صفحات ثقافية

الخبز اليومي» مسرحية سوسن دروزة: نص اللانص

null


راشد عيسى

لا يشبه عروض المونودراما في مسارحنا اليوم سوى مسرحيات الزواج (من الصعوبة العثور على اسم آخر، والمقصود بها تلك التي تعرض لشخصيتيْ الزوجين ومشكلات الزوجية)، فلشدّما تشبه هذه تلك من حيث الصوت الواحد، وإن تعدّى إلى اثنين،
ومن حيث القدرة الإنتاجية البسيطة، وبالتالي إمكانية أعلى للسفر والمهرجانات، ومن حيث إرضاء نرجسية الممثل في حضور وحيد وساطع، وكل ذلك بالطبع لا يمتّ إلى الضرورات الدرامية بصلة. ولعل مسرحيات المتزوجين تتفوق أيضاً على المونودراما بوحدانية الصوت، فإذا كانت المونودراما عرض الممثل الوحيد فيما تتعدد موضوعاتها، فإن تلك تعالج موضوعاً وحيداً يمكن اختصاره بما يشبه تيمة «خطبة لاذعة ضد رجل جالس»، مسرحية غارسيا ماركيز الوحيدة، حيث الرجل، الذي يكاد لا يكون ملحوظاً، مشغول بجريدته طوال الوقت، فيما المرأة تلقي فوق رأسه بمطالبها وشكاويها بلا هوادة.

في دمشق شاهد الجمهور السوري عدداً من هذا النوع؛ «صدى» لعبد المنعم عمايري، «خطبة لاذعة ضد رجل جالس» لمها الصالح، «عبء الكلام» لصبا مبارك، واليوم «لا على الترتيب أو الخبز اليومي» لسوسن دروزة. واللافت أن المخرجة دروزة لا تنفي أن مسرحيتها الأخيرة امتداد لمونودراما «مصابة بالوضوح» التي لعبتها الممثلة ساندرا ماضي، فهنا أضيف إلى الأنثى حضور الرجل مجسداً على الخشبة (أداه أيهم آغا)، ولو أن حضوره بدا هامشياً، لا ندري إن كان هذا ما يريده النص، أم هو ضعف إمكانات الممثـــل التي جعلته هامشياً إلى هذا الحـــدّ، ولو أن إمكــانات الممثلة (أمل عمران) الباهرة في لحظات (لحظات فقـــط) استطــاعت أن تنتشل العـــرض من حمــولته المرهقة من الضجر والــثرثرة والتـكرار.

يشكو عرض «الخبز اليومي» أولاً من غياب النص، وهو ليس سوى ثرثرة زوجية يومية من غير ناظم ولا سياق، وإن حاولت هذه الثرثرة أن تدّعي إطاراً، من قبيل الحضور الدائم لثنائية الماضي (الحب) الحاضر (الخيبة، الضجر، العطالة)، ومن خلال تبادل المواقع بين الزوجين، مواقع الشكوى أو إعلان الضجر وسواها، فإذا كانت بدايات العرض تظهر الرجل مسمّراً أمام شاشة التلفزيون، فإنه يختم بالزوجة في الوضعية ذاتها، أي مسمّرة هي هذه المرة أمام التلفزيون. كما أنه ليس صحيحاً أن كل ثرثرة يومية يمكنها أن تصبح مثالاً لما يعتبره البعض مسرحاً ينتمي للحياة والراهن واليومي، إلى ما هنالك من طــرائق تحاول الالتفاف على أصول المسرح وبديهياته.

«الخبز اليومي» كان من البرودة والضجر بحيث لم يترك سوى الحيرة لدى المتفرجين الذين راحوا يحدقون بعضهم ببعضهم الآخر في انتظار حدث، أو عبارة، أو لحظة نافرة عن سياق ذاك الملل، حتى الموسيقى لم تسعف إيقاع العرض البارد، سوى أغنيات كانت فواصل بين مقاطع المسرحية، لم تتح لنا سوى أن ننظر إليها باعتبارها كأيّ موسيقى ترافق رفع الستارة وحسب، من دون تشابك مع ما يجري على الخشبة، الأمر الذي دفعنا في النهاية إلى التحديق والتلّهي في أشياء أخرى ومنها الديكور الذي بدا الأجمل في العرض حيث كنبة طويلة في مواجهة الجمهور، وعلى شاشة في عمق المسرح راحت صورة الديكور على الخشبة تتكرر رسماً، صورة داخل صورة، لتعيد صور الحياة الزوجية المكرورة بلا نهاية. ما يلفت في العرض، وذلك ما أشار إليه بعض الزملاء أيضاً، أن هذا النص، اللانص، اجتمع عليه أربعة كتّاب، حيث قال البروشور إن المسرحية من تأليف وإخراج سوسن دروزة، وكتب الحوار نجيب نصير، أما الدراماتورجيا فلخليل درويش، كما أن العرض يحتوي على مشهد مأخوذ بتصرف عن مسرحية الألمانية جيزينا دانك فارت بعنوان «الخبز اليومي». فأي نص عبقري لم يلحظه الجمهور السوري، بل لعلنا لم نلحظه من فرط ما هو عبقري. لا ندري إذاً أي قوة ستحمل العرض إلى مهرجانات المسرح، مثلما حُمل عرض دروزة السابق «مصابة بالوضوح»، الذي استنسخ إلى لغات أخرى، وحاز جوائز واهتماماً ونقداً لا مثيل له. إنها بحق أكذوبة المسرح العربي الذي فقد صانعيه فراح يوزع مجداً زائفاً هنا وهناك.

(دمشق)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى