيادات الكُردية في الحزبين، يفوق الستين من العمر، مما يعني بقاء فرص قليلة أمامهم، للتنعم بالحياة في رخاء وهناء إذا ما حصل تغيير جذري في بنى الحكم والسلطة!
ومن هنا فإن وصول نوشيروان مصطفى وجوهر نامق، بالقوائم المستقلة إلى سدة الحكم، سيخنق أي مطلبٍ شعبي، باتجاه محاكمة القيادات المتورطة في جرائم الحرب وإختلاس الأموال العامّة!
والسبب كما قلنا، أن العلّة التي تقتضي قيامة المحاكمات، تقوم أيضاً في المنشقين عن حزبيهما أيضاً، وهما ينويان الخوض في السباق تحت رايات مستقلة.
وجوهرياً، ليس من المعقول، أن يقوم رجل بإزالة ما صنعته يداه في عقود، من أجل إقامة ديموقراطيةٍ مجهولة المصير على صعيد المنفعة الشخصية!
إن إنتصار نوشيروان هو إنقاذ للإتحاد المريض، أكثر مما هو إصلاحٌ للفساد الذي يضرب الشعب الكُردي. وعلى درجات قريبة، تكمن المسألة بالمقاربة نفسها مع موقف جوهر نامق وإن كان هذا الأخير مذ أن كان في حزبه، بلا ناقة أو جمل في قافلة العشيرة التي تزيّنت بأردية الحزب.
لذلك فإن المصلحة الكبرى للشعب الكُردي، تحتّم عليه، أن يصوت لمن هو الأبعد من الحزبين الحاكمين، سواء كان عَلمانياً أو إسلامياً أو قومياً.
وفي الأحزاب الأربعة (نصف عَلماني نصف إسلامي) التي تنوي الدخول في قائمة متحالفة (قد تفشل بسبب عوامل موضوعية وتدخلات الحزبين الحاكمين) طريقُ أكثر ملائمة لبلوغ مستقبل سياسي وقانوني، مؤسِسٍ لنظام دستوري وديموقراطي.
أعترف سلفاً أن هذه الأحزاب الأربعة ليست بمستوى المرحلة، ومستوى مطاليب الشعب الكُردي، لكنها دون شك أفضل إختياراً من الحزبين المتسلطين.
ولابد للمستقلين الحقيقيين من الكُرد، وخصوصاً من ذوي التوجه الديموقراطي الليبرالي، من المستقلين، ومن المقيمين في الغرب، الدخول في هذه الإنتخابات دون خوف أو وجل.
ولابدّ للجميع الطلب من الجهات الدولية المختصة الإشراف على الإنتخابات، وليس الإكتفاء بوفود تأتي من بغداد، مسيّرة بـ (ريمود كونترول) الأحزاب الغارقة أيضا في الفساد والإجرام.
وبطبيعة الحال، فإن الحكم القائم في بغداد يفضل بارزاني ـ طالباني، على أي جهة كُردية أخرى، لضمان الحفاظ على التوازن القائم بمباركة إيران التي يتمتع بارزاني ـ طالباني بعلاقات إستراتيجية معها!
إن إشراف بغداد على الإنتخابات في كُردستان لن يكون نزيهاً، ولن يكون محايداً في ظل تمتع الحزبين الحاكمين بأموال ضخمة، في واقعٍ ينتشر الفساد بشكل كبير بين الأفراد داخل العراق!
على الأكراد، كي لا تتكرر الجزائر ومآسيها في كُردستان، أن يقولوا قولهم التأريخي أمام العالم، ويقطعوا الطريق على التزوير والإنقلاب بالشجاعة في الإختيار، وباللجوء إلى إشراف دولي، وفوق ذلك التصويت لتغييرٍ جذري حاسم يُعيد لهم الكرامة المهدورة، والحياة المعدومة!
علي سيريني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى