صفحات ثقافية

المهاجرون هم مَنْ يزرعون الحديقة

null
نجم والي
قبل فترة قريبة، صادق البرلمان الأوروبي على وثيقة إتفق عليها أعضاؤه بالإجماع، تحدد الخطوط العامة التي سيُعتمد على أساسها ترحيل المهاجرين. وحسب القوانين الجديدة التي ضمتها هذه الوثيقة سيصبح من الممكن وضع المهاجرين الذين يعيشون بطريقة غير شرعية أكثر من 18 شهراً في السجن الخاص بترحيلهم. الفقرة التي أطلق عليها في الوثيقة “توجه إعادة شحن المهاجرين” توصي، فضلاً عن ذلك، بعدم السماح للمرحلين (من الأفضل القول المبعدين أو المطرودين!) بالعودة إلى أوروبا قبل خمس سنوات. فقط لأن أحدهم أراد تجريب حظه في “الجنة الموعودة” أوروبا؟
أوروبا تحولت منذ زمن طويل إلى بلاد الهجرة رقم واحد في العالم، وحسب إحصائيات شرطة الأويروبول يدخل 5000000 إنسان سنوياً بطريقة غير شرعية إلى أراضي الإتحاد الأوروبي. في مدينة ميونيخ الألمانية فقط، يعيش 40000 إلى 50000 مهاجر دون موافقة رسمية. وأغلب هؤلاء المهاجرين “غير الشرعيين” يقيمون في مكان ما بصورة سرية، كما أن أغلبهم لا تتوفر لهم فرص العمل ناهيك عن حاجتهم للعناية الطبية. أطفالهم يذهبون إلى المدرسة، عندهم أصدقاء. إنهم يفعلون كل ما في وسعهم، يستهلكون كل ما عندهم من طاقة، لكي لا يجعلوا أحداً يراهم، كما يقول كاتب الدراما الألماني الميونيخي بول فيلبيرت في الريبورتاج الذي كتبته الزود دويتشه عنهم، “أنهم بشكل ما سفراء المستقبل، وضعوا مسألة الدولة القومية موضع التساؤل”.
في عام 2005 حاول عالم الإجتماع أولريش بيك، في كتاب صدر له آنذاك بالتعاون مع عالم الإجتماع الفرنسي أدغار غراند، قراءة “الكوزموبوليتية هذه في العمق” على أساس أنها فرصة لتطوير فكرة المشروع الأوروبي. ولأن الوصفات التي تتحدث عن سيطرة الثقافة والهوية القومية أصبحت في عداد الماضي، ولأن، بالإضافة إلى ذلك، “إحتياطات الطاقة السياسية للمشروع الأوروبي نفدت”، بات من الممكن أن يتعلم المرء من المهاجرين اشكالاً جديدة للفهم الإجتماعي الذاتي. ربما بدت الفكرة هذه غير معبّرة عن النضج، إذا لم يكن المهاجرون غير الشرعيين يعيشون أكثر أشكال “الكوزموبوليتية” ضبابية، حيث يسيطر على حياتهم خوف دائم، قلق أن تلقى الشرطة القبض عليهم وتقوم بترحيلهم مباشرة.
“أمر واحد تعلمته: الحرية تعني دائماً الأزمة”، بهذا الشكل عبر أحد المتحدثين بإسم جيش المجهولين أولئك في مسرحية “غير شرعي” لبول فيلبيرت والتي تُعرض منذ أسابيع على مسارح مدينة ميونيخ. المسرحية هي مساهمة منه بمناسبة الإحتفال بمرور 850 عاماً على نشأة مدينة ميونيخ: ميونيخ هي أكثر مدينة ألمانية تطبق سياسة ليبرالية تجاه الأجانب الذين ليس بحوزتهم أوراق إقامة رسمية. في ميونيخ تحصل النساء الحوامل على أوراق إقامة مؤقتة لثلاثة شهور قبل الولادة وثلاثة شهور بعدها، على الأقل لكي تستطيع الأم العيش بصورة نصف رسمية خلال الأوقات الصعبة هذه. أما أطفال المهاجرين غير الشرعيين فيستطيعون زيارة المدرسة. فضلاً عن ذلك فقد أنشأ مجلس المدينة مقراً طبياً يستطيع المهاجرون غير الشرعيين اللجوء إليه في حالات المرض. في الحقيقة يعجز اللسان عن كيل كلمات الثناء للسياسة العقلانية التي تسير عليها المدينة في ما يتعلق بهؤلاء المهاجرين.
إنها مفارقة حقاً، كما تقول الجريدة الألمانية الواسعة الانتشار “زوددويتشه تزايتونغ”، في تعليقها على المسرحية، إذ وبالرغم من الصورة المأخوذة هنا عن المهاجرين، بصفتهم (كما في حالة النساء) خدم في مجال الخدمات الجنسية (الدعارة) وعبيد وطالبي لجوء، فإن المهاجرين يُعاملون في البلدان الأوروبية قبل كل شيء وكأنهم دراما أوروبية في معركة دفاع أوروبا عن أسوارها. وبالرغم من الصورة المعروفة تلك “عالمياً”، إلا أن ذلك لا يمنع الملايين من الهجرة إليها بصورة سرية، عدد كبير يأتي أولاً بصورة شرعية، على شكل سائح أو طالب، ولا يغادر بعد إنتهاء مدة فيزا دخوله، إنما يبقى في أوروبا، بمحاولة منه لبناء وجود طبيعي مثل بقية السكان. “نحن نعيش في بيوت. نحن نحافظ على الباب مفتوحاً. اطفالنا لا يعرفون شيئاً. نحن نأكل. نشرب. نعيش في حي باسينغ. في حي لايم. نقيم في حي هارت”.، هكذا يردد الكورس في المسرحية المذكورة. بإختصار: أنهم هنا. وهم في كل مكان.
بعد أن تحدثت في السنوات الأخيرة العديد من الأفلام عن المغامرات البائسة للمهاجرين، الذين يتنازلون عن كل شيء في حياتهم، لكي يغادروا المكان الذين وُلدوا فيه صدفة، بدأ المهاجرون يدخلون خشبات المسارح الألمانية. ليس من المصادفة إذن أننا نرى في مسرحية يوريبيديس “ميديا” التي تُعرض في هذه الأيام، للمرة الأولى، إمرأة دون إقامة شرعية، أم متروكة، يمنحها الملك مهلة 24 ساعة، لكي تغادر مملكته. في الإخراج المسرحي الحالي لا تُعالح ميديا بصفتها أم بربرية قتلت أطفالها، أم متحمسة للثأر، إنما تُعامل بصفتها أماً وقعت ضحية لسياسة لجوء متزمتة، أماً فقدت جذورها، لا تعرف التأقلم في مكان ما.
” نحن نبصق على قوانينكم. قوانينكم تبصق علينا. نحن نعرف كل القواعد الأصولية “. الكورس في مسرحية بول فيلبيرت يشبه بإضطرابه وغضبه غضب “الأصوات التي في الظل”، التي سمعها زوار خشبة مسرح مدينة كولونيا قبل أيام. ثمانية مونولوغات لمهاجرين غير شرعيين، تم البحث عنها، عُثر عليها، وتم تعديلها بعض الشيء لاحقاً، لتقديمها على الخشبة من قبل الكاتبين، الألماني التركي الأصل فريدون سايموغلو والكاتب غونتر سينكيل. للأسف ركز الإثنان في مونولوغاتهما دائماً على القصص الرنانة المليئة بالإبتذال الجنسي وحسب، عمال خدمات الجنس، بائعات هوى من أوكرانيا وأفارقة باحثين عن الجنس، لدرجة أن المرء بعد سماعه المونولوغات يعتقد أن كل مقيم غير شرعي يعمل في الدعارة. بول فيلبيرت كان أكثر حذراً. ولكي يبتعد عن الكليشيه، قرر أن يمضي أسابيع طويلة في مقهى 104، مكان إقامة غير الشرعيين في مدينة ميونيخ، هناك سمع منهم العديد من القصص، تحدث معهم مباشرة عن مصائرهم، وما قدمه على المسرح هو إعادة كتابة لكل ما سمعه.
عن طريق القطعتين المسرحيتين اللتين هما مختلفتان تماماً، يستطيع المرء تأليف كتاب نصائح بكيفية العيش بسرية، تجنباً للإعتقال والترحيل. “أصوات في الظل” لبشر يعيشون على أساس قواعد “طاقية الإخفاء”: لا تغضب، إذا أرجع لك البائع نقوداً أقل. لا تعبر الشارع عند الإشارة الحمراء. لا تخرج في المساء من بيتك. في المقاطع التي قرأها زايموغلو نسمع ما تقوله عالمة تغذية من كييف: “أنا أتحدث الألمانية، التي طعمتها بلكنة فرنسية، لأنني تعلمت في المدرسة اللغة الفرنسية كلغة ثانية، لكي أستشف في النهاية الألمانية من اللغة الفرنسية. أغلب الناس الذين يعرفونني يعتقدون بأنني فرنسية، لا أعترض عليهم”.
لكن الأكثر متعة في القطعتين هو الدهشة الخفيفة للأصوات التي في الظل والتي لا تحمل إسماً، الإندهاش من قوة تجاهل الرأي العام الألماني. أنهم في كل مكان، النساء يعملن في تربية الأطفال في البيوت، في المطابخ، في تنظيف البيوت، لكنهم يُعاملون دائماً كأنهم غير موجودين. “ذلك ما أجده أكثر إثارة عند الألمان”، يقول أحدهم من أوكرانيا في مسرحية فيلبيرت، “أنهم يفكرون دائماً، بأن كل شيء تمام، القوانين تعمل بشكل مضبوط، حدودنا معلقة بشكل جيد. كل واحد منهم يوظف عنده مهاجراً غير شرعي، لكنهم يتصرفون، كما لو أن الأمر يسير بشكل مضبوط”.
أغلبية السياسيين الأوروبيين وفي مقدمتهم السياسيون الألمان، لم يخفوا إرتياحهم لتوقيع الوثيقة الأوروبية التي تُنظم ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، “لكي نستطيع أخيراً التخلص من كل أولئك الذين نريد التخلص منهم”، تلك هي الجملة التي راجت على ألسنتهم، وكأن كل ما بقي من خزين المشروع الأوروبي الجديد هو إغلاق الحدود بوجه العالم الخارجي، دون أن يعلم السياسيون هؤلاء، أن لا وثيقة ستنفع، لأن المهاجرين تعلموا الأشكال الخاصة بهم بالعيش، وعلى أوروبا التكييف معها. نعم، لن تساعد أية إجراءات جديدة، أو، كما جاء في كورس مسرحية فيلبيرت: “سيُلقى القبض علينا. سنأتي من جديد. سنخفي الجوازات. سنشتري جوازات. نحن مَنْ يزرع الحديقة”.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى