الولايات المتحدة وايران في أفغانستان: المصالح المشتركة وذاكرة العداء التاريخي
كريم صادجا بور
هل تتحول أفغانستان إلى مسرح للحرب الباردة بين أمريكا وإيران ؟
أوباما يحيد عن “الشراكة على طريقة بوش” ولكن الأمر يحتاج إلى وقت
حري بنا أن نشيد بالتزام إدارة أوباما بالاستقرار وحقوق الإنسان في أفغانستان، تلك الدولة التي تحملت من المعاناة ما لا يحتمل من جراء نمط طال عليه الأمد من التآمرات الكبرى على السلطة تلاه نمط من التقاعس التام عن ممارسة السلطة.
وتعي الإدارة الأمريكية جيدا أن الأمن الدائم في أفغانستان يمثل تحديا هائلا لا يمكن إنجازه دون تضافر جهود الدول المجاورة مجتمعة. وكما أشار الرئيس أوباما مؤخرا، فإن مصير باكستان يرتبط “ارتباطا لا فكاك منه” بمستقبل أفغانستان. وبالمثل، فإذا أخذنا في الاعتبار الصلات التاريخية العميقة والروابط الثقافية واللغوية التي تربط أفغانستان بجارتها إيران، فإن هذه الأخيرة تقف في موقف يؤهلها لأن تلعب دورا حاسما في مستقبل أفغانستان. ويمكن أن تساعد الدبلوماسية الأمريكية الفعالة في جعل هذا الدور الحاسم للنفوذ الإيراني دورا إيجابيا وليس دورا سلبيا. فبرغم ثلاثين عاما من العداء فإن الولايات المتحدة وإيران تجمعهما نقطة تقاطع هامة في أفغانستان. فإذا أخذنا في الاعتبار الحدود المشتركة بين إيران وأفغانستان التي تمتد عبر 580 ميلا واستضافة إيران لما يزيد عن 2 مليون لاجئ أفغاني على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، لوجدنا أن إيران ليست في وضعية المستفيد من استمرار انعدام الاستقرار والصراع المدني في أفغانستان.
ومع انفراد إيران بأعلى معدلات لإدمان المخدرات في العالم، يكون لدى إيران مصلحة قوية في أن تشهد نشاط إنتاج المخدرات وقد استأصلت شأفته تماما من أفغانستان. وبالنظر إلى تاريخها العنيف مع حركة طالبان المناوئة أيديولوجيا للشيعة (والتي طالما أشارت إليها إيران في الماضي باسم: ” إرهابيو المخدرات”) فإن طهران لن يسرها أن تراها تنهض مرة ثانية.
إلا أن التصرفات الإيرانية في أفغانستان (وفي أي مكان آخر) هي عادة نتاج لعلاقتها مع الولايات المتحدة. فلقد شعرت طهران بالمهانة بعد أن وصمتها إدارة بوش بأنها جزء من “محور الشر” في يناير عام 2002 وارتأت أن تعاونها مع الولايات المتحدة في المساعدة على تكوين حكومة ما بعد طالبان قد ذهب هباء منثورا.
ومنذ ذلك الحين، فإن جهود تقويض الدور الأمريكي قد أدت بإيران إلى اتباع أساليب تكتيكية غير مفيدة ولا طائل من ورائها مثل قيامها المفاجئ والعنيف بإعادة اللاجئين الأفغان بل وانتهاج أساليب أخرى مناوئة لمصالحها الاستراتيجية الخاصة مثلما قامت به من تزويد حركة طالبان بالأسلحة.ووفقا لمسؤولين أمريكيين سابقين ممن يتاح لهم سبيل الوصول إلى استخبارات سرية، فإن المساعدات الإيرانية لطالبان لم تكن من الخطورة بحيث يمكن أن تشكل أي تغيير على أرض الواقع، ولكنها كانت من الأهمية من حيث كونها إشارة مرسلة إلى الولايات المتحدة بعدم اعتبار ضبط النفس من جانب إيران أمرا مسلما به دائما.
لذا، فإن القرار الذي اتخذته إدارة بوش بتصوير إيران على أنها رأس الإشكال في أفغانستان بدلا من اعتبارها جزءا من الحل قد قوبل بخيبة أمل شديدة من جانب الرئيس كارازاي والحلفاء بالناتو. وقد أسر لي دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى (ومتحدث ذلق للفارسية) كان قد قضى عدة أشهر في إيران عاكفا على دراسة تأثير النفوذ الإيراني، وذلك عند قفوله عائدا من طهران، بأنه بينما كان التأثير الباكستاني في أفغانستان “إيجابيا بنسبة 20 في المئة وسلبيا بنسبة ثمانين في المئة، فإن التأثير الإيراني،على العكس من ذلك، جاء أقرب إلى أن يكون إيجابيا بنسبة ثمانين في المائة وسلبيا بنسبة عشرين في المائة وبحيث تصبح الكثير من التصرفات السلبية للإيرانيين هي رد فعل للإجراءات العقابية من جانبنا” ويضيف قائلا: ” وفي هذا السياق يبدو التركيز على الدعم الإيراني لطالبان قريب الشبه بالتركيز على الهجرة الكندية غير الشرعية إلى الولايات المتحدة”.
ومع ذلك،فلا ينبغي أن نبالغ في تصوير حسن النوايا الإيرانية في أفغانستان. فإن حكومة تمارس سياسة القمع وعدم التسامح بالداخل لا ينتظر منها غالبا أن تحاول تصدير التعددية والديمقراطية على الغرار الأمريكي إلى الخارج. وبالطبع سوف تسعى طهران إلى توطيد نفوذها داخل أفغانستان من خلال دعم الأطراف الأفغانية الفاعلة المتعاطفة مع مصالحها ورؤيتها للعالم. ورغم ذلك، فعلى صعيد المستقبل المنظور ستتركز الأولويات الآنية لأفغانستان على الاحتياجات الأولية بشكل أكبر بكثير من تركزها حول بناء ديموقراطية ليبرالية. ولا توجد أمة تتمتع بميزة اختيار جيرانها كما أن دولة تعاني من الدمار والفقر المدقع والبؤس مثل أفغانستان بالطبع لا تملك ترف ازدراء المساعدة الإيرانية لها.
وبالرغم من الثغرات الهائلة في أفغانستان،فإن الأطماع الإيرانية في تحقيق الهيمنة داخل أفغانستان تهدهد من حدتها الخبرة التاريخية والحقائق الديموجرافية. فعلى النقيض من العراق،مهد التشيع،وموئل أهم الأضرحة والمدارس الشيعية في النجف وكربلاء، حيث يمثل المذهب الشيعي دين الأغلبية على مستوى الدولة،فإن الشيعة في أفغانستان هم قلة منفردة ويمثلون أقل من 20 في المائة من مجموع السكان. وبالإضافة إلى ذلك،فقد رأت إيران في أوائل التسعينات أن وجود حكومة في كابول ملتفة حول طهران بينما تقودها أقلية لم يكن يوما يمثل وجودا يمكن استدامته والمحافظة عليه بل أدت مثل هذه الحكومة إلى مزيد من القلاقل. فقد علمت التجارب طهران أن مما يخدم مصالحها بشكل أفضل وجود حكومة صديقة ومستقرة تقودها الأغلبية وليست حكومة تقف على رأسها أقلية خاضعة لإيران ولكنها تحمل في داخلها بذور عدم الاستقرار.
وفي نهاية الأمر، فإن تورط الولايات المتحدة مع طهران كشريك كامل و “طرف مسؤول” في أفغانستان لهو توجه محدود التكلفة لكنه يحمل في طياته فوائد هائلة. وبالرغم من أن طهران ستعرب عن امتعاضها بشأن التعاون مع واشنطن وربما تحيط تعاونها بسياج من الانتقادات للسياسات الأمريكية، بالنظر إلى رغبة الإيرانيين في الظهور بمظهر نصير المستضعفين في العالم الإسلامي، فإنها ليس بوسعها أن تظهر بمظهر يوحي بأن عداوتها نحو الولايات المتحدة تفوق تعاطفها مع الشعب الأفغاني.
وبينما قد لا يكون التعاون المباشر بين الولايات المتحدة والقوات الإيرانية في أفغانستان أمرا واقعيا في الوقت الراهن،فإنه ينبغي على واشنطون أن تقوم بدعم وتشجيع دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو التي صدرت منها محاولات للتعاون مع إيران في عديد من المسائل التي تتراوح بين مكافحة المخدرات والبنية التحتية والتنمية الزراعية واستخدام الموانئ والطرق الإيرانية كمعبر لتوريد المساعدات ونقل القوات التابعة للناتو. وبوجه خاص، تجب الاستعانة بالخبرة الزراعية الإيرانية من أجل مساعدة المزارعين الأفغان في زراعة محاصيل بديلة عن الخشخاش.
ويحتج ناقدو سياسة التعاون بأن المحاولات التي بذلتها إدارة بوش من أجل التعاون مع إيران لم تسفر عن أية نتائج. فبرغم اللقاءات العديدة التي تمت بين مسؤولين أمريكيين وسفراء إيرانيين سابقين في بغداد، فلم يلحظ المسؤولون الأمريكيون أي تحسن في السياسات الإيرانية داخل العراق، وفي بعض الحالات كانوا يزعمون أن دعم إيران للجماعات المتشددة المناوئة للولايات المتحدة قد ازداد برغم هذا التعاون.
لقد كان أحد المآخذ الرئيسية على المنهج الذي اتبعته إدارة بوش هو أنها لم تعط طهران أية بادرة تدل على رغبتها في تعاون استراتيجي أوسع نطاقا.فلم يكن من هذه الإدارة إلا أن توسلت إلى إيران لكي تقوم بتسهيل مهمة أمريكا في العراق بحجة أن استقرار العراق يصب في صميم المصلحة الإيرانية. وكما أخبرني أحد الدبلوماسيين الإيرانيين في ذلك الوقت: ” إن الولايات المتحدة تكيل لنا التهديدات العسكرية باستمرار وتؤلب شعبنا علينا وتبذل جل مافي وسعها من أجل إنزال العقوبات الاقتصادية بنا وضرب العزلة السياسية حولنا. أو تتوقع منا بعد هذا كله أن نساعدهم على الخروج من ورطتهم في العراق ؟ إننا لن نلعب دور السامري المخلص لمجرد أن هذا الدور يروق لهم”
إذا يجب على إدارة أوباما أن تمضي قدما في توضيحا لطهران أنها لا ترغب في مجرد تحالف تكتيكي معها أو شراكة منعزلة في أفغانستان وإنما ترغب بالأساس في التغلب على روح العداء التي تراكمت على مدى العقود الثلاثة الأخيرة وبناء علاقة تعاونية واسعة النطاق.
وبينما من المهم فهم حجم التأثير الإيراني الكبير على القضايا الأخرى ذات الأهمية الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة-وتتمثل في العراق والصراع العربي الإسرائيلي والانتشار النووي والإرهاب والطاقة وكذلك الخيوط التي تربط بين كل هذه القضايا فمن الضروري أيضا تفكيك السياسات الإيرانية. وبعبارة أخرى، فبينما لن يجد التوتر الأمريكي-الإيراني حول حزب الله أو حماس سبيلا إلى الانفراج عما قريب، فإن هذا لا ينبغي أن يكون عائقا أمام التعاون الإيراني-الأمريكي في أفغانستان.
وإذا علمنا أن سياسات طهران في أفغانستان (وكذلك في العراق ولبنان) لا تتولى تنفيذها وزارة الخارجية الإيرانية وإنما يشرف على تنفيذها الحرس الثوري الإسلامي، فإنه لو قدر لمحاولات الكونجرس الرامية إلى إضفاء وصف الكيان الإرهابي على الحرس الثوري الإسلامي أن تنجح فسيؤدي هذا بشدة إلى تعقيد أية مبادرات دبلوماسية باتجاه إيران. لذا فقد يتم منع المسئولين الأمريكيين بشكل فعال من التحدث مع الأطراف الإيرانية الفاعلة ذات التأثير الأكبر. وعلى حد قول دونالد رامسفيلد، فإن علينا أن نتعامل مع القادة الإيرانيين الذين نجدهم أمامنا وليس الذين نتمنى أن يكونوا أمامنا.
وعلى ذلك، فإن المنبع الكامن للتوتر في العلاقة الأمريكية-الإيرانية يتمثل في انعدام الثقة. فالولايات المتحدة لا تثق بأن النوايا النووية لإيران سلمية ولا تصدق أن إيران يمكن أن تؤدي دورا متعاونا فيما يتعلق بجلب السلام والاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط. وعلى الجانب الآخر تعتقد القيادة الإيرانية أن الهدف النهائي لواشنطون ليس هو تغيير السلوك الإيراني وإنما تغيير النظام ذاته.
ولهذا السبب، فمن الحكمة تهوين إدارة أوباما من شأن التوقعات بحدوث انفراجة دبلوماسية في العلاقة مع طهران. فمع ثلاثة عقود من تدهور أزمة الثقة والنوايا السيئة فإن نتائج أية عملية تنطوي على مشاركة لن تكون سريعة ولن ينصهر جليد العداء بعد لقاء أو اثنين أو حتى بعد عدد من اللقاءات.
وختاما، فإنه يتعين علينا أن نكون على وعي بكل الاحتمالات الممكنة. فالمناقشات البناءة حول أفغانستان يمكن أن يكون لها مردود إيجابي على النزاع النووي، والذي يعد عرضا من أعراض أزمة الثقة بين أمريكا وإيران،وليس هو السبب الكامن وراء التوتر.وإذا كانت الطموحات النووية لإيران تعكس إحساسا بانعدام الأمن فيما يتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة، فإن خلق جو من التعاون والنوايا الطيبة في أفغانستان يمكن أن يؤدي إلى إرساء لهجة وسياق جديدين يمثلان أساسا للعلاقة، مما يمكن أن يهون من الرؤية الإيرانية للتهديد ويرغم قادتها على إعادة تقييم جوانب عديدة من سياستهم الخارجية والتي من بينها توجهاتهم النووية.
إن تحقيق المكاسب لجميع الأطراف هو شيء لا يوجد غالبا في العلاقات الدولية. فالتعاون بين أمريكا وإيران قد يكون في صالح الدول الثلاثة، تماما مثلما كان العداء الإيراني الأمريكي في السنوات القليلة الماضية مضرا بمصالح الدول الثلاثة أيضاً.
موقع المجلة