صفحات مختارة

أهل اليسار معارضة بين البينين

قاسم عز الدين
لن ندخل في الأسماء والمسميات، فليس هدفنا إحباط الهمم، لكن إثارة الحوار تحت القشرة البرانية التي أكلها القشب في وجه أهل اليسار. ولن نتعرض الى وصم حالة القحط، بل نحاول باقتضاب نقاش الشحّ الفكري اليساري، الذي آل الى السخام. فاليسار التقليدي، أينما كان، لم يعد منذ زمن، مشروعاً بديلاً للنظام الرأسمالي، بل بات معارضة احتجاجية بين سلطة الرأسمالية ومناهضيها. فهو ينظر الى انهيار النظام الرأسمالي منتظراً سقوط الرأسمالية دون عناء التفكير في إشكاليات النظام وتحولاته، ودون وقوفه حتى على أرضية مناهض الرأسمالية. أما الدينامية اليسارية الصاعدة في أميركا الجنوبية، وفي «المجتمع المدني العالمي»، فهي دينامية مناهضة، يراها اليسار التقليدي «شعبوية»، على الرغم من انشغالها بآليات التحول وبدائل النظام الرأسمالي. وبين قوى المناهضة من لم يستطع البقاء داخل الأحزاب والتيارات السياسية التاريخية حين اصطدم بفكر سياسي مناوئ لمواكبة التحولات وإشكاليات النظام الرأسمالي، وأخذت منه الأصولية اليسارية أي مأخذ. وهي أصولية لم تزعزعها أزماتها المتلاحقة ولا الاكتساح الرأسمالي ولم تؤثر فيها دينامية المناهضة، حتى بعدما تحولت الدينامية الى حركة عولمة بديلة.
اشتغلت القوى المناهضة في مروحة واسعة متعددة المعتقدات والايديولوجيات والتيارات الفكرية والاجتماعية، وكذلك الجمعيات وهيئات الدفاع عن الحقوق (وكل ذلك يطلق عليه تسمية المجتمع المدني)، لكن في نشاطات عينية وفي موضوعات ينقسم عليها التيار الواحد والايديولوجية الواحدة الى جانب النيوليبرالية أو مناهضتها. وهو أمر مستجد على تراث اليسار التقليدي في الجبهات الوطنية والشعبية والتحالفات السياسية. وقد أنشأت حركة المناهضة أطراً تنظيمية مشتركة هي المنتديات الاجتماعية المحلية والإقليمية والعالمية، يجمعها ميثاق «بورتو أليغري» ويحفظ لكل جماعة استقلالها وحرية التفكير والمبادرة، خلافا لتراث الجبهات ذاعت التنظيم الكنسي شبه العسكري القائم على وحدة المعتقد والبرنامج والتراتبية والانضباط. وللمصادفة بيّنت المنتديات أن قوى الأحزاب والتنظيمات اليسارية التقليدية المشاركة، هي الأقل فعالية وإنتاجاً فكرياً، وأدت مشاركتها حيث لها مركز الثقل مثل منظمة «أتاك» الفرنسية، الى شرذمة هذه المنظمة وفرط عقد فروعها. ومن أسباب عدم قابلية فكرها السياسي لمواكبة التحولات العميقة في النظام الرأسمالي وإشكالياته وأهمها، على ما نظن، اثنان:
تعود أسباب عدم قابلية فكرها السياسي لمواكبة التحولات العميقة في النظام الرأسمالي الى عاملين:
أ ـ ان التطور الاقتصادي العالمي في حالته الراهنة، يهدد توازن الكوكب والبيئة بدمار البشرية، قبل أن يضاف إليه طموح بالتطور في «المجتمعات المتخلفة». ولا مناص من تفكيك آليات التطور والنمو الاقتصادي في عقر داره وتفكيك زيادة الإنتاجية المحمومة وإعادة الاعتبار الى التوازن بين الإنتاج الكبير والصغير، على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني. وفي هذه الإشكالية فإن الاقتصاد الكبير هو ديدن التطور الاجتماعي في فكر اليسار التقليدي. وهو تقليد تاريخي منذ مقولة «السيطرة على الطبيعة وإخضاعها»، الأمر الذي حدا باليسار التقليدي الى أن يقف بين نزعة الطموح «بالتطور الاقتصادي» من جهة، وبين مساندة المتضررين من هذا التطور، وهم «المتخلفون» من الفلاحين والحرفيين وصغار الكسبة… لكنها مساندة سياسية مشروطة بمنحى «التطور التاريخي الاجتماعي» نحو الإنتاج الكبير.
ب ـ إن التدخل والتشابك المعولم طوى مرحلة التراكم الداخلي واستقلال الدولة وفتح مرحلة الاندماج الإقليمي والتبادل بين المجموعات الإقليمية. لكنه فتح مرحلة غير مسبوقة، في العلاقة المباشرة دون المرور بالدولة، بين الإدارات المحلية والإنتاج التضامني والتجارة العادلة… وفي هذا الأمر يقف اليسار التقليدي ايضا بين حق الإجراء بزيادة الأجور وتحسين أحوال العمل، وبين عدم إمكانية بقاء قطاعاتهم، ما لم يقده تنظيم إنتاج الثروة والقطاعات في التجمع الاقليمي، أو في الإنتاج التضامني بين القطاعات الصغيرة خارج المنافسة في السوق الحرة.
يسار عربي ينسخ
ولا ريب أن اليساري العربي واللبناني ليس معنيا ببحث مثل هذه التحولات والإشكاليات، ففكره التقليدي العائد للقرن التاسع عشر «ثابت» على الانقسامات والتناقضات الاجتماعية في القرن التاسع عشر، حتى باتت أدبياته وتقارير مؤتمراته عبارة عن أخبار ومقالات صحافية عادية. لكن عدم التماس والتأثير في الانقسامات الاجتماعية المتحولة، أدى به الى التميّز بأطروحات الحداثة والتقدم والتطور، المستمدة من القرن التاسع عشر، لكن بحلّة ليبرالية مقطوعة عن المسألة الاجتماعية وتناقضاتها كما كانت في القرن التاسع عشر. فالعلمانية في الثورة الفرنسية مثلا، وهي أكثر العلمانيات راديكالية، لم تكن توعية وتبشيراً بدين جديد، بل كانت تهمة أطلقها الإقطاع والإكليروس على البرجوازية حين عملت على إجراءات ثلاثة:
المدرسة الرسمية لتأهيل الطلاب على العمل في الاقتصاد الجديد، وخدمة العلم لتحرير الفلاحين من حروب الإقطاع، والضريبة الفردية على الدخل لتوظيف رجال الدولة لدى رب عمل هو دافع الضرائب. وقد شغلت هذه الإجراءات وغيرها المفكرين الإصلاحيين والليبراليين وصاغوها في أفكار التحديث والتطور الاجتماعي لكنها ليست صناعتهم بل هي صناعة قوى اجتماعية مقابل قوى اجتماعية اخرى، يفكر فيها المفكرون وأعظمهم يلتقط بالكاد حركتها وما زالوا فيها يختلفون ويتناطحون.
ولم يأخذ اليسار العربي عن حركة القوى الاجتماعية، بل أخذ عن أفكار عصر التنوير فترجم العلمانية مشتقة من «العلم» مقابل «الجهل»، وهي ترجمة تدل على تجاهل نقل مضمون كلمة Laïcité بمعناها المدني الزمني، لدغدغة مشاعر بعض الفئات المتعلمة في «النضال ضد الجهل والتخلف»، لكنها رؤية ليبرالية، قليلة اليسارية، تعتقد أن الأفكار النيّرة تصنع التاريخ وليست تناقضات القوى الاجتماعية. وفي هذا المسار الفكري يجتهد اليسار اللبناني بمحاربة الطائفية والانتماء الطائفي بين الجماعات، فيطالب على غرار بقية الأطراف بإلغاء الطائفية السياسية، لكنه يتميّز عنها بوضع آلية «الانتخابات خارج القيد الطائفي» وإلغاء المحاصصة بين زعماء الطوائف. وهي مطالب تحظى بتأييد واسع لكنها تفتقد الى ثقل اجتماعي يحاول اليسار أن يعوّضه بالمطالب النقابية لزيادة الأجور والقدرة الشرائية، و«الاستقلال» عن القوى الطائفية.
إن هذا الحراك الثقافي ـ السياسي هو حراك في السلطة وليس حراكاً في الدولة، وفق خلط شائع بين السلطة والدولة، يبدو فيه أن السلطة هي الدولة والدولة هي السلطة وهذا صحيح في الدولة المزرعة حتى وإن تدخلت فيها السلطة «لتصحيحها». فالدولة تبنى على أسس التوافق بين مصالح القوى الاجتماعية المتضاربة المصالح، وفي هذا المسار تصحح نفسها بنفسها وتحول دون تدخل السلطة والطبقة السياسية. فالعلاقة الزبائنية القائمة في لبنان بين زعماء الطوائف والجماعات الطائفية هي علاقة تملك الدولة (المصالحة العامة والثروة الوطنية) ملكية خاصة، وهي ليست حالة شاذة بل هي حالة ثلاثة أرباع بلدان العالم، وهي تحديداً البلدان «النامية» التي عجزت عن توسيع العملية الإنتاجية وتوحيد السوق القومية وغرقت بالتبعية المستفحلة للدول الصناعية. فهذه العملية التي تبني الدولة هي عملية سياسية تساهم بها الطبقة السياسية والسلطة والقوى السياسية والنخب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن بإنشاء آليات عمل، كل حسب مسؤوليته، وإنشاء ثقافة سياسية بهذا الاتجاه.
وعلى عكس هذا المسار، يتبنى اليسار ثقافة بعض الفئات المتعلمة في طموحاتها الضيقة لمحاربة «الجهل والتخلف»، وفي أحسن الأحوال إصلاح شكل الحكم في السلطة، متغافلاً عن أسس بناء الدولة. فقد اهتم بالمطالب النقابية المحقة لكن لم يهتم باستمرارية القطاعات الإنتاجية وإنتاج الثروة العامة, لم يهتم بالمسألة الزراعية مثلا ولا الاندماج الاقليمي وتوحيد السوق القومية ولا التوازن بين الإنتاج الكبير والصغير ولا البيئة والمياه بطبيعة الحال، ناهيك عن الاهتمام بالبلديات والمحليات لأسباب محض انتخابية. وهذه المسائل وغيرها لم تعد رؤية استباقية لبناء الدولة، كما كانت بعد إزالة الاستعمار، بل باتت شرطا لحل أي مشكلة تبدو داخلية في أسباب انهيار الدولة والانقسام الطائفي القاتل. فالاقتصاد الإنتاجي الذي يطالب به اليسار عوض الاقتصاد الريعي، ليس له باب آخر غير إعادة تنظيم الإنتاج وتبادل المنفعة المشتركة مع سوريا والبلدان العربية والإسلامية، وهو بدوره حل عملي لسفسطة «العلاقة المتميزة مع سوريا» والعلاقة المتوترة مع ايران أو بعض البلدان العربية، وهذا الأمر يمس ما يسمى «السوق التجارية العربية» التي دخلت حيز التنفيذ عام 2005، في تخريب الزراعة ومضاربات التصوير عوض السيادة الغذائية. ومطالبة اليسار «بوقف العمل بتداعيات مؤتمرات باريس»، ليس لها أي أفق محلي، ما لم تستند الى الحد الأدنى من تبادل المنفعة المشتركة في المحيط الإقليمي، لتعديل «اتفاقيات الشراكة» مع الاتحاد الأوروبي. وهكذا دواليك في مجمل التصورات الاقتصادية ـ الاجتماعية الواردة في «برامج» اليسار والمعارضة.
برنامج الأكثرية النيابية
والحقيقة أن سلطة الأكثرية النيابية، في لبنان، تملك وحدها برنامجاً متكاملاً في السياسات الاقتصادية الاجتماعية، الأمنية، الخارجية، الدفاعية، هو البرنامج الساعية لتنفيذه بإشراف دولي، لكنه برنامج منسق على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني والمحلي وفي مسار استراتيجية نيوليبرالية تعبّر عن تحولات النظام الرأسمالي العالمي وإشكالياته. وفي هذا المسار فإن اليسار هو الأكثر تأهيلا، افتراضيا، للمناهضة وإنشاء البدائل، لكن اذا قام بنفسه بدوره ووظيفته، بالتكامل مع المقاومات ومع حركات المناهضة، وفي إنشاء فضاء مستقل حول المقاومات وحركات المناهضة. وهذا الأمر يتعدى التأييد والتنديد والسعي الى جهة موحدة وبرنامج واحد، لكنه يتطلب توسيع الرؤية اكبر من الحدود الضيقة وإعادة البناء المشترك في الآليات والبدائل العينية مع القوى الاجتماعية نفسها، وفي كل ملف بديل لرؤية النيوليبرالية وإجراءاتها. فهو الأكثر قدرة افتراضية على المشاركة بإعادة تنظيم المحليات والبيئة التي تحفظ حقوق سكان الأرياف والمدن وتخلق فرص عمل منتجة. والأكثر قدرة افتراضية على المشاركة ببناء آليات الإنتاج التضامني الزراعي والحرفي والتوأمة وإعادة التأهيل، وعلى التكامل مع المقاومة وحركات المناهضة من أجل الحقوق الوطنية والاندماج الإقليمي والعلاقات المتكافئة مع الاتحاد الأوروبي والتجمعات الإقليمية الاخرى.
إن معارضة اليسار بين المطالب النقابية المحقة وبين انهيار قطاعات الإنتاج هي معارضة البين بين، وهي معارضة بين حق الشعب الفلسطيني وبين وما يسمى «عملية السلام»، وبين التبعية الاستهلاكية التامة وضد تداعيات هذه التبعية، وبين إصلاح شكل الحكم في السلطة وضد بناء أسس الدولة في الاندماج الإقليمي، وأخيراً بين طموح سياسي وضد المشاركة في المنتديات الاجتماعية «والمجتمع المدني» وضد إعادة النظر بفكره السياسي وإعادة النظر برؤيته للانقسامات الاجتماعية وإشكالات النظام الرأسمالي.
فهذه معارضة البين بين هي معارضة احتجاجية «مستقلة» الى حد الانكفاء عن التأثر والتأثير، وهي في حقيقتها معارضة احتجاجية على السلطة لكن من أجل المشاركة بالسلطة، وقد يكون ذلك مشروعا بمعنى من المعاني، لكنه مشروع لا يغيّر في نظام الحكم ولا يمسّ أسس بناء الدولة. فتجربة مشاركة أطراف «الحركة الوطنية» في السلطة غنية بالعبر والدروس.
([) كاتب من لبنان
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى