سأخون وطني “: محاولة في فهم ما لا يمكن فهمه!
محمّد ديبو
قرأت منذ مدّة خبرا مفاده أنّ الشرطة المصريّة أطلقت النار على سودانيّ كان يحاول العبور إلى إسرائيل وأصابته بثلاث طلقات في المعدة والذراع . منذ قراءتي الخبر ، وأنا أفكّر فيه و أقلّبه على زوايا متعدّدة لأفهم ما لا يمكن فهمه ، ولكن ما سأكتشفه من خلال بحثي حول هذا الموضوع سيكون أفدح ، إذ أعلنت منظمات حقوق الانسان المصريّة أنّ الشرطة المصريّة قتلت 28 شخصا حاولوا التسلّل إلى إسرائيل في عام 2008 وحده! إذا كان هؤلاء قتلوا، ماذا عن أعداد الذين ألقي القبض عليهم وهم يتسلّلون؟ و ماذا عن أعداد الذين تسلّلوا ؟ أسئلة كثيرة ومفجعة يثيرها هذا الذي يحصل منها:
ما الذي يدفع “عربيّا” للهجرة إلى إسرائيل؟ ما الظروف التي تدفع إنسانا أن يلجأ إلى عدوّه التاريخيّ هربا من وطن ولد وترعرع ونما على محبّته ؟ وهل نلوم المتسللين أم نلوم الذين تسبّبوا بوصولهم إلى هذه الحالة ؟ هناك حالة أخرى مشابهة هي هجرة المصريين وزواجهم من إسرائيليات ليولد أطفال جنسيّتهم إسرائيلية ومصريّة في آن ! أيضا لماذا هاجر هؤلاء بعد توقيع بلادهم اتفاق السلام مع إسرائيل وخروجها من دائرة الحرب التي تستنزف ميزانيات دول بأكملها بحجّة الذود عن تراب الوطن المنهوك أصلا ! لماذا فشلت مصر في تحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية تضمن لمواطنيها أدنى مستوى من الكرامة والعيش الكريم. هل سمعتم بإسرائيلي هاجر إلى دولة عربية ليعيش فيها، رغم أنّ إسرائيل تعيش حالة حرب منذ خمسين عاما، وتعدّ بلدا غير آمن بالمقاييس الدولية ؟
المقارنة بيننا وبين إسرائيل صعبة وسهلة وقاسية ومربكة في آن، ولكنّها ضرورية لفهم ما تحاول السلطات العربيّة جعله غير مفهوم لأسباب أوّلها الكرسي وآخرها الكرسيّ في أوطان اختزلت الدولة فيها بسلطة واختزلت السلطة بمكاسب واختزلت المكاسب بشخص يهب ما يشاء وقت سروره، ويقبض على من يشاء وقت غضبه ! لن نختلف أن إسرائيل دولة عنصريّة وهمجيّة ومغتصبة كما عرفها القوميّون العرب، و أنّها جيب من جيوب الإمبريالية العالمية كما عرفها الماركسيون العرب، وأنها الشيطان الأكبر و الأعور الدجّال وإبليس الرجيم كما عرفها الإسلاميّون العرب. و منذ خمسين عاما وهم يحشون رؤوسنا ” أنّ إسرائيل إلى زوال و من يقول غير ذلك يعيش في الأوهام بحقّ ذي الجلال والإكرام”!!! .
ولكن الشيء الذي نعرفه ونراه أنّ إسرائيل بقيت واستمرّت وتوسّعت وقتلت واغتصبت ومازالت جبهتها الداخلية كما هي. بينما نحن خسرنا معركة التنمية ومعركة بناء الدولة ومعركة محاربة الأمّية ، وخسرنا العراق الذي دخل حربا أهليّة مدمّرة ، دون أن يتعلم من جاره اللّبنانيّ الذي ذاق ويلاتها ويبدو أنه لم يشف كذلك، و السودان يسير على درب العراق، والصومال دخل زمن القرصنة، وموريتانيا مازالت مشغولة بانقلاباتها البهلوانية، و..و..و..
مقارنة بسيطة:
1. اسرائيل تحاكم رئيسها بتهمة التحرّش وتحاكم رئيس وزرائها بتهمة الفساد. أعطوني اسم رجل دولة من الدرجة العاشرة في الوطن العربي الكبير مثُل أمام المحاكم باستثناء محاكمات العراق الهزلية!
2. على مستوى أبسط أعطوني اسم كتاب واحد منع من الدخول إلى إسرائيل، وأكيد لم يمنع عندنا أيّ كتاب !
3. الإسرائيليون تظاهروا ضدّ قيادتهم في عزّ الحرب الإسرائيلية على لبنان وفي عزّ الحرب الأخيرة على غزة، أعطوني بلدا عربيّا واحد تظاهر فيه العرب بسلام حتّى لو تظاهروا من أجل ربطة عنقهم.. أقصد ربطة خبزهم!
4- اسرائيل التي لم تهزم ولم تندحر حتّى الآن، بدلت رؤساءها ورؤساء وزاراتها وقادة جيوشها بعدد يفوق ( بكثير!) أعداد رؤسائنا مجتمعين رغم كل الهزائم التي منينا بها.
بالعودة إلى موضوع المتسلّلين، منذ شهر وأنا أسأل نفسي السؤال التالي:
هل نلوم المتسلّلين والمهاجرين أم نعتبرهم ضحايا ؟
أعرف أنّ القوميّين وأصحاب العروبات العالية والسقوف العارية، سيكيلون التّهم بكافّة أنواعها لهؤلاء المتسلّلين، وسيتمّ اتهامهم بالخيانة والعمالة وبيع أرواحهم للشيطان وغيرها من التهم الجاهزة والمعلبة التي ساهمت في وصولنا إلى ما وصلنا إليه من تخلف وعدم سياسي وشرود قومي، لأنّها تخفي الأسباب الحقيقية للمشكلة وتزيدها غموضا بدل محاولة فهمها ومعرفة لماذا أصبحت إسرائيل حلما لهؤلاء؟ ولماذا استبدلوا “جنات” أوطانهم بجهنم إسرائيل؟
ولكن ينسى هؤلاء أو يتناسون الأسباب التي دفعت بهؤلاء إلى أحضان ” العدو”، حيث تشير التقارير إلى أنّ أحد أسباب هجرة السودانيين الذين يعملون في مصر إلى إسرائيل هي العنصرية المقيتة التي يتعرّضون لها من إخوانهم العرب (هل يعترف القوميّون العرب بعنصريتهم تجاه أبناء عمومتهم السود؟ هل قرأ أحدهم الملفّ الذي أعدّه هذا الموقع عن الجدران اللّا مرئية والعنصرية ضد السود؟) ، إضافة إلى الفقر وانعدام الأفق السياسي لوطنهم السودان الذي يرزح تحت سطوة التقسيم والتدويل والمحاكمات، ولم ينجح في حلّ مشاكله منذ نال استقلاله الذاتي.
أليس الأحرى بنا أن نسلّط الضوء على المشاكل الموجودة عندنا، وأن نتساءل عن أسباب فشلنا في بناء دولة مستقرّة توفّر لمواطنيها الكرامة والعزّة ومستوى عيش كريم. نحن، هنا، لا ندافع عن المتسللين، فهم هربوا من نقط “الدلف” إلى ينابيع “المزراب”، ولكن لا نلومهم أيضا، لأنّ الإنسان عندما يصل حافة اليأس، وتغلق في وجهه كل سبل الحياة، لا تستطيع أن تتكهّن بردّة فعله ، لأنّ ما تفعله البلدان العربيّة بمواطنيها يشبه البيت العربي الذي يقول:
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له – إياك إياك أن تبتلّ بالماء
أوطان تسبّب لمواطنيها كلّ أسباب الهروب إلى العنف والجريمة والإرهاب والّلجوء إلى أحضان العدو أو الخارج، لتتّهمهم، بعد ذلك، بالخيانة والعمالة هي أوطان بحاجة لأنْ تُخان حقّا كما قال الراحل محمد الماغوط في كتابه ( سأخون وطني ).
خاص – صفحات سورية –