في ما خص الثقافة و/ أو السلطة؟
محمد الحدّاد
المثقف سلطة، بمعنى أنه يمسك ببعض ما يمثل سلطة على آخرين. فأشكال ممارسة السلطة كثيرة، ومنها التأثير في أفكار الناس والقدرة على توظيف ما في أذهانهم ومعارفهم من مقولات ومفاهيم في اتجاه معين. والناس يمارسون الفكر بعفوية والمثقف يمارسه من موقع الاحتراف، فاحترافه الفكر يجعله سلطة بمعنى ما.ولهذا السبب كانت العلاقة بين سلطة المثقف وسلطة السياسي متوترة منذ أقدم العصور، وضعف سلطة المثقف ترجع إلى كونه لا يتواصل مع الناس إلا عبر قنوات اتصال يمكن أن تحجب عنه. لكنّ ثقافة التصنيع السياسي، كما أشار إليها الزميل ياسين الحاج صالح في مقال له على صفحة تيارات (19/04/2009)، لا تقلّ ضعفا بدورها، لأن آثار السطحية والتصنع تظلّ عالقة بها في كلّ الحالات، فهي ثقافة تصلح للاستهلاك في المناسبات لكنها لا تلبّي الطلب الجدّي للمعرفة والتثقيف.
يعرّف الغربـيّون المثقف بأنه الشخص الذي يتمتع بسلطة معرفية في مجال معين ويقبل توظيفها بقصد التأثير في القضايا الاجتماعية باتجاه التطور والرقي. هذا التعريف هو المستمد من التجربة التاريخية الغربية في صيغتها الليبرالية، وهي الصيغة السائدة التي حظيت بالإعجاب والكونية. وثمة صيغة أخرى تعرّف المثقف بأنه الشخص الذي يلتزم سياسيا بما يعتبر ثقافة الحقيقة، سواء كانت هذه الثقافة في موقع السلطة أو في موقع السعي للاستيلاء على السلطة، أقصد طبعا المعنى السياسي للسلطة. وهذا التعريف يمثل تيار الأقلية في الغرب لكنه يصبح تعريف الأغلبية إذا ما انتقلنا إلى المجتمعات العربية، ويعود هذا الاختلاف إلى أسباب عديدة أحدها، ولعله أهمها، ضعف التجربة الليبرالية في هذه المجتمعات. فالليبرالية تقوم على فكرة تقلص فضاء الدولة، لكن المجتمعات العربية نشأت ضعيفة ومفككة ولم تكن قادرة على الوجود والاستمرار دون دولة قوية، فانقسم الفعل الثقافي بين فعل من داخل الجهاز وفعل من خارجه، مع أن المفروض أن تكون الثقافة سلطة مستقلة ولو نسبيا عن السياسة بوجهيها الرسمي والمعارض.
والأدهى أن الفعل الثقافي قد استبطن الرؤية غير الليبرالية لوظيفته، وقد اختزلت ذلك مقولة «الالتزام»، وهي مقولة كثيرا ما تعني، في صيغتيها، الرسمية والمعارضة، أنّ الالتزام يجعلك مثقفا (أو فنانا) ولو لم تكن تحسن الكتابة (أو العزف). وبهذا الشكل لا يتمتع العديد من المثقفين من الصنفين بسلطة معرفية حقيقية يمكن لهم توظيفها في القضايا الاجتماعية، مع أنّ هذا لا ينفي أيضا أنّ صاحب السلطة المعرفية الحقيقية لن يجد الطريق ممهدة أمامه لممارسة هذا التأثير. وقد يعترض على كلامي بالقول: كيف تريد أن تبنى سلطة معرفية دون ضمان الاعتراف الحقيقي بأصحابها والظروف الكفيلة برعايتها؟ والجواب أولا أننا نعرف الكثير من المثقفين الكونيين لم يعيشوا في ظروف هينة لكنهم تركوا أثرا حقيقيا في الثقافة.
ميكائيل باختين مثلا قضى فترة طويلة من حياته في السجون والمنافي لكنه لم يترك فقط أشعارا تصف معاناته، لقد ترك نظرية الحوارية التي أصبحت إحدى النظريات الأساسية في النقد الأدبي وتحليل الخطاب. والجواب ثانيا أن هوامش كثيرة قد فتحت أمام المثقفين فأساؤوا استعمالها، لأنهم يتحركون في وسطهم الخاص، وسط الثقافة، مقلدين السياسي وولعه بالمناورة والتوسع، وربما غرتهم أنفسهم فتصورا أن الانتقال سهل هين من المناورة السياسية في الوسط الثقافي إلى المناورة بالثقافة في الوسط السياسي.
وكما أن كلّ الناس يمارسون الفكر بعفوية والمثقف يمارسه من موقع الاحتراف، فكذلك الفارق شاسع بين المناورة من النوع الأول والمناورة من النوع الثاني، ذاك عفوية سياسية وهذا احتراف سياسي، فلا يستويان، وإذا ما حصل الصدام جاءت النتيجة كما هو متوقع ومنطقي.
لا توجد سلطة معرفية حقيقية إلا نادرا، لكن توجد معرفة قديمة تحظى بالاحترام، بسبب العجز المخجل للمتأخرين على تجاوز إبداعات سلفهم، فيقع توظيف هذا المعرفة التي تدعى تراثا في القضايا الاجتماعية، وتتضخم شيئا فشيئا الرغبة في الذود عنها كي تتدعم مكانة المثقف، ويترتب على ذلك أن التأثير الاجتماعي يحصل بعكس اتجاه التطور والتقدم، وبذلك تصنع الثقافة خصومها أو تمهد لهم الطريق، وتنمي قابلية الرأي العام لتهميشها والاحتفاظ بما قد تعوّد عليه. ويبدو أن سلامة موسى هو الذي أطلق في العشرينات كلمة مثقف كي تكون بديلا للكلمات القديمة مثل عالم أو شيخ، لكن لماذا هذا التغيير في المصطلحات إذا رضي المثقف بأن يكون مجرّد عارض أزياء تراثية؟ بل ألا يكون الشيخ أكثر مصداقية منه وأقلّ تعصبا للبضاعة التراثية لعمق معاشرته لها؟
… لن يكون مستغربا أن تختفي كلمة مثقف عندنا قبل أن تبلغ الذكرى المئوية الأولى لميلادها.
الحياة