منتقيات من الشعر الأميركي الحديث
كمثل العلامات المميزة لكل طابع قومي، تقف الخاصيات لآداب أمة ما، موقفاً لا تحقَّق هويته بسهولة. غير أننا نُسلّم متفقين جميعاً بوجودها، ولا نكفّ عن التحدث عنها كحقائق ظاهرة. إن بوالو وبودلير وڤاليري مثلا، يجمعهم شيء دامغ غير اللغة. هناك إيقاع عقلي يربطهم، ومناخ فكري واحد ينكشف في أعمالهم. وبالنسبة الى الأدب الأميركي، فكثيرون لا يشكّون يوما في التعريف بإحكام، أو تحديد ميزته المسيطرة. ولعل حكم هنري آدامز أحد كبار المتشائمين، هو خير إثبات لشخصية هذا الأدب.
قال آدامز: “إن الروح الأميركية – تلك التي في بوسطن، كما التي في ولايات الجنوب أو الغرب – تحب أن تسعى الى هدفها باستقامة، وأن تواثبه وجها لوجه، كي تؤكد أو تنفي بوضوح شيئاً ما، سوف تعتبره كفعل واقع. إنها روح اتفاقية في نتائجها، اتفاقية اخيراً في تعبيرها، مع إعلانها بضجة استقلالها تجاه كل اتفاق”. إن طريقة الحياة الأميركية هي المشكلة الرئيسية، لأديب هذه الولايات، سواء أكان شاعراً، ام روائياً، أم مسرحياً. حيث إن هذه الولايات ليست كياناً ثابتاً، كما فرنسا أو انكلترا مثلا، وغيرهما من الدول العريقة. فهي حديثة العهد، وعلى استعداد لأن تضيف نجمة أخرى الى علَمها إن استطاعت.
وعليه، فالأديب الأميركي ينظر الى وطنه، كتجربة إنسانية. وكل تجربة عنده تُجادَل. وقد يكون الوحيد، منذ الحرب الانفصالية خاصة، الذي تصدى تنظيمياً للحكم على هذه التجربة. وفي مقابل جماعية يتغيّر فيها الأفراد باستمرار، خلقاً وروحاً وتقليداً، كان الأديب يجد تجربته مدعاة للحزن والرثاء. وفي اصطلاح النقاد، أن عام 1912، كان اللبنة الأولى لبناء حركة شعرية جديدة، حينما صدرت مجلة “الشعر” في شيكاغو، لصاحبتها هاربيت مونرو، وتحلّق حولها داڤيسون فك، وليم ڤون مودي، هِلِنْ دادلي، والشاعر الذي تزعّم التجديد في ما بعد: عزرا باوند. ومرت أعوام مثمرة لهذه المجلة، تبدت أثناءها معالم الشعر الأميركي على قاعدة وطيدة حديثة. فكان لنا ادغار لي ماسترز، كارل ساندبرغ، وروبرت فروست. في هذا العهد الذي دمغته جماعة التصويريين بميسمها، جرى أول اتصال بالشعراء الرّمزيين الفرنسيين، فترك أبعد الأثر. ثم أُنشئت بعد ذلك، مجلة أخرى باسم “الآخرون”، اهتمت بشعراء أغفلتهم “الشعر”. فكان لنا وليم كارلوس وليمز، ماريان مور، ووالاس ستيڤنز، الذين عُرفوا بنزعة الجدة والابتكار. أما عام 1914 فقد أنتج شاعراً كبيراً، كان ذا أثر بالغ على الشعر الأميركي والانكليزي. حتى أننا نحن هنا في لبنان ومصر والعراق وسوريا، لم نسلم من صنعته، فتبعها تلامذة ومعجبون. في ذلك العام، تعرّف پاوند بالشاعر الشاب تي. اس. إليوت. فأُعجب به كثيراً وراح يشجعه ناصحاً ومعلّماً ومنقّحاً، الى أن اشتهر التلميذ وكاد يحجب معلّمه. ومن هذين الرائدين انطلق الشعر الأميركي والأنكليزي، كما أفاد من أجواء و. هـ. أودن كذلك، في الشكل والمضمون، فصار منفتحاً قابلا لمذاهب وينابيع عدة. وفي المنتقيات التالية والتعريفات الموجزة، ربما تتوضّح الصورة أكثر عن الاتجاهات الشعرية الأميركية الحديثة.
عزرا پاوند (م. 1885)
بعد احتجازه في مستشفى للأمراض النفسية، من 1945 الى 1958، في انتظار الحكم الذي لم يصدر في حقه في دعوى الخيانة العظمى في اشتراكه مع حكومة موسوليني أثناء الحرب العالمية الثانية، بعد ذلك الحين، أصبح پاوند بسرعة، في أعين الشعراء الشباب، شهيد الشعر بالذات، والضحية المثالية لجماعة تضمر الضغينة للشعر.
وفي عام 1912، أخذ زعيم المدرسة التصويرية، يُطري استعمال اللغة العادية، والشعر الحرّ، وفائدة الصورة: عدوة “العموميات والمجرّدات”، وأيضاً يُطري الايجاز: “ماهية الشعر”.
يظهر پاوند في آثاره، شاعراً كثير الحركة، وثائراً على اتفاقية العقلية الأميركية، وجامحاً، ومشوشاً، ذا قريحة نابهة تنتزع الاحترام كله. إنه عاجنٌ غريب للثقافات غير المتوقعة، واسع المعرفة، يرصف بغير وفاق، أصداء الشعر القديم، فترى في بنيانه، استشهادات صينية، ويونانية، وإيطالية، واسبانية، جذبت اليه عدداً كبيراً من مواطنيه، ومتذوّقيه في العالم الذين تخدرهم كثرة المعارف السيئة الهضم.
پاوند مفضل كبير وسخيّ، على الشعر الأميركي والأنكليزي الحديث.
النشيد الثالث عشر
ومرّ كونغ
بالقرب من هيكل السلالة الملكية،
ودخل الى غابة الأرز،
ثم نفذ الى جانب النهر المنخفض
بصحبة كيو، تشي،
وتيان الذي كان يتكلم بصوت خافت:
“إننا لم نُعرف”، وقال كونغ،
“هلاّ تتولّى مهمة الحوذي؟
“عندئذ ستصبح معروفاً.
“أو أتولى أنا مهمة الحوذيّ أو أتعلم الرماية؟
“أو أمارس الخُطبة الشعبية؟”
وقال تسو – لو: “سأنظم أُسس الدفاع”،
وقال كيو: “لو كنت حاكم المقاطعة، لكنت أجريت تحسينات على ما هي عليه”.
وقال تشي: “أُفضل هيكلاً جبلياً صغيراً،
أقوم فيه ببعض الطقوس المناسبة”.
وقال تيان، ويده على أوتار مزهرة،
فيما الأنغام الهادئة راحت تتردد
حتى بعد رفع يده عن الأوتار،
وتلاشي النغمِ كالدخان، تحت أوراق الشجر،
وهو يتابعه بعينيه:
“وبركة السباحة القديمة،
“والفتيان يقفزون من على لوح الغطس
“أو يجلسون بين الأشجار النامية لعزف المندولينة”.
وتبسَّم كونغ للجميع بلا استثناء،
وأراد تسينغ – سي أن يعرف:
“مَن منكم أجاب بدقة؟”
وقال كونغ: “الجميع أجابوا بدقة،
“أي أنّ كل واحد بحسب طبيعته”.
ورفع كونغ عصاه على يُوان يانغ،
وكان يوان يانغ أكبر سناً منه.
ويجلس الى جانب الطريق
متظاهراً بتلقي الحكمة.
وقال له كونغ:
“أيها الأحمق العجوز، كفى.
“قُم وافعل شيئاً مفيداً”.
ثم قال كونغ:
“احترموا مواهب الطفل
“منذ يبدأ يتنفّس،
“لكنّ رجلا بلغ الخمسين ولم يتعلّم شيئاً
“ليس جديراً بالاحترام”.
و”عندما الأمير يجمع حوله،
كل العلماء، والفنانين، فإن أمواله
ستُستخدم بشكل كامل”.
ثم قال كونغ، وكتب على أوراق الخيزران:
“اذا لم يكن المرء نظامياً في صميمه،
“فلن يستطيع أن يفرض النظام على محيطه؛
“واذا لم يكن المرء نظامياً في صميمه،
“فإن عائلته لن تتصرّف وفق النظام؛”واذا الأمير لم يكن نظامياً في صميمه،
“فلن يستطيع ان يفرض النظام على مملكته”.
وقد استعمل كونغ الكلمات “نظام”،
و”الاحترام الأخويّ”،
ولم يقل شيئاً عن “الحياة بعد الموت”.
ثم قال:
“كل من يستطيع بلوغ الحدّ الأقصى،
“يستطيع أن يتجاوز الهدف،
“ويصعب عليه أن يقف في الوسط”.
وقالوا له:
“اذا ما ارتكب امرؤ جريمة،
“هل على والده أن يحميه ويخبئه؟”
وقال لهم كونغ:
“عليه أن يخبئه”.
وعقد كونغ زواج ابنته على كونغ – تشانغ
برغم وجوده في السجن.
ثم عقد زواج ابنة أخيه على نان – يونغ،
برغم كونه بدون عمل.
وقال كونغ: “لقد حكم وانغ باعتدال،
“وكان يسود الدولة في عهده النظام،
“حتى أني أذكر
“يوم ترك المؤرخون ثغرا في كتاباتهم،
“أعني بالنسبة الى الحوادث التي غفلوا عنها،
“ولكن يبدو أن ذلك الزمن قد ولّى”.
وقال كونغ: “بدون خصيصة،
“لا يمكنك أن تعزف على تلك الآلة،
“أو تعزف الموسيقى التي تناسب الأناشيد.
“إن أزهار شجرة المشمش
“تميل من الشرق الى الغرب،
“وقد حاولتُ أن أمنع سقوطها”.
إي. إي. كمينعز (م. 1892)
ساهم في فصل الاميركية المكتوبة عن الانكليزية المكتوبة، وفي إعطاء الكتابة في الولايات المتحدة، ليونة لم تحزها لغة الوطن القديم الأم.
وهو يشرّح الكلمات، ويقلب نظام مقاطعها، ويكبّر الحروف داخل الاسماء، بدل أولها، ويلصق حروفاً عدة او يقطعها بالبياض.
تضعه الدوائر الاميركية الأدبية في مركز الصدارة بين شعراء القرن العشرين.
يا حبيبتي
يا حبيبتي
شَعركٍ مملكة
مَلكها حيث الظلام
جبينك درج أزهار
رأسك غابة
ملأى بالطيور الناعسة
نهداك قفيرا نحلٍ أبيض
يجثمان على غصن جسمك الأملود
وجسمك عندي نيسان
في إبطه يُقبل الربيع
فخذاك بيضاوان شدّتا الى
عربةٍ ملكيّة
هما من عزف موسيقيّ ماهر
تُسمع بينهما دائماً أغنية جميلة
يا حبيبتي
شَعر رأسك علبةٌ
لجوهرة عقلك الرائعة
شعر رأسك محاربٌ
يجهل الهزيمة
شعرك المسدَل على كتفيك جيشٌ
يزحف مظفّراً على إيقاع الأبواق
ساقاك شجرتان من صوغ الأحلام
ثمارهما غذاء النسيان
شفتاك حاكمٌ مستبدٌّ في لباسٍ قرمزي
في قُبلتهما مَجمَع ملوك
معصماك
طاهران
يحتفظان بمفاتيح دمك
قدماك تحت رسغيك باقتا زهورٍ
في إناءين من لُجَين
حارت النايات في عَزف جمالك
وعيناك تكشفان عن
كؤوس الزهور المعروفة برائحتها الذكية.
ريتشارد إبرهارت (م. 1904)
يتميز شعره الذي تُداخله أفكار مسيحية، ببحث ذهني فكري تتقاسمه تأثيرات من بعض الأدب الاميركي، ومن معظم الأدب الانكليزي التقليدي. موضوعه الرئيسي هو الموت، حيث يتناول موت الناس والحيوانات والاشياء تناولاً مباشراً حاداً وببساطة لا مثيل لها.
متاهة
لديّ في ذراعي شجرة،
وثمّة كلبان في قدمي،
الارض لا يمكن أن تؤذيني
وبُحيرة عيني جميلة.
لكن ناراً أحرقت الشجرة،
ولا دم لي لأجل الكلبين،
فلماذا جعلتْ مني الارادة تاجاً
لعقلٍ بشريّ ذي حدود؟
من صنع الشجرة؟ من صنع النار؟
لقد عاد الكلبان الى صاحبهما.
والارض تقتل رغبتي
التي تقفز أسرع فأسرع.
إنه الانسان، الانسان
الذي تخيّل المخيلة،
والذي صنع ما يستطيع صنعه الانسان؛
إنه ينقض خَلْقَ الخَلْق.
ليس من شجرةٍ في ذراعي،
وليس ثمة كلبان في قدميّ،
يمكن الارض أن تؤذيني أو تُحسن اليّ،
وبحيرة عيني لم تكن سوى مزحة.
عودة الى النظام
أعود الى النظام كمن يتألم
أصير الشيء الذي أتشوّق اليه وأبتغيه.
أنا نظامٌ عابرٌ
يتكلم بانسجام قبل الكارثة.
إنه لأمر لافت، أن ينكر المرء معتقداته.
ولأمر مهم، أن يرى المرء كل عين من جديد.
ولنوعٌ من البعث،
أن يحيا المرء بعد كل حكم مسبَق.
الآن الشمس سيّد معتم،
والهواء غفرانٌ نديّ.
الآن أعتقد بأني حرّ،
إن شاء امرؤ أن يعتقد بأنه حرّ.
وأن يتكلم المرء في زمن الفوضى، هو حق الانسان الاول والراسخ،
وقانون قوة لا تُجحَد، مَرنة،
لأولئك الذين يملكون حوافز خفية.
فَلْتولد السمفونية اذاً،
والحركة البارعة، والوتر المنتظر،
كي تدوّي الانغام الصافية،
وتسكن الروح في الاشياء اللامادية.
ولنكن كما كنّا في الماضي،
قبل أن تقهرنا التجربة والزمان،
وَلننعم باللذة الخالصة
في ممالك أعيننا الاولى.
أنا عائدٌ الى نظام كنتُ فيه
قبل ضرورة العالم،
وأحلم بتلك المملكة
كالغرقى الذين يرون فوقهم السموات.
ستانلي كونيتز (م. 1905)
ينتمي كونيتز الى جماعة من الاميركيين البارزين الذين يمتازون بأسلوب تقليدي، وإن لم يكن شديد التقيّد بالاساليب التقليدية القديمة. وفي نظره أن التراكيب الشعرية التقليدية، تحرّر الشاعر أكثر مما تقيّده. قيمة أشعاره الاخيرة في المعنى النافذ للايجاز، والمثل.
نهاية الصيف
هياجٌ في الريح،
واضطراب في الضياء،
أَنذراني بأن السنة البغيضة
قد تدور حول محورها تلك الليلة.
فوقفتُ في الحقل المحرّر من السحر،
بين الجُذامات والحجارة،
مذهولاً، فيما كانت دودة صغيرة تهمس في أذني،
بأغنية عظمي النخاعي.
وسال اللازورد في لازورَد الصيف،
وانطلق صقر من برجه المجرد من السحب،
واشتعل سقفُ الهُري، فأدركتُ
أن جزءاً من عمري قد انقضى.
الآن ينفتح الباب الحديديّ الشمالي
في ضجّة: ها هي الطيور، أوراق الشجر والثلوج،
تدفع بجموعها الى الأمام،
فيما تعصف ريح عنيفة.
افتحوا الابواب
في مدينة السحب الملتهبة،
أسحب خلفي حياتي في كيس،
وأتسكّع عارياً، تجلدني
تجربة الدم السوداء، الدم المفعم بالحيوية.
هنا أمام الباب الضخم،
حيث نُقشت أسطورة شبابي العجيبة،
لوّحت بعظمة موتي الكبيرة،
وضربتُ بها ضربةً واحدة فقط.
غَسق
منتظرٌ أنا. أدخل حتى آخر الغرفة.
أُسودٌ متخمة متوقدة، تحتشد
في الزوايا، وتخبو. فلمن يهمّه
الامر، أنا المسفوع الوجه أنتظر.
الزمن يدفق عبر النافذة؛ النهار
يُريق على الارضية آخر قطرة
دمٍ نقيّة. ومنطوية (كبيرة، شفافة، ورمادية)،
تقف عُثّةٌ في ضوء الغروب.
وعلى قلبي الذي، من كدَره، لا يسكب
قطرة عسلٍ من لُبِّه المثقوب،
بل يُطعم يديّ ويُطعم شفتيّ،
يقف القمر، القمر، عند الباب!
ديلمور شفارتز (م. 1913)
شعره يُعبّر، بحميّا أصيلة ولاذعة، عن القلق المعاصر. وهو يعيد باستمرار، تحديد الوضع البشري في هذا العصر، محتجاً بشدة ضد مظاهر الرعب التي تهدّد الانسان. يطغى على شعره البُعد الفكري.
مملكة الشعر (مقطع)
إنه كالنور،
بل هو النور،
ومفيدٌ كالنور، وكالنور
فاتن ورائع.
… الشعر أكيداً،
أهم، وأثمن،
وأكيداً أروع
من شلالات نياغرا، وكانيون العظيم، والمحيط الاطلسي،
وغيرها من الظواهر الطبيعية المثيرة للاعجاب.
إنه مُجدٍ كالنور، وكالنور فاتن.
إنه محالٌ
على وجه الضبط، لكنه يسمح بالقول:
إن يكن لا يمكن حمل جبلٍ، فالقصيدة يمكن حملها
الى أي مكان.
الشعر هائلٌ
بمتعة، حيث يمكنه القول بجدٍّ أو بمزاح:
“الشعر افضل من الأمل،
“لأن الشعر هو صبر الأمل، وكل صور الأمل الحية،
“الشعر أفضل من الاثارة، لأنه أعذب،
“الشعر أسمى من النجاح والنصر، لأنه يبقى
بعد النعمة الصافية
“طويلاً بعد ارتفاع أكثر المفاخر أسطورية
ثم هبوطها.
“الشعر حيوان أكثر قدرة وسحراً
الى أبعد حدّ مما تملكه الغابات، والسيركات
أو حدائق الحيوان.
لأن الشعر يمجّد الحقيقة ويسمو بها.
الشعر يعلن إن تكن الحقيقة رائعة أو غبية؛
لأن الشعر، بطريقة ما، كلّي القدرة؛
لأن الحقيقة متنوعة وغنية، قديرة ونشيطة،
لكنها غير كافية
لأنها مشوّشة وبلهاء، أو بالحريّ تكاد تبدو
بشكل غريب، في أوقات، متّقدة الذهن؛
لأن الحقيقة بدون الشعر خرساء ومفكّكة؛
هي فظّة كأُبّهة الرعد وتفخيمه؛
خواتيم خُطبها تستند الى خُطبة الاوقيانوس الدائمة؛
لأن سطوع الحقيقة ومجدها، بدون الشعر،
يبهتان كما أوبرات الغَسق الحمراء،
وأنهار الصباح ونوافذه الزرقاء.
روبرت لويل (م. 1917)
من الشعراء البارزين في الكلاسيكية الكاثوليكية، ذوي الميول التقليدية المتشددة. إلاّ أن لويل أقلع عن هذا المنحى القديم. وإن أشعاره الاخيرة، بما لها من ثقل نوعي، وكمال شكلي كبير، جعلت منه احد الاصوات الاساسية للعبث والسخرية في الادب الأنكلو – ساكسوني الى حد ان هذا الصوت قد حمل مجلة سياسية شهيرة مثل “تايم” على ان تكسر القاعدة، وتزين غلافها الخارجي بكامله، بصورة لويل مع عبارة: “الشعر في زمن النثر” Time, 2 June, 1967
كشجرة حور قرب الماء
الظلمات تنادي الظلمات، والمصيبة تشق طريقها الى نوافذها في بابل
بوسطن حيث المال يتكلم
ويضاعف ظلمات بلدٍ
ماهر في التخطيط حيث “العذراء” تسير
والورود تلولب وجهها المطلي بالميناء،
او تسقط فتاتاً في الشوارع العطشى.
فيا “سيدتنا البابلية”، اذهبي، اذهبي.
كنت سابقا بؤبؤ عينك،
الذباب، الذباب ملء شجرة الحور في الشوارع.
الذباب، الذباب، ذباب بابل
يطن في طبلة اذني فيما نشيد الشيطان الطويل
والمأتميّ يُعلن للناس ساعة
المدن الطافية حيث لسانه الذهبي
يسحر بَنّائي برج بابل
ويحملهم على الارتفاع بمدينة المستقبل حتى الشمس
التي لن تغرب ابدا عن شوارع بوسطن
الجحيمية، حيث النور سيف
يضرب حارس “السيد”
الذباب، الذباب على شجرة الحور في الشوارع.
الذباب يندفع بسرعة الى المياه العجائبية في الاطلسي
الجليدي، وعينا برناديت
اللتان ابصرتا “السيدة العذراء” منتصبة في مغارة
“ما سابييل” بوضوح تام
الى حد ان رؤياها اطفأت عيون العقل. القبر
مفتوح وقد ازدرده المسيح.
فيا اسوار اريحا! ويا كل الشوارع
التي تقود الى سورنا الاطلسي منشدة: “انشدي انشدي لقيامة الملك”.
الذباب، الذباب ملء شجرة الحور في الشوارع.
الموتى في أوروبا
بعد تفريغ الطائرات، سقطنا
منطمرين جميعا، عزّاباً وعوازب،
لا تاج من شوك، ولا من حديد، ولا تاج من لومبارديا،
ولا مسلات مخروطية مشتعلة في اتجاه السماء
يمكن ان تنقذنا. فأنهضينا ايتها “الأم”، لقد سقطنا هنا مختلطين بعضنا مع بعض في النار الهلامية:
ملعونة في زماننا ارضنا المقدسة
فيا “امنا” هل سنبعث في عيد مريم
في ماريلاند، حيث الجيف تمازحني
بين الخرائب؟ صلّي لأجلنا
نحن الذين شوّهتنا القنابل ثم طمرتنا،
عندما يبعثرنا ابليس “يوم الصعود”،
ايتها الام انتشلي اجسامنا من ألسنة النار:
ملعونة في زماننا ارضنا المقدسة.
أمي، ان عظامي ترتجف واسمع
اصداء الارض والبوق
ينوح على بقاياي. فهل،
(يا مريم!) انا العازب دمية التراب،
سأشهد للشيطان؟ اصغي اليَّ،
يا مريم، واخلطي الارض، والبحر، والهواء، والنار:
ملعونة في زماننا ارضنا المقدسة ¶
هنري فريد صعب
النهار