صفحات ثقافية

إعادة إنتاج ثقافة الإقصاء والتشويه

null
عبد الوهاب عزاوي.
“يقدم الشاعر سليم بركات في مادته “إنها لـيـسـت الأندلـس يا يـسوع” المنشورة في “الملحق الثقافي” لجريدة “النهار” في 5/12/2010 نقداً للثقافة العربية، معتمداً على مدخل حكائي حول أوضاع اليهود العرب في سوريا بعد منتصف الستينات من القرن الماضي، مشيراً إلى خطأ فادح تعرض له اليهود العرب الذين اُعتبروا متّهَمين حتى يثبت العكس، وتمّ الانتقاص من حرّياتهم على يد الدولة والناس مما دفعهم إلى الهجرة إلى “إسرائيل”. أجلْ، من المهمّ أن ندين الخطأ في حقّ مواطنين عرب لا دخل لدينهم في حقوقهم. ويتابع الكاتب نقده مستخدماً المنطق نفسه على مبدأ كلمة حقّ أريد بها باطل، ليناقش وضع المسيحيين العرب، خالطاً بين الثقافة الإسلامية (والثقافة الكردية جزء منها) وبين الثقافة العربية، فيقول: “كل فرسخ من الجغرافيا العربية استنهض عزائم الغيرة من ضياع الدين في الدنيا. مدارس، وكتاتيب، وتكايا، وزوايا، بلا ضوابط، يأخذ منها الصغير الغرُّ الطالبُ قسْطَ علومه دِيناً عن أيدي مَنْ قَدِرَ على حوزة، أو منبر، باختصاصٍ أو من دونه، مُذْ عُدِمَت الرقابة على استباحة الفقه، ما دامت النيات طاعة الله، لا طاعة الدنيا”. ويشير إلى الخطر المحدق بالأقباط في مصر من المسلم العربي المتخلّف، متناسياً عمداً أن قسماً كبيراً من المسيحيين في القامشلي والحسكة في سوريا، ومعظمهم من السريان والآشور هُجِّر ويُهجَّر تحت ضغط الأكراد وترهيبهم لامتلاك أراضيهم. إنّ الإقصاء والعنف يشمل جميع الأقليات والقوميات في البلدان العربية، ومن المهم أن تُنتقد هذه الثقافة بشكل موضوعي وعميق، لكنّ الكاتب يفضل اعتماد منطقٍ اجتزائيّ استشراقيّ في أفضل الأحوال، معتمداً لغةً يغلب عليها المجاز والكناية والاشتقاق اللغوي فيغيم المعنى، ويبقى الاتهام العميق لتحجّر الثقافة العربية التي تنكر الأعراق الأخرى (في أرض لم “تتكلم العربية” قبل الغزو العربي) بحسب الكاتب، وهو الشاعر الذي يكتب بلغة عربية معجميّة وصفها في لقاء له على قناة “الجزيرة” “كانت اللغة العربيّة من الشساعة ومن السعة ومن الثراء إلى درجة أستطيع أن أعبّر بها عن كرديتي، إلى الحد، لن أقول الحد الأقصى، أبالغ لكن إلى الحد الضروري للتعبير عن نفسي، حوَّلتُ اللغة العربيَّة معي إلى هويَّة كرديَّة”، متناسياً أن الثقافة العربية نتاجٌ معرفيّ واسع ساهم فيه العرب وسواهم من شعوب أخرى. وأتساءل: ألم يفكر هذا الشاعر الذي ترك لغته الأم نحو لغة يُحقِّر ثقافتها، أيعقلُ أن تُنتج ثقافةٌ فاسدة إلى هذا الحد لغةً “غنيةً جداً” بحسب وصفه في اللقاء نفسه؟! ألا يتناسى ما يجري في إقليم كردستان العراق!، وله أن يراجع تقرير “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق”، الذي يتحدث عن جرائم الشرف والسجناء السياسيين وفقدان حرية التعبير هناك، هل ينسى التهجير اليومي للعرب والتركمان من الموصل وكركوك!، أم أنه يخشى على دارفور والأقباط فقط! هل ينسى آلاف القتلى من الأكراد بسبب حرب بائسة بين الحزب الديموقراطي بزعامة البرزاني والاتحاد الوطني بزعامة الطالباني؟! وهل ينسى أن الأخير نفسه قتل عشرات من الشيوعيين العرب الذين كانوا يقاتلون ضد نظام الديكتاتور صدام حسين وبناءً على طلبه بحسب الشاعر سعدي يوسف!، لكنّ الكاتب يصرّ على الانتقائية وينتقل إلى الوضع في العراق ليبرئ بإساءة مدهشة المحتلّ الأميركي من جرائم القتل المذهبي ضد المسيحيين: “لا يُسأل الأميركي الغازي، بل يُسأل كيف انكشف الغطاء عن شيطان من “صناعة” أُمِّ المكان وأبيه”. ويكمل: “فلْيشرحْ أحدٌ ما كرمَ العربي مُغْدَقاً على خادمات من آسيا غرْزاً بالمسامير في أجسادهن”. منطقٌ كهذا يعتمد على مقدّمات خاطئة ليلوي عنق الفكرة على هواه متحاشياً كل التقارير والدراسات عن الدور الأميركي ودور الموساد الإسرائيلي في عمليات التفجير المذهبية والإثنية في العراق، وفي السودان كما كشفت وثائق “ويكيليكس” أخيراً، ويتجاهل دعم الولايات المتحدة الأميركية للتطرّف الإسلامي في مراحل معينة، ألم يكنْ بن لادن صناعةً أميركية؟! ألم يدعم الأميركان “طالبان” أثناء صراعها مع الاتحاد السوفياتي؟! ألا توجد العديد من الدراسات حول علاقة الولايات المتحدة الأميركية مع حركة “الإخوان المسلمين”؟ والأهم على الإطلاق، لماذا لا يبذل جهداً لتحليل دور القمع والديكتاتورية وعملائها في تهميش الحراك السياسي والاجتماعي وتدمير مؤسسات المجتمع المدني، تالياً دفع المجتمع بكل تياراته وأطيافه نحو التشكيلات الأكثر تخلفاً والتي تمثّل المجتمع الأهلي المشوّه والمُحْتَرِب والتي تؤمّن الحماية بالمعنى القطيعي، لماذا لا يرى جرائم البشمركة في حق الآخرين؟ أم أن دوامة العنف تقتصر على الثقافة العربية فقط؟ لماذا ينسى أن حزب الكتائب ساهم في الحرب الأهلية اللبنانية، تالياً، فإن المسيحيين ليسوا ضحايا على الدوام؟! إنه وضع معقد ويحتاج الى جهد نقدي وليس رؤية استشراقية بائسة تعتمد تعميمات مخجلة تأتي في سياق الليبيرالية الجديدة بكل وحشيتها وإسفافها، ومن ذلك أيضاً “لا عربيَّ، في موطن، يشبه الآخرَ إلاَّ بنفاق التاريخ في التوحيد”، وعندما يتحدث عن المفكّرين العرب المقاومين مثل نصر حامد أبو زيد والعروي وإدوارد سعيد، يتحدث عنهم بلسان حال المتعصّب الأصولي لا بلسانه هو. وهذا نوع من الهروب من مناقشة الفكرة جديّاً. وينتقل ليقارن فضائل الدول الغربية التي تستقبل اللاجئين المسلمين العرب في مواجهة استقبال العربي المسلم للمسيحي وانتقاصه من حريته وكرامته مع تكريس مقصود للّبس بين العروبة والإسلام، وكأن المسيحي ليس عربياً. حقيقة ما يقدمه الغرب في هذا المجال أمر مهم، وقد برّر ذلك بعض الزملاء من الأطباء في لندن، عندما كنت هناك، على أنه تعويضٌ عن الجرائم التي ارتكبتها مملكتهم تجاه المستعمرات. أجل، حتى الغربي يحس بنوعٍ من الإحساس بالخطيئة وينظر الى الأمر بموضوعية، وليس بمنطقٍ صُوْريّ سكوني.
من الغريب أن تأتي هذه المقالة بالتزامن مع ذكرى وفاة جان جينيه وهارولد بنتر، وأقول آسفاً إني كثيراً ما أحس أن بعض الأدباء والمثقفين الغربيين أقرب الينا لأنهم أكثر وفاءً لإنسانيتهم وأفكارهم ودفاعهم عن الحرية من بعض أدبائنا الذين يكتبون بصيغة استشراقية يخجل من طرحها المستعمر نفسه الذي يعترف بأنه محتل ويعلن مسؤوليته عن حماية الناس الواقعين تحت أذاه. ألا يعتقد الكاتب أنه بمقاله العدائي هذا، يقدم دفعةً للفكر الأصولي ويسيء الى القضية الكردية في محيطها العربي؟ الموضوع يستحقّ نقاشاً عميقاً، فالأزمة تشمل ثقافة المنطقة بكل أطيافها وأقلياتها وأديانها وقومياتها واصطفافاتها، وقد تشكلت ضمن صيرورة طويلة عكسها صعبٌ جداً لكنه ليس مستحيلاً، وأول خطوة فيه النقاش العقلاني، تالياً أنا لست في مجال الدفاع عن الثقافة العربية قي مواجهة الثقافة الكردية أو سواها.
في النهاية ذكّرتني مقالة سليم بركات بأزمة مررتُ بها إثر أحداث العنف التي وقعت منذ سنوات في سوريا بين الديريين (سكان مدينة دير الزور) والأكراد في القامشلي والحسكة، والتي امتدّت لتصبح صراعاً بين العرب والأكراد، وقتها كنت طالباً في جامعة دمشق، وقد عاداني زملائي الأكراد لأني ديري ونبذني زملائي من أهل مدينتي لأني من أمٍّ كردية، ودليل الطرفين علاقتي الطيبة معهما. إنها العقلية نفسها التي يكتب بها سليم بركات مقالته وإن اختلف مستوى الرطانة والتحاذق” ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى