صفحات ثقافية

التسابق المالي بين دبي وأبو ظبي على المهرجانات السينمائية هل تجوز مهرجانات بدون سينما وسينما بدون حرية

null


نديم جرجورة

لم تعد المسألة اهتماماً إماراتياً بالنتاج البصريّ فقط، لأن جزءاً منها مرتبطٌ بتنافس لا يمتّ بصلة الى الرغبة الرسمية والمجتمعية في دعم صناعة الصورة الإماراتية والخليجية. لم تعد مغامرة جميلة لاختراق الحاجز النفسي المتمثّل بسطوة التقاليد المحافظة في الدول الخليجية فقط، لأن جانباً أساسياً منها مختصٌ باللعبة المالية البحتة (ميزانيات ضخمة من أجل لا شيء تقريباً) على حساب الفن الإبداعي والثقافة البصرية. ذلك أن صراعاً حقيقياً قائمٌ بين إماراتيّ دبي وأبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدّة منذ العام الفائت تحديداً، اتّخذ من النتاجات البصرية المحلية (الإماراتية) والإقليمية (الخليجية والعربية) أداة تنافس حادّ يلعب المال الوفير دوراً سلبياً فيها.

استثناء

هناك استثناء اسمه «مسابقة أفلام من الإمارات»، التي أسّسها مسعود أمر الله آل علي في مطلع الألفية الجديدة بهدف تشجيع المواهب الإماراتية الشابّة المتحمّسة للنتاج البصري على تحقيق أفلام متفرّقة وعلى تحسين شروط العمل الإنتاجي وعلى تطوير ثقافة سينمائية في المجتمع الإماراتي، فنجح في ترسيخ مفهوم إماراتي عصريّ في العلاقة الفنية والثقافية بالنتاج البصريّ. وذلك قبل تبوئه منصباً رفيعاً في إدارة «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، محاولاً من خلاله إكمال مشروعه السينمائي الإماراتي والخليجي، إثر إفساحه مجالاً واسعاً أمام نتاجات بصرية خليجية في «مسابقة أفلام من الإمارات» في دوراتها الأخيرة. وبعد تفرّغه للمهرجان الدولي هذا، من دون تخلّيه عن أحد أحلامه الأثيرة (تأسيس صناعة بصرية إماراتية منفتحة على أفق التواصل الإبداعي مع محيطها الخليجي وامتداداتها العربية والتأثيرات الغربية الممكنة)، ساعياً إلى إيجاد وسائل دعم وتشجيع مختلفة للصناعة المحلية أولاً والخليجية ثانياً في قلب «مهرجان دبي»؛ وبعد أعوام عدّة من النقاش المفتوح على الاحتمالات الثقافية والفنية والمالية والاجتماعية التي يُفترض بها أن تؤدّي إلى إنشاء حيّز سينمائي ما لصناعة صورة خليجية قابلة لأن تتحوّل إلى «صناعة سينمائية»؛ أطلق مسعود أمر الله آل علي دورة أولى لمهرجان سينمائي جديد في دبي حمل اسم «مهرجان الخليج السينمائي»، غداة البدء بمشروع آخر في أبو ظبي حمل اسم «مهرجان سينما الشرق الأوسط»، الذي لم يكن بديلاً من «مسابقة أفلام من الإمارات» بل إلغاء كلّياً لها، بالاعتماد على ميزانية ضخمة لا تتلاءم وواقع الحال البصري في تلك البقعة الجغرافية من العالم العربي، التي تُدعى «الشرق الأوسط».

في «مسابقة أفلام من الإمارات»، وجد شباب إماراتيون فسحة أمل لهم تمنحهم دعماً معنوياً (على الأقلّ) للتعبير البصريّ المنفتح على الأسئلة الفنية والثقافية كلّها. وفي «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، التقى النتاج الإماراتيّ المتواضع بعدد كبير من الأفلام العربية والغربية والآسيوية المتفرّقة، محاولاً أن يعثر في التواصل الإبداعي هذا، مزيداً من الانفتاح والوعي والنقاش. في حين أن «مهرجان الخليج السينمائي» يسعى إلى استكمال هذه المهمّة، بالإضافة إلى جعله نافذة إبداعية للنتاج البصري الخليجي حصراً، وللتفاعل الإقليمي بين أنماط حياتية متشابهة في عناوينها العامّة، ومتميّزة بآلياتها المختلفة في معالجة المواضيع الإنسانية الخاصّة بها وتحليلها ومعاينتها. غير أن إدارة هذا المهرجان المؤسَّس حديثاً نقلت المسابقة الإماراتية من «دبي» إلى «الخليج» من خلال «مسابقة السيناريو»، معتبرة إياه «مكانها الأفضل والأمثل» لأن جائزتها تُمنح لتنفيذ السيناريوهات الفائزة، ما يعني ضرورة أن يتمّ الإشراف على تنفيذ الأفلام ومتابعتها «على أرض الواقع». من هنا، طلب رئيس مهرجاني دبي والخليج عبد الحميد جمعة متابعة ثمار المسابقة الإماراتية في الأعوام القليلة المقبلة حتّى «نتعلّم من السلبيات والإيجابيات، وندرس مدى إمكان أن تعمّ المسابقة بقية دول الخليج»، قبل إطلاق الأحكام النقدية والعامّة. في هذه المهرجانات الثلاثة، برز مسعود أمر الله آل عليّ عاملاً على توحيد الجهود والتوجّهات في إطار سينمائي بحت، مدركاً في الوقت نفسه صعوبة هذه المهمّة في دول الخليج التي اعتبرها «نامية وناشئة»، مشيراً إلى أنها «في المجالات كلّها تحتاج إلى أشواط طويلة من العمل للوصول إلى شكل مكتمل للعمل الاحترافي»، ومعتبراً أن السينما «أحد تلك المجالات التي لم يزل الخليج يخطو خطواته الأولى تجاهها»، من دون أن يتغاضى عن أن هذه السينما، التي «انطلقت قبل أكثر من مئة سنة، كانت غائبة بشكل كبير عن المجتمع الخليجي»، مضيفاً أنه «لا بُدّ من خلق فرص لبعث هذه الحركة وتحريكها» للّحاق بـ«الحركة السينمائية العالمية» («الشرق الأوسط»، 200844).

تنافس ملتبس

على الرغم من هذا كلّه، لم يكن التنافس المذكور أعلاه طبيعياً في دولة خليجية كالإمارات العربية المتحدّة تميّزت، في الأعوام الفائتة، بقدرة هائلة على استثمار الأموال الطائلة في شتّى الميادين، وعلى تحويل بقاع جغرافية شاسعة إلى بؤر حياتية محتاجة إلى نقاش نقدي يطال العمران المديني والثقافة الهندسية والمعمارية وأنماط العيش والسلوك اليومي، بالإضافة إلى مسائل الهوية والانتماء. ذلك أن أطرافاً إماراتيين عديدين لا يأبهون بالفن البصريّ المحليّ والإقليميّ، ولا يرغبون في جعل المهرجانات أدوات تعبير وتطوير للصناعتين البصريتين الإماراتية والخليجية، بدليل هذا التوق العبثي إلى تأسيس مهرجانات كيفما اتفق، بالارتكاز على المال فقط. رُصِدت ميزانيتان ضخمتان لمهرجاني «دبي» و«الشرق الأوسط». لكن، إذا تميّز الأول باهتمام لافت للانتباه بالنتاج الإماراتيّ تحديداً، وسعى إلى استكمال المشروع الثقافي لتطوير أدوات التعبير البصري المحليّ، من دون أن يتخلّى عن بعض البهرجة الاستعراضية والإعلامية؛ فإن الثاني وقع في الارتباك والتسرّع وعدم وضوح الرؤية العامة في الثقافة والفنون. والأخطر من هذا كلّه أن إلغاءً تاماً حصل لـ«مسابقة أفلام من الإمارات» سعت إلى إثارة نقاش حيوي حول كيفية تأسيس نتاج بصري إماراتيّ. ميزانيتان تتنافسان على استقطاب أفلام ودعوة شخصيات سينمائية عالمية ونجوم مصريين وعرب، وتوفير أفضل إقامة مريحة للمدعوين من هنا وهناك، بدلاً من أن يُصرف جزءٌ قليلٌ منها على الأقلّ على إنتاج مشاريع محلية وخليجية، وعلى تأمين سبل توزيعها في الداخل والخارج على حدّ سواء، وإن عمل المهرجان الأول (دبي) على تأمين شيء من الدعم المطلوب للنتاج الإماراتيّ، بينما أفرد «مهرجان الخليج السينمائي» حيّزاً واضحاً له.

غير أن التنافس ليس محصوراً بمهرجانين يُقامان في إمارتين اثنتين فقط، إذ إنه انسحب على نمط فني آخر، اتّخذ من الوثائقيّ ركيزة له: فبعد أسابيع قليلة على إعلان «شركة أناسي للإنتاج الإعلامي» إطلاق مسابقة خاصّة بإنتاج الأفلام الوثائقية بعنوان «وثّق إبداعك.. الوطن إلهامك»، رُصِد له مبلغ مليون وخمسين ألف درهم إماراتيّ؛ أُعلنت مبادرة للأفلام الوثائقية أثناء الدورة الأولى لـ«مهرجان الخليج السينمائي» بهدف «تقريب وجهات النظر بين العالم العربي وإيران والولايات المتحدّة الأميركية، من خلال الفهم الصحيح لواقع المنطقة العربية وتبادل الأفكار والآراء بين الشعوب العربية والغربية». أعلن مبتكرو المسابقة الوثائقية الأولى عن رغبة في «دعم الشباب وتشجيعهم على صناعة الأفلام الوثائقية، والارتقاء بالمستوى الثقافي والفني والإبداعي»، بينما اعتبر مسؤولو «أول مبادرة للأفلام الوثائقية» (كما جاء في التعريف الإعلانيّ عنها) أن الأفلام الوثائقية قادرة على تحقيق التغيير في حياة الناس. لكن التعاطي الخليجي مع النمط الوثائقي، كما أكّدت التجربة السابقة، لم يفصل بين العمل السينمائي الوثائقي الفني والأسلوب التلفزيوني في تحقيق ريبورتاجات خاصّة بالشاشة الصغيرة لا تحمل أدنى مخيّلة إبداعية، في حين أن النتاج الوثائقي الآنيّ، الذي يصنعه سينمائيون عرب وأجانب، بلغ مرتبة مهمّة في ابتكار شكل مغاير للمألوف في صناعة هذا النوع السينمائي. لذا، فإن قلقاً ينتاب المهتمّ بالصناعة البصرية إزاء هذا الغليان الإماراتيّ المنصبّ على النتاج الوثائقي، والمدعوم بميزانيات كبيرة، والمحصّن بخضوعه لأقطاب في السلطة الملكية الحاكمة (كما يحصل في عدد من الدول العربية ذات الحكم الملكي أيضاً).

توحي التظاهرات الوثائقية الجديدة هذه بأنها تنطلق من حرص على دعم الجيل الشاب في التعبير والقول، وعلى تأمين مستلزمات هذا التعبير الفني. توحي بأنها تسعى إلى ردم الهوّة الحضارية والثقافية والإنسانية بين العالم العربي والغرب وإيران، مؤمِّنة لهذا المسعى ميزانيات ضخمة، من دون وضع آليات جدّية وثابتة ومتلائمة والواقع المحليّ والانفتاح على المحيط العربي والتواصل مع الغرب لإنتاج هذه الأعمال، ومن دون التنبّه إلى مدى حجم القدرات الفكرية والجمالية والثقافية لهؤلاء الشباب، وبعضهم يتوق إلى العمل الفني في صناعة الصورة بحماسة شديدة لتطوير لغته وأداوته وثقافته. فالميزانيات المرصودة لهذا النوع من التظاهرات تدفع المرء إلى التساؤل عن سبب ارتفاع قيمتها المالية إلى هذا الحدّ المثير للدهشة أحياناً، قياساً بمضمونها الفني والثقافي (!)، بينما تختفي من المجتمع الإماراتيّ مثلاً سياسة ثقافية وأكاديمية وميدانية متكاملة وواضحة خاصّة بالإنتاج السينمائيّ، من دون تناسي بروز عدد من الشباب الإماراتيين (والخليجيين أيضاً) المتحمّسين بشغف حقيقي للعمل البصري. في الإطار نفسه، يستمرّ «مهرجان دبي السينمائي الدولي» في دعم مواهب إماراتية شابّة متحمّسة وجادّة بشكل متواضع، تماماً كما فعل «مهرجان الخليج السينمائيّ» بإيجاد مساحة خاصّة بالمشاريع الإماراتية، مخصّصاً لها مسابقة سيناريوهات قصيرة لشباب إماراتيين، ومؤمّناً للفائزين الثلاثة بها ميزانيات تسمح لهم بإخراجها أفلاماً قصيرة. أما «مسابقة الأفلام الوثائقية» و«مبادرة للأفلام الوثائقية» فلا تزالان في بداية الطريق الطويلة والصعبة، ما يعني استحالة قراءة تجربتهما قبل إنجاز الخطوة الأولى (تُقام المسابقة يومي 24 و25 أيار المقبل، وتُنَظَّم المبادرة بين 3 و7 تموز المقبل) لتبيان مدى جدّيتهما في الدعم الحقيقي المتحرّر من اللغة الاستعراضية أو الإعلانية أو الدعائية، على الرغم من أن تشابهاً ما يجمعهما على مستوى الخطابية العامّة العالية النبرة أحياناً، التي يُمكن أن تؤدّي إلى نقيض المطلوب والمُعلَن.

إذاً، أطلقت «هيئة دبي للثقافة والفنون» مهرجاناً سينمائياً جديداً، مرتبطاً بصناعة الصورة البصرية في بقعة جغرافية ممتدّة على مساحة دول الخليج العربي، بالإضافة إلى دولتي العراق واليمن، في محاولة إضافية لتزويد «صانعي الأفلام في المنطقة بمنصّة مثلى لعرض أعمالهم وإبداعاتهم أمام جمهور عالمي واسع»، كما قال رئيس الهيئة الشيخ ماجد بن محمد بن راشد آل مكتوم، مضيفاً أن إمارة دبي نجحت «في زمن قياسي في أن تتحوّل إلى مركز عالمي بارز لصناعة السينما، وذلك من خلال مبادرات رائدة مثل «مهرجان دبي السينمائي الدولي» و«مدينة دبي للاستديوهات» (…)»، معتبراً أن «مهرجان الخليج السينمائي» يُشكّل اليوم «خطوة مهمّة أخرى نحو تشجيع المواهب السينمائية الخليجية ورعايتها ومساعدتها في مواصلة عطاءاتها وإبداعاتها». من جهته، قال عبد الحميد جمعة إن السؤال المطروح حالياً هو «هل هناك سينما خليجية ليكون لها مهرجان»، معتبراً أن الموضوع القديم نفسه لا يزال قائماً: «هل يُمكن أن يكون هناك مهرجان في بلد لا تقوم فيه صناعة سينمائية، في منطقة الخليج»، مؤكّداً أن الجواب هذه المرّة مختلفٌ، لأن «هناك مرحلة يُمكن تسميتها بـ«منتصف الطريق» بين سينما ومحاولات، ستتبلور في خلال عامين أو ثلاثة أعوام، وسيُفاجئنا هؤلاء الشباب بسينما لم نكن نعرفها». أضاف أن المهرجان الجديد هذا «قائمٌ على خطّة وهدف واستراتيجية»، مشيراً إلى أنه يُكمل أحداثاً سينمائية سابقة في الإمارات: «مسابقة أفلام من الإمارات» و«مهرجان دبي السينمائي الدولي» و«مهرجان الشرق الأوسط في أبو ظبي»، كما أنه مكمِّل «لمحاولات ناجحة لشباب إماراتيين وخليجيين في صناعة الأفلام» («البيان» الإماراتية الصادرة في دبي، 2008413).

مصداقية

لم يكن الموقف مفاجئاً: أن يُصفِّق الحضور الإماراتي والخليجي طويلاً لمسعود أمر الله آل علي، عند اعتلائه خشبة «مسرح دبي الاجتماعي ومركز الفنون» ليلة افتتاح الدورة الأولى لـ«مهرجان الخليج السينمائي» مساء الثالث عشر من نيسان الجاري. ذلك أن له شعبية إماراتية وخليجية لا يطالها شكّ، لقدرته على تأسيس مصداقية حقيقية في المشهد الفني الخليجي، وللعبه دوراً مهماً في التشجيع الفعلي للمواهب الإماراتية والخليجية الشابّة، ولنجاحه في تأمين حيّز عربي وغربي لأعمال بصرية إماراتية وخليجية عدّة في محافل سينمائية متفرّقة. وعلى الرغم من «تورّطه» في دهاليز المهرجانات، التي تتطلّب جهوداً جسدية وفكرية وعقلية كبيرة في دول لا تزال تعتبر السينما عيباً أو خروجاً على التقاليد الاجتماعية أو ترفاً يُلهي الشباب عن أولويات العيش، في مقابل حماسة شبابية لافتة للانتباه في مجال العمل الدؤوب في المجال الفني هذا، إلاّ أن مسعود أمر الله آل علي وجد في هذا العالم شيئاً كبيراً من ذاته، هو السينمائيّ الذي علّق مشروعاً وثائقياً له بدأه منذ عامين ولم يستطع إنهاءه لغاية اليوم لأنه لم يجد الوقت المناسب بعد: «فكرة إقامة مهرجان سينمائي للخليجيين كانت حلم السينمائيين الخليجيين منذ خمسة عشر عاماً. جاء ذلك في لقاء خاصّ بالسينمائيين الخليجيين في عام 1994 في الشارقة، نتج منه إنشاء جمعية السينمائيين الخليجيين التي كانت إحدى توصياتها قيام مهرجان خليجي. إلاّ أنه لم يحدث أي شيء من ذلك بعد اللقاء. كيف يُمكن أن يكون وضع السينما حالياً لو تمّ ذلك المهرجان على أرض الواقع في ذلك الوقت؟ بكل تأكيد سيكون وضعها متقدّماً أكثر بكثير مما هي عليه الآن. إلاّ أن هذا الحلم تحقّق (الآن) في مهرجان الخليج» («الشرق الأوسط»، 200844).

لكن، لا يُمكن التعاطي مع الأعمال الخليجية المشاركة في الدورة الأولى لهذا المهرجان، بالطريقة نفسها التي يتمّ التعاطي بها مع الأفلام العربية والغربية. لا يُمكن اعتماد المقاييس النقدية نفسها، ولا يُمكن مناقشتها بمفاهيم العصر الحديث، وإن اعتبر البعض أن التطوّر المذهل في عالم انتشار المعلومات كفيلٌ بمنح الخليجيين شيئاً مهمّاً من الوعي الثقافي والفني والجمالي. فالتجربة الخليجية لا تزال وليدة اللحظة، في ظلّ غياب شبه مطلق للبنى الإنتاجية وللطقوس السينمائية وللحريات الفردية والعامّة التي تمنح النصّ الفني، إلى الدورين المهمّين للتقنية والمخيّلة، لغة إبداعية تميّزه بسماته الخاصّة وتدفعه إلى الخروج من محليته الضيّقة إلى أفق التواصل مع الآخر. والمحاولات الفردية الخليجية لبناء مشهد فني بصريّ يكون الركيزة المطلوبة والثابتة لتشييد العمارة السينمائية لا تزال مرتبكة في التعبير والقول المتعلّقين بثقافة محلية يُفترض بها أن تكون منفتحة وعصرية، وهذه الأخيرة ليست بالمعنى الإماراتي بحسب نموذج دبي، خصوصاً بالنسبة إلى العمارة المتماهية بحداثة غريبة عن البيئة المحلية والاستثمارات الاقتصادية المسقطة من عل بدلاً من أن ترتفع من أرض الواقع.

إن الحدث البصري الخليجي جديرٌ بمتابعة هادئة وصارمة في آن واحد، على الرغم من أن آراء نقدية عربية عدّة رأت أن هناك استحالة واضحة لتأسيس صناعة سينمائية في دول تفتقر إلى حدّ أدنى من الحريات الاجتماعية والثقافية ومن الحركة النقدية العامّة التي تطال شؤون العيش ويومياته في مجتمعات بعضها منغلق إلى حدود قاتلة (المملكة العربية السعودية) وبعضها الآخر ضائعٌ بين انفتاح تفرضه الاستثمارات الاقتصادية والمالية الضخمة (الإمارات العربية المتحدّة) وتفتّح سياسي وثقافي ما (الكويت والبحرين). غير أن النقاش النقدي عاجزٌ عن حسم الأمور: هل تستطيع دول الخليج أن تطلق ورشة عمل جذرية لصناعة بصرية لن تتحوّل يوماً إلى صناعة سينمائية متكاملة، أم إن التجارب الحالية والمستقبلية لن تخرج من المبادرة الفردية؟ هل تلعب السلطات الخليجية الحاكمة دوراً في دعم الشباب المتحمّسين لإنجاز أفلام بصرية متفرّقة، أم إنها تقف سدّاً منيعاً أمام الانطلاقة المطلوبة، فيتأكّد المرء عندها من أن «الغليان البصري الآنيّ» مجرّد فورة عابرة؟ إن ما يُشاهده المرء من أعمال بصرية خليجية تجعله يشكّ في خروجها من الإطار الفردي البحت، أو من سطوة النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي المتحكّم بشؤون العيش، وإن تضمّنت هذه المحاولات الفردية نواة حقيقية ومصداقية واضحة في التعاطي البصري مع الشؤون العامّة والخاصّة. لذا، يُفترض بمن يرغب في مناقشة المشهد البصري الخليجي أن يعتمد الهدوء والصرامة في آن واحد: فالهدوء نابعٌ من كون هذا النتاج هشّاَ، لأنه في بداية طريق طويلة وصعبة وقاسية. والصرامة مطلوبة لمواكبة نقدية أفضل تساهم في إثراء النقاش الفني بحثاً عن مفردات تطوير لغة التعبير البصري.

بالنسبة إلى غالبية الأفلام الروائية الطويلة المشاركة في المسابقة الرسمية مثلاً، بدا جلياً أن اختيار المادة الدرامية نابعٌ من البحث في الشأن المحليّ، في مقابل هشاشة المعالجة الدرامية المرتكزة غالباً على النفس التلفزيوني، ما يدفع إلى القول إن تكثيف إنجاز الأفلام القصيرة أفضل سبيل إلى التمرين الميداني في مجال صناعة الصورة، خصوصاً إذا برزت موهبة فعلية ورغبة في احتراف المهنة. والنفس التلفزيوني حاضرٌ أيضاً في أفلام وثائقية عدّة، فشل صانعوها بتحريرها من تقنية الريبورتاج، إذ بدت معالجة المادة المستخدمة، على نقيض المادة نفسها المستلّة من وقائع حياتية يعانيها مواطنو تلك الدول (المجازر في العراق، مأزق الهوية والانتماء بعد جريمة الحادي عشر من أيلول بالنسبة إلى السعوديين، السعي إلى الريف الإماراتي بديلاً من حداثة مدينية صادمة أو هروباً منها، المخدرات، إلخ.)، هشّة ومرتبكة وتائهة بين حساسية واضحة في الاختيار وعجز عن ابتكار أشكال بصرية جدّية تتلاءم والمواضيع المختارة.

(دبي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى