دنيس جونسون ديفيس صائد الأدب العربي في الإنكليزية: تطلق الكتابة يد المؤلف أما حركة المترجم فمرتهنة للنص
“دنيس جونسون ديفيس، رائد المترجمين من العربية الى الإنكليزية في زمننا”. جالت الجملة الأثيرة التي خصّه بها إدوارد سعيد زوايا العالم العربي. في موازاة الابتهال والودّ اللذين أفضى بهما هذا الكلام، أفصح عن وشاية لا توارب بجميل جونسون ديفيس الذي ساهم في انتشال أدب منطقتنا من غفليّة سطت عليه طويلا، ليقيمه عند الفصل الأمامي في آداب العالم. اقتفت حكاية العرب من طريقه صعيدا كونيّا وارتفعت بالحكاية القوميّة المحليّة. ترسّم سبيله المهني الأعمال والمحاماة والبث الإذاعي في “هيئة الإذاعة البريطانية” والديبلوماسية، وتعرّج سبيله الجغرافي بين ولادة كنديّة وطفولة مصريّة فسودانية وأوغاندية وانكليزية. في حين غزا الجزء الأعظم من حياته الراشدة، تهافت نحو كلمة العالم العربي الأدبيّة، شذّبتها الأسفار والتجارب، لذةً ومعرفةً.
يسوقُ دنيس جونسون ديفيس حراكه الذي أدى به الى الترجمة بطعم من تهكم. في أبو ظبي حيث التقيناه، أسرّ إلينا ان امتهان الترجمة حدث مصادفة في سيرته. مباغتة يتسرّع في إبداء حسرته لاستحواذها عليه، ذلك انها تواقَتَت مع غبن مادي. بيد ان المرارة عمرها ثوان في حديث جونسون ديفيس الثمانيني الذي لا يلبث أن يستغرق في حسن طالعه لأنه شرع يترجم في موازاة بزوغ “حركة النهضة الجديدة”. في مصر حيث أقام في الأربعينات من القرن المنصرم، بان الأجنبي اليتيم يستنبط تمايز هذه المجموعة الأدبية. اشتغل إتقانه للعربيّة وعقد الصداقة مع أسماء أدبية من قبيل توفيق الحكيم ويحيى حقّي وطه حسين ويوسف إدريس، على شغفه بأدب عربي عنّ له أن يترجم منه في 1947، مجموعة قصصيّة من توقيع رائد القصة القصيرة المصرية محمود تيمور بعنوان “قصص قصيرة من المعيش المصري”. كانت أول غيث سلسلة من إثر أدبي عربي حديث نقله الى الإنكليزية، ومشروع بكر تكفّل جونسون ديفيس مصاريف نشره على نفقته. ذلك ان الناشرين الغربيين كما يقول، افتقروا الى أدنى اهتمام بالأدب العربي، في وقت اختزل فيه أدب المنطقة برمتها في عرف القارىء الإنكليزي الإمتثالي، بالقرآن و”ألف ليلة وليلة”.
مدّته التجربة القصصيّة بالرغبة في توسيع شعاع مشروعه ليضمّ قصصا قصيرة مستقاة من بلدان عربية عدة. المسافة بين التوق والتحقّق أعوامٌ وسمَتها فكاهة صارت لازمة تجمع جونسون ديفيس بالكاتب يحيى حقي، على خلفية المشروع المجهض. خلال رحلات عودة جونسون ديفيس السنويّة الى مصر التي غادرها في 1949، وإزاء سؤال حقّي عن المدى الذي قطعته مجموعة القصص القصيرة العربية المنقولة الى الانكليزية، جاءت الإجابة المرتقبة نفسها: “لا أزال أبحث عن ناشر!”.
رأت المجموعة النور أخيرا في 1967، كفاتحة المنتخبات التمثيليّة للقصة القصيرة العربيّة في الإنكليزية. غير ان ولادتها جاءت قيصريّة، على الرغم من ضمّها أسماء مرجعية كمثل غسان كنفاني ونجيب محفوظ، فقد اكتنفتها أهواء الظروف وقوائم المعارف الشخصيّة. في ما يشبه المصادفة الموضوعيّة، تعرّف جونسون ديفيس الى أحدهم، الذي كان يعرف أحدهم، وهو الآخر كان يعرف بدوره، أحدهم. قادته لعبة الأحاجي هذه في المحصلة، الى دار “أوكسفورد يونيفرستي بريس”. غير ان غبطة جونسون ديفيس لم تلبث ان خمدت، بعدما اشترطت الدار أن يقدّم للمجموعة القصصية إسم على أهمية. وكان أستاذ الأدب العربي في كامبريدج، آرثر جون آربيري، خيار المترجم الأشد ملاءمة. بيد ان آربيري الطاعن في السن، تردّد آنذاك في وضع مقدّمة المجموعة بسبب عدم مواكبته للأدب العربي الحديث، ليعود ويوافق بغية أن يسنح للمشروع بأن يجد لنفسه مخرجا من مأزق النشر.
ثم كرّت السبحة. ما يزيد على ثلاثين مؤلفا أدبيّا راوحت بين القصة القصيرة والمسرح والرواية وعلى مدّ القامات العربية الأدبية، نقلها جونسون ديفيس الى الإنكليزيّة خلال أكثر من ستة عقود. فهل تشكّل الترجمة الى الإنكليزية رواقا ضروريا للترجمة الى ألسنة أخرى. يتراءى الأمر بديهياً في ضوء الاهتمام المسلّط على أدب الروائي الراحل الطيب صالح، على إثر نقل جونسون ديفيس “موسم الهجرة الى الشمال” وثلّة من مؤلفاته الأخرى الى الإنكليزية. يؤثر جونسون ديفيس عوضا من الإطالة في هذا الجانب على أهميته، الحديث عن شأن مواز يرتبط برياء بعض المترجمين، مدّعي الترجمة عن اللغة الأصلية. اختبر هذا الواقع خلال انكبابه على ترجمة “موسم الهجرة الى الشمال”. اقترح آنذاك على الطيب صالح إضافة بعض تعديلات الى نصه في النسخة الانكليزية، فوافق بعدما وجد الروائي الذي أجاد الانكليزية، ان في ذلك إفادة. ليفاجأ جونسون ديفيس لاحقا بضمّ الترجمة الإسبانية لرواية السوداني الأثيرة تلك التبديلات الشخصيّة، في حين ادّعى مترجمها نقلها عن لغتها الأصلية، وليس عن أخرى وسيطة.
وثّق جونسون ديفيس لسياق مديد وضاجّ بالتحولات والاكتشافات الساحرة في مضمار الترجمة، في سيرة ذاتية، “ذكريات في الترجمة”، قدّم لها نجيب محفوظ الذي كان ترجم له الكثير. فماذا عن مقترب المترجِم لنصه المترجَم؟ أين يتموضع في التزامه؟ هل يعدّ نفسه من أتباع “المترجمين الخونة” كما في حيثيات القول الايطالي المأثور، أو يدين لكلام الشاعر الأميركي تشارلز سيميك ان “ما يحيا في أعقاب الترجمة هو الشعر”؟ لا يعدّ جونسون ديفيس الترجمة مقابلة كلمة محددة بمرادفها في لغة ثانية. على هذا النحو، اختار لعمل توفيق الحكيم المسرحي “السلطان الحائر” العنوان الإنكليزي “معضلة السلطان”، مؤثرا البعد عن حرفيّة العنوان الأساسي، وهذا لم يرق بعض الطهرانيين. تقوم الترجمة في رأي جونسون ديفيس على فروق صغيرة لكن أساسيّة توضح للقارئ بالإنكليزية الذي لا معرفة له بالعربية، جلّ ما يغفل عنه. شريطة الترجمة الصائبة هي الدقّة في المقام الأول. يستعيد جونسون ديفيس تجربة أحدهم عرّب نصا كتبه لم يفِ لغرض المقاربة النصيّة، ذلك انه جعل جملة When Nasser came to power “عندما جاء ناصر الى الحكم” في العربية، متغاضيا عن معاينة العرب للرئيس المصري الراحل بشهرة عبد الناصر وليس ناصر، على شاكلة الغربيين. والحال ان الجهالة تتوزّع في اتجاهات عدة على ما يذهب جونسون ديفيس. سئل مرة في مصر عن رأي القارئ الإنكليزي بأدب نجيب محفوظ قبل نوبل للآداب وانتشار ترجمة إثره، فردّ أن “لا رأي للقارئ الإنكليزي في هذا الشأن”. ليعجب السائل من تقصير القارئ الإنكليزي في الإطلاع على أدبه بالعربية!
اختار فلاديمير نابوكوف ان ينقل “أوجين أونيغين” لبوشكين الى الانكليزية في شعر حرّ، وكتب سونيتة حاجج فيها لخياره الذي أثار حفيظة كثيرين. استفهم فيها عمّا هي الترجمة؟ ليجيب: “إنها تدنيس للميت”. فما هو أعظم تجاسر أقدم عليه جونسون ديفيس قبالة نص ترجمه؟ في خصوص نابوكوف يتذكّر بداية انه زار قبره في لوزان في سويسرا، ليؤكّد بعدذاك نبذه الترجمة الحرفيّة. مؤهلات المترجم في نظره عدة، تتمحور على معرفته العميقة والدقيقة للغته الأمّ التي يكتب فيها، وينبغي له ان ينقل الى لغته، من دون سواها. وجهته التحديدية لشعاع الترجمة قدّم لها مرة خلال محاضرة في مصر تمحورت على مسار الترجمة، غير انها لاقت شيئا من اعتراض. ليتطوّع آنذاك جبرا ابرهيم جبرا لمساندة وجهة نظر جونسون ديفيس، مستلهما تجربته الشخصيّة. أعلن جبرا انه عرّب أعمالا كثيرة من بينها ست روايات لشكسبير، وكتب رواية وديوانين شعرييّن بالإنكليزية. غير انه لم يتجرأ على ان يترجم نصا من العربية الى الانكليزية. في منطق جونسون ديفيس، تطلق الكتابة يد المؤلف في حين لا طائلة من أن ترتهن حركة المترجم لنص يتناوله.
خلال إقامته في لبنان التي امتدت بين 1970 و1974 جعلت صداقة جونسون ديفيس بالشاعر يوسف الخال يتعرّف الى شعراء لبنانيين عدة، غير أن الدنوّ الشخصي منهم لم يغدُ دنوّاً من الشعر الى حدّ ترجمته، وإن شكّلت قصيدة محمود درويش الاستثناء. تلقى خلال تلك الحقبة اللبنانية أيضا اقتراحا للمساهمة في مشروع جماعي لترجمة نجيب محفوظ، غير انه تريث. كانت الفكرة على تركيب وقضت بأن يتولّى مترجم عربي النص بداية، قبل أن يشتغل عليه آخر أجنبي. لم يلقَ العرض استحسانه لأنه انطوى على منطق يعاكس منطق الترجمة، وهي كما الكتابة، حوار فردي. غير ان المسألة مفتوحة على مفهوم آخر في خضم عمل ديني، وهذا ما حدا بجونسون ديفيس الى التعاون مع الدكتور عز الدين ابرهيم خلال نقل ثلاثة مجلدات من الأحاديث الشريفة الى الانكليزية.
إذا كانت القراءة بداية الكتابة في منطق مارغريت دوراس، فهل الترجمة حكما بداية الكتابة أيضا؟ يقارب جونسون ديفيس الكتابة نمطاً من خلق على اختلاف. يأخذنا الى تفاصيل عمله الترجميّ والى معرفته الحثيثة باللغة العربيّة، التي لم تُثنه عن السؤال عند مواجهة عسر. واظب على نقل مؤلفات عدّة لنجيب محفوظ الى الإنكليزية، وعندما تعثّر فهمه لخاتمة إحدى قصصه، وبعدما قصّر صديق مصري عن تحديد المعنى المفقود، هاتَف محفوظ واستفهمه عن المسألة. عاد الكاتب يومذاك الى نصّه، ليجد ان مردّ اللامعنى عدم طباعة حفنة سطور. يستند جونسون ديفيس الى هذه الحكاية ليدلّل على دُرجة إهمال مراجعة النصوص الأدبية في العالم العربي، في حين إنها الضمان الوحيد لتفادي الأخطاء.
في أعقاب نيله “جائزة الشيخ زايد” في فئة شخصيّة العام الثقافية صار جونسون ديفيس أشد دنوّاً من أدب الإمارات العربية المتّحدة فعقد العزم على ان يختار منه ويترجم مجموعة قصص قصيرة صدرت هذه السنة بعنوان “في صحراء خصبة”. تبلور المؤلّف بالإنكليزية رويدا، ذلك ان المترجم لم يكن على بيّنة من الكتّاب المحليّين خلا الروائي محمد المرّ. نقّب وإطّلع، ليختار في المحصلة عشرين حكاية كان بعضها لا يزال مخطوطا. تلك قافلة قصص على تماس مع منبتها الجغرافي، آثرت تفادي حكايات رديفة عن إماراتيات يسكنّ باريس، على حدّ تعبير جونسون ديفيس. تلك حكايات ترفد في مقتربه، القارئ بالإنكليزية بخلفيّة مكانها الأصلي، من دون أن يعني ذلك في منظاره، دغدغة لمخيّلة الاستشراق الغربي. في حين يرصد جونسون ديفيس غياب تيار أدبي إماراتي منتظم، يزيد “في الماضي وفي حال نمّ محاسب مصري عن موهبة أدبية استطاع نيل منحة تفرّغ كتابية وراتب شهري. ويا للأسف، بات هذا نظاماً في عرف المنقرض، في حين الحاجة إليه أمسّ من أي وقت مضى”.
أرجعنا دنيس جونسون ديفيس مجددا في خاتمة حوارنا الى مصر، أرض هي موطئ قدمه في الأمس كما اليوم، يودّ أدبها وشوارعها ويترك لهجتها تزقزق في موسيقى لغته العربية.
رلى راشد
النهار