دون كيخوته القضاء
صبحي حديدي
آخر حملاته القانونية كانت موافقته، أواخر الشهر الماضي، على النظر في إمكانية قيام مواطنين إسبان برفع دعاوى قضائية ضدّ عدد من الأفراد الذين شغلوا مناصب هامة في إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، بتهمة خرق القانون الدولي وتوفير التشريعات التي سمحت بممارسة التعذيب، في معتقل غوانتانامو، بحقّ خمسة من الرعايا الإسبان. وفي القائمة، حتى هذه اللحظة: ألبرتو غونزاليس، وزير العدل، جون يو، وجاي بايبي، من مكتب الإرشاد القانوني التابع للوزارة، دوغلاس فايث، مساعد وزير الدفاع لشؤون السياسة، وليام هينز، المستشار العامّ لوزارة الدفاع، ودافيد أدنغتون، كبير موظفي نائب الرئيس ديك تشيني. والمحامون الإسبان، الذين رفعوا الدعوى أمام المحكمة العليا، أوضحوا أنّ موظفي الإدارة السابقة الستة لعبوا أدواراً مباشرة، موثقة تماماً، في إقرار سلسلة من تقنيات التحقيق غير المشروعة، وإعادة تعريف التعذيب على نقيض من التعريف المنصوص عنه في اتفاقية حظر التعذيب التي أقرّتها الأمم المتحدة سنة 1984.
صاحب هذا القرار الجسور هو القاضي الإسباني الشهير بالتازار غارثون، الذي سبق له أن اتخذ إجراءات أخرى لا تقلّ جسارة، بعضها كان قد أرسى سوابق قضائية أشبه بالإختراقات القانونية والمنعطفات الحقوقية الكبرى. وقد أعرب، مراراً، عن عزمه على محاكمة هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، وأحد أشهر مَن تولّوا المنصب في تاريخ الولايات المتحدة، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، على خلفية دوره في ‘عملية الكوندور’ التي نُفّذت أواسط السبعينيات من القرن الماضي واستهدفت القوى اليسارية والمعارضة في الأرجنتين وتشيلي والأوروغواي وبوليفيا والبرازيل والإكوادور والبيرو، وتقول أقلّ التقديرات أنّ عدد ضحاياها تجاوز الـ 60 ألف قتيل. وفي ربيع 2001 كان غارثون قد طلب من المجلس الأوروبي رفع الحصانة عن رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، تمهيداً لمحاكمته بتهمة التهرّب من دفع الضرائب، عبر شركة التلفزة العملاقة ‘تليسينكو’ التي يملكها، وتعمل من إسبانيا.
غير أنّ خريف 1998 سوف يشهد خطوة غارثون الأشهر، والتي قد تظلّ الأشجع حتى إشعار آخر طويل، حين وجّه مذكّرة اعتقال دولية بحقّ أوغستو بينوشيه، دكتاتور تشيلي السابق وقائد الإنقلاب العسكري الذي قوّض التجربة الديمقراطية في ذلك البلد، واغتال الرئيس الشرعي المنتخب سلفادور ألليندي وآلافا من المواطنين التشيليين والأجانب، بينهم بعض الإسبان. وكان بينوشيه يقوم بزيارة خاصة إلى لندن حين فاجأه غارثون، بل وضع السلطات البريطانية السياسية والقضائية في حيص بيص، خاصة بعد أن انتهت سجالات الشدّ والجذب القانونية إلى قرار تاريخي اتخذته اللجنة القضائية التابعة لمجلس اللوردات البريطاني، قضى بحجب مبدأ الحصانة الدبلوماسية عن بينوشيه، وشرّع بالتالي إمكانية تقديمه للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية.
وكما هو معروف، نجح بينوشيه في الإفلات بتواطؤ مباشر من حكومة توني بلير، ممثلة في جاك سترو وزير الداخلية آنذاك، الذي استخدم سلطاته ومنع تقديم الدكتاتور التشيلي إلى المحاكمة بسبب المرض والشيخوخة. لكنّ خطوة غارثون، ومعها قرار مجلس اللوردات، أرسيا السابقة الكبرى التي سوف تقسم السجال إلى فريقين، شكّل كلّ منهما معسكراً حقوقياً أوّلاً، وأخلاقياً ثانياً، وسياسياً ثالثاً وجوهرياً: الأوّل يفتي بوجوب تقديم الدكتاتوريين للمحاكمة بتهمة انتهاك حقوق الإنسان فقط، الأمر الذي سرعان ما أفسح المجال لأصوات غربية، وأمريكية إجمالاً، تطالب بمحاكمة أمثال فيديل كاسترو وصدّام حسين، غيابياً إذا اقتضى الأمر، والثاني يقول بوجوب توسيع لائحة الإتهام، فلا تقتصر على انتهاك حقوق الإنسان، بل تشمل مختلف أنواع الجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية، وعلى رأسها الإبادة الجماعية والمذابح والمجازر المنظّمة.
على الصعيد الداخلي أعلن غارثون، في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، أنّ أفعال القمع التي ارتكبها نظام الجنرال فرانكو وأركان حربه أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، هي جرائم بحقّ الإنسانية. كذلك قال بجواز فتح 19 من القبور الجماعية، وبينها ذاك الذي يُظنّ أنّ الشاعر الإسباني فدريكو غارثيا لوركا دُفن فيه، لإجراء الفحوصات الحمضية وجمع الأدلة. لكنّه، بعد شهر واحد، أعلن إسقاط القضية بعد أن اعترض قانونيون حكوميون على جواز محاكمة جرائم ارتُكبت قبل 70 سنة من جهة أولى، وجواز تقديم الموتى إلى المحاكم، في غياب حقّ الدفاع الشخصي، ثانياً، وثالثاً، والأهمّ بالمعنى القانوني، أنّ هؤلاء يتمتعون بالعفو العام الذي صدر سنة 1977، وشمل جرائم الحرب الأهلية كافة.
والحال أنّ غارثون تعرّض لنصف هزيمة ربما، لأنّ تنازله عن تلك الملاحقات الجماعية كان في الآن ذاته يمنح المحاكم المحلية اختصاص قبول دعاوى فردية في هذه القضية، وقالت مذكّرته ـ المؤلفة من 64 صفحة، والحافلة بأدبيات الأخلاق الحقوقية قبل الأسانيد القانونية ـ إنّ فرانكو لم يكن متمرداً رجعياً يمينياً أسقط حكومة شرعية منتخبة، ودفع بالبلاد إلى أتون حرب أهلية دامت ثلاث سنوات، أتاحت له أن يحكم كدكتاتور طيلة 36 سنة، فحسب، بل كان وحشاً أشرف بنفسه على إفناء أكثر من 100 ألف من معارضيه.
وليس غريباً، إذاً، ان يطلق الإسبان على بالتازار غارثون لقب ‘دون كيخوتة القضاء’، ما خلا أنه لم يكن يقاضي طواحين الهواء، بل الوحوش الكاسرة من بني البشر!
خاص – صفحات سورية –