ثقافة البين بين: ثقافة بلا ديمقراطية تنتج استبدادا
محمد ديبو
ردا على مها حسن
أثارت الروائية والكاتبة مها حسن في مقالها المنشور في الأوان تحت عنوان “بين ثقافتي المشاكسة والمداهنة
عددا كبيرا من الأسئلة وفتحت جروحا تحزن أيّ كاتب مهموم بالثقافة العربية وإشكالياتها ومستقبلها.
ورغم أنّ الكاتبة شرّحت بعض الأمثلة في الواقع العربي، لتحديد العطب الثقافي الذي نعاني منه، فإنّها بقيت في دائرة ثقافية ضيّقة، انغلقت عليها، ولم تفتح الموضوع باتجاه العلاقة بين السياسة والثقافة، لأنّ السياسة السائدة عربيا هي نتاج الثقافة الموجودة عمقا. سياسة الاستبداد المكرسة عربيا هي نتاج ثقافة المداهنة التي تحدثت عنها الكاتبة، لأنّ المثقف الذي لا يجرؤ على انتقاد صديقه، هل سيجرؤ على انتقاد سلطته؟
ولكنّ الكاتبة رغم جسارتها في تناول الموضوع وطرحه على بساط البحث، أكّدت أنّها جزء من المشكلة، ووقعت في تناقضات ما طرحته، وتسعى لتجاوزه، إذ قالت في بداية مقالها: “مع أني أقرّ، قبل الشروع بمادتي، بـ”جبني” أمام الأصدقاء، و”عنتريتي ” أمام الأعداء، إذ يسهل عليّ التصدّي للرموز الدينية أو الأصولية، الرجعية، ولكني أتحاشى نقد المقرّبين، لا من باب التملّق، بل من باب عدم كسب المزيد من الأعداء.”
ثم قالت قبل نهاية مقالها، تعقيبا على ما قاله الناشر رياض الريس حول جائزة البوكر وموضوع ديوان محمود درويش”وأنا شخصيا صدمت ممّا أخبر به الريس الصحافة، لأنّ بوكر، وفي نسختها العربية الطازجة، وفي دورتها الثانية فقط، تمثّل بعض حالات الأمل لكثير من الروائيين. ولكن أن نسمع عن هذه القصص، فهو شيء صادم ومخيّب للآمال.. وكأنّ قدر هذه الأمّة أن تخضع دوما لعقلية “القبيلة”، ولا تستطيع الارتقاء إلى الثقافة المدنية، التي لا تأخذ الاعتبارات الشخصية بالحسبان في تناول المنتج الثقافي .”
وهنا نسأل الكاتبة : لم الاستغراب والذهول، إن كنت أنت تقرّين أنك جزء من تلك الشللية؟
ألست أنت مِنْ وَمَعَ المثقفين الذين يكرّسون ” قدر هذه الأمّة” بأن تبقى خاضعة لمعيار القبيلة، ولا ترتقي للثقافة المدنية عندما تقرّين أنك تخشين انتقاد أصدقائك كيلا يزعلوا، وكيلا تخسري منابرهم التي تنشر لك؟
وهل تحيّتك لجبن الروائي صموئيل شمعون، تدخل ضمن هذا النطاق؟
وهل الاعتراف بالجبن يستحقّ التحية حقّا؟
تقول الكاتبة حول صموئيل:”وقد أجاب صموئيل شمعون، الذي يدير موقعا أدبيا على الانترنت بجسارة نادرة على اتهام وجّه له، بأنّه لا ينشر مقالات ضدّ أصحابه:«هذا لأنّي جبان، الحياة الثقافية العربية مليئة بالأمراض، لو نشرت شيئاً كهذا سيكون لديّ أعداء كثيرون، وأنا في غنى عن ذلك”. وأنا أورد هذا المثال هنا، فقط للتدليل على امتناع المنابر الثقافية من نشر انتقادات توجّه لأسماء راسخة ومفروضة في الواقع الثقافي، وعن صعوبة توجيه النقد إلى الكثير من هذه الأسماء، حتى لا يدخل أحدنا في المزيد من العداوات والمقاطعات، وبالتأكيد أنا لا أنوي محاكمة السيد شمعون، بل أحترم جسارته في الاعتراف بعدم قدرته على “نشر” الأمراض الثقافية، وكسب الأعداء.”
تقع الكاتبة هنا في فخّ ثقافة المداهنة عندما تحيّي جبن صموئيل شمعون الذي يصبح بطولة، وتصرّ أنها لا تحاكمه ولا تنتقده (حفاظا على مكاسبها بأن لا يغضب شمعون ويبطّل ينشر لها في كيكا)، في الوقت الذي تطرح موضوع ثقافة المداهنة؟ ألا يداهن صموئيل بذلك أصدقاءه؟ أليس هو حالة من الشخصنة التي لا تنشر إلا لأسماء تتكرر نفسها في منبره؟ ألا يضرّ ذلك بالثقافة عموما وينشر أخلاقيات “لا ثقافية”، كيلا أقول كلاما آخر؟
وتريد الكاتبة أن توهمنا بنفس الوقت أنها من أنصار ثقافة المشاكسة عندما تطرح موضوع الريس، وتحيّي مشاكسته، أيضا حفاظا على علاقتها معه ، فهو ناشر وقد تحتاجه يوما لرواية ستنشرها..
هكذا إذن تقوم الكاتبة بإرضاء الطرفين، عند المداهنة تداهن، وعند المشاكسة تشاكس.
ألست هنا يا سيدتي العزيزة جزءا من”الفساد الثقافي الذي أعنيه هنا، ليس الفساد الذي تنتجه السلطات السياسية، أو المؤسسات النفطية، بل أيضا فساد الجهات التي تتعرّض لهذه الثقافات، والتي وجدت أساسا للردّ على هذه السلطات والمؤسسات، ونقدها”
ألست جزءا من “الشللية، المحاباة”( حذفت الطائفية من بينهما رغم ورودها في مقالك لأني أعلم أنك لست طائفية) التي قلت بأنها أمراض الثقافة العربية.
هذا النوع من الثقافة أسميه ثقافة “البين بين”، ثقافة تلمّح، وتوارب وتنظّر، وتقاتل أعداءها فقط بشراسة، لأنهم أعداء، وهذا أسهل شيء. محاربة العدوّ هي أسهل شيء، لأنه عدوّ ولن نخسر لأننا بالأصل لا نربح منه، وهذه ليست ثقافة أبدا. الثقافة تذهب إلى الحدود القصوى ولا تناور، لا تتحرّج من نقد الأصدقاء لأنّ المثقف الذي يحرد من نقد ليس مثقفا، والجبان الذي يتهيّب معركة مع صديقه لن يتمكنّ من دخول معركة لمحاربة الاستبداد الديني والسياسي.
نعم مع الأسف كلّ المنابر الثقافية العربية منابر قاصرة، غير قادرة على النقد، وغير قادرة على تعميم حالة ثقافية جديرة بالاحترام، كلّ ثقافتنا قائمة على المدح والتطبيل والتزمير.
لم أتمكّن يوما من نشر نقد ثقافي لواحد من كبار شعرائنا في منابرنا الثقافية، الكلّ يعتذر ويقول: “مابدي وجع راس”، لكن عندما ترسل نقدا لشاعر شابّ، الكلّ ينبري لنشره، تحت اسم نشر النقد وتعميمه.
وللأمانة هنا أسجّل أن المنبر الوحيد الذي نشر لي نقدا لشعراء كبار هو مجلّة الآداب، التي نشرت منذ فترة ملفّا عن الشعراء الشباب، وكتبت من خلاله نقدا لكبار الشعراء منهم أدونيس وبول شاؤول وشعراء آخرين ونشرته الآداب مشكورة. عدا ذلك الجميع يعتذر.
إضافة إلى موقع الأوان الذي يؤسّس لحالة نقدية جذرية في ثقافتنا العربية، نأمل أن تتمكّن من النجاح والاستمرار.
ثقافة بلا ديمقراطية تنتج استبدادا:
من هذه الجزئيات الصغيرة، أنطلق لأناقش الكليات التي تتشكّل من هذه الجزئيات المذكورة.
قبل خمس سنوات كنت أعتقد أنّ العطب يكمن في سلطاتنا السياسية، ويكفي تغيير تلك السلطات حتى ندخل نادي التنوير والديمقراطية والعقلانية، ولكن مع انخراطي شيئا فشيئا في خضمّ الحراك السياسي والثقافي ، ومعرفتي الدهاليز والخبايا التي تنشأ في القاع الاجتماعي والثقافي، بدأ اعتقادي يتزعزع لصالح المقولة التي تقول بأنّ أمراضنا الاجتماعية والثقافية والدينية هي التي تنتج سلطات تشبهنا، هي التي تؤسّس للاستبداد السياسي والديني معا.
هل يمكن لثقافة لا تقبل بالأخر ولا تعترف به إلا مداهنا ومنافقا أن تنتج سياسة صحية ونزيهة.
كلّنا نعرف أنّ الثقافة السائدة هي البناء التحتي لأيّ سياسة، لأنّ السياسيين يأتون من تحت من هذا البناء الثقافي المليء بالأمراض؟ فلم نستغرب إذن؟
فلننظر لحال المثقفين العرب، يكفي أن تقرأ الردود التي تحصل بين مثقفيّن عربيين متخاصمين لتدرك مدى الخواء الذي يحكمنا، ردود تحفل بالبذاءات والتجريح والشخصنة، والعمالة للمخابرات، وغيرها والأمثلة كثيرة ( اقرأ كيف يردّ نبيل فياض على من يختلف معه في الرأي؟ اقرأ معارك عبد الرزاق عيد وميشيل كيلو وجمال باروت حول المجتمع المدني بعد تخاصمهم، اقرأ ردود بعض المفكرين على كتابات الصادق النيهوم وصادق جلال العظم في كتابيه ذهنية التحريم وما بعد ذهنية التحريم، اقرأ ما يجري حاليا حول انطولوجيا الشعر السوري بين الشاعرين صالح دياب ورشا عمران، اقرأ الشللية التي حكمت اختيار الأسماء المشاركة في احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية (رغم أنني كنت من المشاركين والفائزين، ولكن ذلك لا ينفي عدم وجود شللية ومحاصصة وسأكتب عنها قريبا).
سردت الأمثلة السابقة وهي قليلة قياسا بما هو متوفّر لديّ، كي أؤكّد أنّ الأمراض الثقافية وصلت حالة السرطان الذي لم يعد ينفع معه سوى البتر، والكيّ والعلاج الكيميائي، وربّما حتى هذا لا ينجح!
انظر، كلّ الأمثلة السابقة هي لمثقفين علمانيين ويدّعون الديمقراطية والحداثة قولا، ولكن لا أحد منهم يطبّقها، لا أحد يقبل نقدا لنصّه أو مشروعه، لأنّ النقد في ثقافتنا مازال نقدا للشخص، وليس للنص. كيف يمكن لهذه الثقافة أن تنتج حالة صحيحة؟
كيف يمكن لثقافة غير قادرة على نقد نفسها، أن تحارب الاستبداد الديني والسياسي؟ كيف لها أن تتطور؟ لذلك دائما أقول إنه لدينا “ديمقراطية بلا ديمقراطيين”. الجميع يطالبون بالديمقراطية ويرفعونها شعارا، ولكن ليس لدينا ديمقراطيون يطبقون تلك الديمقراطية!
كلّ المطالبين بها، والساعون إلى تطبيقها يحملون في دمائهم كرّيات مضادّة لها، والدليل تعاملهم مع مخالفيهم في الرأي. كيف لهذه الثقافة أن تؤسّس لثقافة الديمقراطية التي ينبغي أن تزرع في صندوق الرأس قبل صندوق الاقتراع كما يقول المفكّر الجميل( لأنه لا يداهن) جورج طرابيشي، فهذا المثقّف الجريء نقد أساطين الفكر العربي من الجابري إلى حسن حنفي ووو، وكلهم أصدقاؤه..
هكذا هي الثقافة الحرّة التي تؤسّس لديمقراطية حقيقية، حين تبدأ بنفسها وأصدقائها، هي التي تكسب احترامهم واحترام الآخرين، وهي التي تؤسّس لثقافة حقيقية يمكن أن تنتج جنينا ديمقراطيا ما.
ولكن علينا ألّا ننسى أيضا أنّ يدا واحدة لا تصفّق، كما يقول المثل العربي.
لذا يا صديقتي مها حسن( واسمحي لي بقول صديقة كي يكون نقدنا بذرة برسم الزرع لنقد الصداقات)، كلّنا مشاركون في هذا الاستمناء الثقافي، إن لم نبدأ بنقد أصدقائنا، ولن يكون تنمّرنا لنقد الأصولية مفيدا، دون نقد أمراضنا، لأنّها هي التي توفّر مناخا خصبا لانتشار للأصوليات بكافة أشكالها.
حين تكون الثقافة ضعيفة ومريضة ستخلي المكان لينشأ فراغ ما، وهذا الفراغ لن يملأه وفق نظرية الفراغ الشهيرة، سوى الأصوليات السياسية والدينية، وهذا ما هو حاصل حاليا، ولسنا بريئين منه أبدا.
موقع الآوان