خلطة فاسدة.. سلطة وانتخابات ومعونات ومقاومة
ياسر الزعاترة
الذين عارضوا مشاركة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية مطلع العام 2006، ونحن منهم، لم يفعلوا ذلك إلا إدراكا لحقيقة أن هذه السلطة قد صممت لخدمة الاحتلال، ومعها ديمقراطيتها، والذين سهّلوا مشاركة الحركة فيها لم يكونوا يريدون الخير بها ولا بالقضية الفلسطينية (الكاتب الإسرائيلي المعروف (عكيفا الدار وصفها في أحد مقالاته بأنها “الاختراع العبقري المسمى سلطة فلسطينية”، فهل يعني ذلك شيئا بالنسبة للبعض؟).
لا يقلل ذلك من قيمة اجتهاد الذين اجتهدوا، كما لا يعني عدم توفر إيجابيات لتلك المشاركة، مثل فضح التناقض الأميركي والغربي حيال مسألة الديمقراطية، وفضح السلطة والقوى العلمانية كذلك، ونتذكر أن فتح هي التي صاغت قانون الانتخابات وهي التي تريد تغييره الآن لأنه لم يكن مناسبا لها، مع أن التغيير ينبغي أن يتم عن طريق المجلس المنتخب، كما أن قبولها بنتائج الانتخابات لم يتجاوز البعد الشكلي، وإلا فأية حكومة تلك التي سمح لحماس بتشكيلها، بينما لا تتحكم لا بالأمن ولا بالمال ولا بالإعلام؟
الذي جرى أن النتيجة كانت مفاجأة لم يتوقعها الذين أصروا على مشاركة حماس (أفرحت الغالبية الساحقة من أبناء الأمة، ونحن منهم في حينه، لأنها كشفت انحياز الناس لبرنامج المقاومة من جهة، وللرؤية الإسلامية للقضية الفلسطينية من جهة أخرى)، ولو توقعوها لما تراجع حرصهم على مشاركة حماس، بل لدفعهم إلى تغيير النتيجة بالتزوير، الأمر الذي لم يكن صعبا في ظل دعم عربي ودولي واضح.
والسبب هو أن واجب المرحلة بالنسبة إليهم كان يتمثل في منح تفويض لمحمود عباس بالتفاوض باسم الفلسطينيين، وصولا إلى التوصل إلى تسوية شاملة عجز ياسر عرفات عن تحقيقها، وذلك بعد تغييب هذا الأخير بالسم، وقبله كبار قادة حماس في الداخل، وعلى رأسهم الأعمدة الأربعة في قطاع غزة (أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وإبراهيم المقادمة، وصلاح شحادة)، فضلا عن قادة الضفة الغربية الذين توزعوا بين السجون والمقابر، بينما تلقت الأجنحة العسكرية للفصائل، وعلى رأسها حماس والجهاد ضربات قاسية، فيما كانت فتح تدخل عصر محمود عباس وتغادر الزمن القديم دون كثير إشكالات.
لو أعلنت حماس أنها أرادت النتيجة تأكيدا على انحياز الجماهير لخيار المقاومة، وأنها لا تقبل بواقع السلطة القائم ولا تشارك فيه، إذن لوجهت صفعة تاريخية لخيار المفاوضات، ولتركت فتح تتفكك في صراع السلطة، ولكان بالإمكان الحديث عن حسم الخيار الإسلامي في القضية الفلسطينية بدل التنازع القائم.
نعود إلى هذه القضية بين يدي حوار القاهرة والمصالحة المنشودة، وهي قضية لا يمكن بحال تجاوزها عند أي قراءة موضوعية لمستقبل القضية الفلسطينية خلال المرحلة الحالية والمقبلة. نعود إليها لنؤكد من جديد خلافنا مع الروحية التي جرى ويجري على أساسها الحوار بين فرقاء الساحة الفلسطينية، لاسيما بعد موافقة حماس على مبدأ الانتخابات (ثمة خلاف لم يحل إلى الآن نسبة الحسم في حال إقرار القائمة النسبية الكاملة كما تطالب فتح وسائر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية).
ومن ثم نرد على الذين كانوا يفسرون رفضنا للانتخابات بالخوف من عدم فوز حماس في ظل قانون القائمة النسبية، لكأن إنجازات الطرف الآخر خلال الأعوام الثلاثة الماضية تجعل فوزه أمرا محسوما.
إنهم يتحدثون عن سلطة تشبه الدولة لا بد من الحفاظ عليها (دعك من الأسباب الكامنة خلف ذلك، وما إذا كانت تتمثل في القناعة بتحقيق تلك السلطة للمصلحة الفلسطينية في ظل ميزان القوى الراهن، أم أنها النوازع والمصالح الذاتية لأقوام تقاعدوا من النضال وليست لديهم القابلية للتنازل عن امتيازاتهم، فضلا عن الاستعداد للسجن أو الشهادة)، إنهم يتحدثون عن سلطة أو شبه دولة، ونحن نتحدث عن صراع تاريخي وقضية مقدسة وشعب يسعى للتحرر، وهي رؤى تتناقض مع واقع هذا “الاختراع العبقري”، وضرورات الحفاظ عليه.
قبل أسابيع تابعنا حملة الاعتقالات التي شنتها سلطات الاحتلال ضد عدد من قادة ورموز حماس الذين كان أكثرهم قد خرج لتوه من السجن إثر اعتقاله ردا على عملية الوهم المتبدد منتصف العام 2006، وقد جاءت الاعتقالات لتذكّر الغارقين في الوهم مرة أخرى بأن الديمقراطية تحت الاحتلال كذبة كبرى، وأن بقاءها رهن بخدمتها لبرنامج الاحتلال، أما إذا تمردت عليه أو أزعجته فمصير رموزها السجون والمعتقلات.
واللافت بالطبع أن تأتي موجة الاعتقالات في وقت لم تتوقف فيه الاعتقالات من طرف السلطة، ولم يفرج عن المعتقلين من أجل إنجاح حوار القاهرة. وكما يريد الإسرائيليون هذه الاعتقالات وسيلة ابتزاز من أجل عيون الجندي شاليط، فضلا عن عدم السماح للحركة بترميم صفوفها، فإن الطرف الآخر يستخدمها لذات الغرض الأخير (تمهيدا للانتخابات)، فضلا عن الضغط من أجل فرض المصالحة ضمن الرؤية التي يتبناها.
نتذكر هنا أن مسألة الحفاظ على الأمن الإسرائيلي هي جزء أساسي من مهمات تلك السلطة، وإذا لم تقم بها على أكمل وجه، فإن لدى الطرف الآخر وسائله للضغط، المباشر منه عبر الاجتياحات والاعتقالات وزيادة الحواجز والتنغيص على القيادة التي تتحرك ببطاقات مرور إسرائيلية، وغير المباشر عبر وقف تدفق الأموال، أكانت الخارجية، أم أموال عائدات الجمارك.
إنها قضيتنا المقدسة، ومن حقنا أن نواصل الصراخ بأن هذا الذي يجري عبث، أعني الحوارات الفلسطينية على قاعدة الحفاظ على هذه السلطة والتزاماتها، لاسيما أن نتيجة الانتخابات القادمة لن تغادر الاحتمالين المعروفين (فوز حماس وعودة مسلسل الحصار، أو فوز فتح بغالبية بسيطة تعتبرها تفويضا بالذهاب للمفاوضات، مع الحفاظ على سلطة الأمن والمعونات القائمة)، وفي كلتا الحالتين سنكون أمام متاهة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
فلا المقاومة تتقدم في ظل رفضها من السلطة وفتح، بل ومطاردتها، ولا المفاوضات تحقق للفلسطينيين حلا يحفظ ماء الوجه، ما يعني أن السلطة العتيدة ستبقى على حالها تحت إمرة الجنرال الأميركي دايتون تلبي شروط خريطة الطريق بصرف النظر عما يفعله الإسرائيليون بالبشر والأرض ما داموا يسمحون للمعونات بالتدفق وللقادة بالتحرك والسفر وترتيب المؤتمرات الصحفية مع الوفود الأجنبية.
سيقول البعض إن المصالحة تنص على إعادة تشكيل منظمة التحرير كي تكون ممثلا للفلسطينيين في الداخل والخارج، ونرد بأن ذلك لن يحدث، لأن فوز حماس سيعيد مسلسل الحصار ويهيل التراب على جميع الملفات الأخرى، فيما سيتكفل الاحتلال بمنع حماس من استلام الضفة (هذا في حال قبل الآخرون تسليمها وهم لن يقبلوا، اللهم إلا إن كان بالطريقة السابقة، أي مناصب مفرغة من مضمونها).
أما فوز فتح فسينسخ القصة من أساسها. ومن يعتقد أن قيادتها المتنفذة الحالية ستمنح حماس والقوى المؤمنة بخط المقاومة “فيتو” على قرار المنظمة، فهو واهم إلى حد كبير. مع العلم أن الحركتين ومن حولهما ومن يؤمنون بخطهما من الفصائل والمستقلين لن يقبلوا بما هو دون ذلك، ليس فقط لأنه ظلم وإجحاف، بل لأنهما يدركان أنه يعني تفويضا جديدا لمحمود عباس بالتفاوض بالطريقة التي يريد، فيما يعلم الجميع أن أية انتخابات عادلة في الداخل والخارج ستفضي إلى فوز أنصار المقاومة بالغالبية، لاسيما أن حجم شعبية فتح في الخارج لا تقارن بحال بشعبية حماس.
بديل هذه المتاهة معروف وطرحناه من قبل، ونتمنى أن تطرحه حماس والجهاد على الجماهير في الداخل والخارج مهما كان موقف السلطة، ويتمثل في وحدة ميدانية على قاعدة المقاومة حتى دحر الاحتلال دون قيد أو شرط، وإدارة بالتوافق لقطاع غزة بوصفه قاعدة للمقاومة ومنطقة شبه محررة، مع تخلص من أسر المعونات وإعادة الإعمار عبر رمي الكرة في الملعب العربي الرسمي، فضلا عن إلقاء العبء على دولة الاحتلال المسؤولة عن حياة الناس تحت الاحتلال بحسب ميثاق جنيف.
أما إذا بقي المسار على ما هو عليه فليس ثمة في الأفق غير استمرار الانفصال بين الضفة وقطاع غزة في حال فشل الحوار في الوصول إلى الأهداف التي يريدها قادة السلطة، ومعهم مصر والأميركان والإسرائيليون، أما إذا نجح ووصلنا إلى محطة الانتخابات، فالمتاهة مؤكدة، سواء عاد المسلسل البائس من جديد كما ذكرنا من قبل، أم حصل القوم على التفويض الذي يريدون.
وفي هذه الحالة الأخيرة، إما أن تبقى سلطة دايتون على حالها، وإما أن ينجحوا في إتمام الصفقة المشوّهة التي بات مؤكدا أنها لن تعيد اللاجئين ولن تحقق، لا في زمن نتنياهو ولا سواه، غير دولة كانتونات منقوصة السيادة، حتى لو حصلت على وجود ما في القدس الشرقية، والنتيجة أننا سنحتاج إلى زمن طويل من العمل والنضال حتى نواجه تداعيات تلك الصفقة ونعيد الصراع إلى سكته الصحيحة من جديد.
الجزيرة نت