عن دراما يصنعها السوريون لا تشبه السوريين
ماهر منصور
أحدُ الموضوعات الأكثر سخونة، والمسكوت عنها في النقاش الدائر حول الدراما السورية، البحثُ فيما إذا كانت الدراما التي يصنعها السوريون سوريةً حقاً.
النقاشُ هنا ينصبُّ على السنوات الثماني عشرة الأخيرة، وبالضبط منذ أوائل التسعينيات مع إنتاج مسلسل «هجرة القلوب إلى القلوب» للمخرج هيثم حقي، وتالياً مسلسل «نهاية رجل شجاع» للمخرج نجدة أنزور، وصولاً إلى الموسم الدرامي الحالي.
في هذه المرحلة بدأت الدراما السورية بالانتشار الواسع، المتزامن مع انتشار الفضائيات. وقد ميَّز هذه المرحلة ظهورُ صيغة الإنتاج المشترك، ودخول القطاع الخاص السوري على خط الإنتاج الدرامي. فأنتج التلفزيون السوري مسلسل «هجرة القلوب إلى القلوب» بالاشتراك مع «مؤسسة الخليج للأعمال الفنية»، بينما تصدَّت «شركة الشام الدولية»، بإدارة الفنان أيمن زيدان لإنتاج «نهاية رجل شجاع».
ومع دخول صيغٍ إنتاجية جديدة على خط تمويل الدراما السورية، كصيغة «المنتج المنفذ» لإنتاج يموله رأسمال عربي (خليجي بمعظمه)، ولاحقاً إنتاج تموله فضائيات عربية (إي آر تي، أم بي سي، إل بي سي، أوربيت)؛ بدأ الخط البياني للإنتاج الدرامي السوري من ناحية الكم ومن ناحية الخيارات الإنتاجية الضخمة بالارتفاع. لكنه كان ارتفاعاً رافقه انخفاض لمنسوب الخصوصية السورية المحلية، فيما ينتجه السوريون درامياً. فما كانوا ينتجونه كان بضاعة معدّة للتصدير، وليس للاستهلاك المحلي.
عقليةُ التصدير، بلا شك، أرست أسلوب عمل في الإنتاج الدرامي السوري، ابتعد بالدراما السورية عن الخصوصية المحلية باتجاه خصوصية السوق. فبدأت عجلة الإنتاج بالدوران، وعينها على المسموح والممنوع في الفضائيات، بوصفها صاحب الملك أو سوق العرض. الأمر الذي وضع الإنتاج الدرامي السوري أمام خيارات فكرية، بل وأحياناً بصرية، محدودة. معها ازدهرت مسلسلات «الفانتازيا» والمسلسلات التاريخية الباحثة عن ظلال ومعان لحكاياتها في واقعنا المعاصر، بالإضافة إلى مسلسلات البيئة التي تعتمد الموروث الشعبي مادة لأحداثها.
وهذه الأخيرة، حملت، بحكم موضوعاتها فقط، الخصوصية السورية. وهي موضوعات لن تخدش محرمات أيّ من فضائيات العرض. فهي تراثية، أشبه بحكايات الجدات. بينما بدت مسلسلات «الفانتازيا»، تماماً كما زمانها ومكانها، اي بلا هوية واضحة الملامح، وبالتالي قطعت اصولها وصلاتها بأي خصوصية سورية.
مقاربة تجربة السنوات السابقة في إنتاج الفانتازيا ولاحقاً التاريخية والأعمال البيئية، تشير بمجملها إلى عدد من الأخطاء الفادحة. فالإنتاج بمجمله، وسمهُ التشابه والتكرار، وأجهضه ميل المنتجين لاستثمار نجاح بعضه في إنتاج أجزاء لاحقة. وسرعان ما بدأت التجربة تفقد خصوصيتها السورية بالكامل، بعد أن راحت الأعمال البيئية والتاريخية تعيد إنتاج نفسها على نحو يثير حول موضوعاتها سؤالاً: الى أي درجة هي تعبر عن واقعنا المعيش؟ وذلك في وقت شهدنا فيه تناقصاً كبيراً في عدد المسلسلات الاجتماعية المعاصرة، لصالح التاريخية (يصرُّ صانعوها على إسقاط أحداثها على واقعنا المعاصر) والأعمال الكوميدية.
ومع عودة الدراما الاجتماعية إلى تصدر الإنتاج الدرامي السوري (من ناحية الكم)، شهدنا أعمالاً درامية لا تشبه المجتمع السوري. فأنتجت أعمال تعجُّ بصراعات المافيا وتجار المخدرات وجرعة عالية من العنف دون مبرر (مسلسلات: وصمة عار، أحقاد خفية، أسياد المال). وحافظت الأعمال البيئية على حضورها المجاني في معظمها حتى بلغت حدَّها الأقصى هذا العام بأربعة مسلسلات دفعة واحدة. يضاف إليها الأعمال البدوية التي تأتي هذا العام بالجملة، وبوصفها لاعباً رئيسياً في الإنتاج لا كما اعتدناها هامشية؛ لتكون بذلك بمثابة الشعرة التي تقصم ظهر «الخصوصية السورية» في الإنتاج الدرامي السوري.
بالطبع لا يمكن تجاهل عدد كبير من الأعمال الدرامية السورية التي كانت مخلصة لخصوصية هويتها المحلية خلال الفترة السابقة. إلا أن صوت إنتاجها بدا منخفضاً مع استثناءات معدودة على الأصابع. وهو إنتاج، على كل حال، يعمل بنفس قصير. فالتمرد على الرأسمال الخارجي لتقديم ما هو محلي أولاً، هو الاختبار الأشدّ قسوة للدراما السورية في زمننا الحالي. اختبارٌ سيجد في كلّ مرة من يدخله، وعينه على الخصوصية السورية المحلية. ومع ذلك سيبقى من الصعب إقناع المنتجين دائماً بإنتاج أعمال مثل «الانتظار» أو «على حافة الهاوية» أو «أحلام كبيرة». كما لو أن هؤلاء لم يسمعوا أو لم يقتنعوا بعد، بأنَّ الإغراق في المحلية هو الطريق إلى العالمية.