صفحات الحوار

الكاتب الإسباني خوان جويتسولو: مجتمعنا محصور بين الاستهلاك والإرهاب.. والإرهاب يستحيل كذلك إلى بضاعة

null
ترجمة أحمد يماني
منذ خمس سنوات نشرت “ستارة فم” وأعلنت أنك تودّع بهذه الرواية الكتابة الأدبية.
كنت أفكر على هذا النحو. بعد “ستارة فم” بدأت في كتابة مونولوجات وأصوات كنت أسمعها ومحاكاة ساخرة لخطابات. عندما تكونت لديّ دستة منها انتبهت إلى أنّ رابطا ما كان يجمعها وأنها لم تكن جزرا منعزلة بل أرخبيلا. جملة كارل كلاوس التي تفتتح الكتاب أساسية : “ ليستحوذ أسلوبي على همهمات العصر”.
وما الذي تقوله هذه الهمهمات؟
إنّ مجتمعنا محصور بين الاستهلاك والإرهاب وإنّ الإرهاب يستحيل كذلك إلى بضاعة.
والعلاقة مع “مشاهد ما بعد المعركة”؟
جاءت فيما بعد. هناك يموت البطل والرغبة الكبيرة أن تعرف لماذا قتلوك. خلال الحرب الأهلية الجزائرية أثّر في بشدّة منظر امرأة كانوا قد قتلوا زوجها ولم تعرف لماذا. دوافع العنف هي دائما هكذا قومية، إيديولوجية، دينية…
كما لو أنّ الهوية لا يمكنها التعبير عن نفسها إلا من خلال العنف؟
أردت أن أستقصي الطريقة التي تعمل بها الأصوليات ولم أشأ أن أعبّر عن ذلك في مقالة بل من خلال الإنصات لضجيج الزمن، للصحافة، للبروباجندا. في سنّي هذه عدت مرتابا تماما في عبثية وجودنا، وبدلا من أن أظهر ذلك بشكل مأساويّ فإنّني أقدّمه بشكل كوميديّ، تاركا الخلاصة للقارئ.
“إذا كان النفاق هو التكريم لنقص الفضيلة فإنّ الاستفزاز سيكون هو الضدّ بشكل سيميتري”، نقرأ هذا في الرواية. أو يوجد إلى الآن هامش من أجل التحريض؟
عندما يكون العري مشروعا فلن يكون هناك عري استفزازيّ. لكنني لا أودّ الدخول في هذه اللعبة بل في لعبة الدعابة اللاذعة.
لكن هناك من يمكنه الشعور بالاستفزاز من صورة أسقف يشتهي الأطفال أو إمام ترانسكسوال.
هذا أمر يخصّه. لم تكن لديّ يوما أيّة إرادة استفزازية. إنها فقط محاكاة ساخرة للعالم مثلما يتراءى لي، حيث يتلاقى النظام والنظام المضادّ: فما دام هناك خطر إرهابيّ فلا بدّ أن توضع كاميرات في كل مكان؛ لكي تباع مياه نقية فيجب مضاعفة أخطار المياه الملوثة.
ليست هناك ردود إيجابية.
لا، وعند وجودها فإنّها تولد من جنون البطل: ريّ ملاعب الجولف بمياه معدنية.
أليست هناك حدود للدعابة؟
لا أعتقد بأنها تعود لتتكرر. منذ “بطاقة هوية” (1) حاولت أن يكون كلّ كتاب لي اقتراحا أدبيا جديدا وليس فقط تغييرا للموضوع، عادة ما يقوم الكتاب بتغيير الموضوع…
كنت أعني إذا ما كان هناك موضوع لا يجب المزاح حوله.
كي لا أسيء لأحد؟ لم أبحث مطلقا عن الإثارة ولا عن النجاح. ولا التحصل على قراء أكثر. ما أريده أن يكون لديّ قرّاء جيّدون، وأن يكون لديّ نصّ يجبر القارئ على العودة إليه، هذا هو الأدب بالنسبة لي. رغم أنني لن أنتقد أبدا كاتبا يبحث عن قارئ، لأنه يمكن كسب المال عن طريق الرواية، أنا في المقابل شديد الصرامة مع الشعر. يعرف الشاعر أنّه لن يكسب نقودا وأنا أمتعض من الشعر السيّء. هذا نعم، عندما أسمع أحدهم يقول بأنّه كتب رواية يمكن تحويلها بشكل جيّد لفيلم سينمائيّ فإنني أرى نقصا فادحا في طموحه، ولماذا لا يكتب سيناريو مباشرة؟ قال لي لويس بونويل، الذي عرفته بشكل عابر، أنهم عرضوا عليه تحويل “تحت البركان” للكاتب مالكوم لوري إلى فيلم. قال إن الرواية عمل رائع إلى درجة أنّ أيّ نقل لها للسينما سيكون أقلّ بكثير منها. في المقابل كان يعجبه جالدوس لأنّ لديه أفكارا غير مألوفة لكنه لم يكن حاذقا وهذا ما منحه الهامش الإبداعيّ الذي كان بحاجة إليه.
أظنّ أنك تابعت الجدل الدائر حول مقالة بيثنتي بيردو عن الكيفية التي يجب أن تكون عليها الرواية اليوم.
إنّ مقالة بيردو مثيرة للاهتمام بشكل كبير. كلمة قواعد هي الشيء الوحيد الذي لم يعجبني. لا يمكن أن تكون هناك قواعد. ملاحظات نعم. أنا لا يمكنني قراءة رواية معاصرة مكتوب فيها: أجاب، غمغم، أشعل سيجارة. بل لا يخطر على بالي هذا. لحسن الحظ هناك أناس يكتبون روابات جيدة، بلغة تتماشى وعصرنا.
من على سبيل المثال؟
لا أودّ أن أذكر أسماء لأنّه عندما أذكر أربعة أسماء يخرج عليّ مائة عدوّ. يقولون إنّني مقتّر هذا مع كوني الكاتب الإسبانيّ الحيّ الأكثر كتابة عن كتاب آخرين.
هل تتابع ما ينشر في إسبانيا؟
أنا واقع بعض الشيء تحت رحمة ما يرسلونه إليّ فأنا أعيش في مراكش وليست هناك مكتبات تبيع الكتب الإسبانية. كذلك تصلني مخطوطات وأحيانا  تحمل إليّ مفاجأة. حدث هذا لي مع رواية “خيانة ريتا هيوارت”، الرواية الأولى لمانويل بودج. تنبهت إلى أنّ هناك كاتبا. العنوان، بالمناسبة، هو لي. كان بودج قد أرسل إليّ عشرعناوين أو اثني عشر لم يعجبني أيّ منها. أبلغته بالأمر فشرح لي أنّ الكتاب كما لو كان خيانة لريتا هيوارت، قفلت له هاك هو العنوان.
ومؤخرا؟
حدث لي كذلك مع خابيير باستور.
هل ترى أثرا لك في الجيل الجديد؟
من المحتمل، لا أعرف. لقد حاولت أن يكون لي أساتذة جيّدون ولم أحاول أن يكون لديّ تلاميذ. كانوا أم لم يكونوا.
وإلى أين تصل الرواية؟ الطليعة الأدبية لها الآن أكثر من مائة عام.
على كلّ واحد أن يبحث عن طريقه. أرتاب كثيرا في التصنيفات المدرسية والجيلية. كلّ كاتب هو انحراف. قالوا لي في بعض الأحيان إنني كاتب غريب ودائما ما أفكر أنّ ثيبربانتس كان يصنّف نفسه كمؤلّف غريب. الأدب هو تملّك الغريب. على المبدع أن يكون واعيا بإنه يقوم بشيء جديد. إذا لم يكن كذلك فلا داعي للكتابة. رغم ِأنك تخاطر بألا تفهم.
رواية كـ “مشاهد ما بعد المعركة” لم يتمّ استقبالها بشكل جيّد. ربما لظهور خوليو اجلسياس.
وصلت لوموند إلى الاحتجاج عليّ بأنني أكتب عن باريس هجينة، مختلفة عن تلك التي للفيتيشية الأدبية.
تشكّل الهجرة واقعا شديد الراهنية في إسبانيا.
لقد تعلّمت كثيرا من حياتي فيSentier كما من قراءتي لثيربانتس. التنوّع الثقافي، طفرات المدن الحديثة هي ظواهر خلاّبة. فجأة جاء الأتراك وبدأت تظهر كتابات على الحوائط غير مفهومة. كانت تلك حقبة مداهمات الشرطة وحرب الجزائر. على أحد الحواجز كان مكتوبا بالعربية: الشرطة القذرة العنصرية. ظلت الكلمات لعام تقريبا لأنّ الشرطة لم تفهم ما كان مكتوبا.
بعد عدة أعوام اندلع العنف في الضواحي.
لكن في الأطراف. إنّ التعايش الممكن في وسط المدينة يصبح مستحيلا في الأطراف. تمّ الانتقال من البوتقة إلى الجيتو. في الوسط أنت دائما مع أناس تأتي من مكان ما. كان الأمر بالنسبة لي خبرة حاسمة. ربما لم يكن ليفهم هذا في إسبانيا منذ عشرين سنة. الآن يفهم للوهلة الأولى. عندما عدت إلى برشلونة ومدريد عام    1976 بدتا لي كئيبتين. كان هناك إسبان فقط! صدمني التجانس. تبدأ المشكلة عندما يجعلهم الضغط العقاري يقومون بإصلاح بعض الأحياء. يرسلون الناس إلى الأطراف ومن هنا تبدأ المشكلات.
قويت الآن شوكة القوانين الأوروبية الخاصة بالهجرة.
ويريدون أن يبيعوها لنا كإجراء تقدميّ! كيف يمكن بلع ذلك. وفكرة فصل الأطفال في المدارس تلك… يجب البحث عن اتّفاق براجماتي بين المماثلة والتعدّد الثقافيّ.
أيّ اتفاق؟
لا يمكنك أن تكون ثابتا لأنّ المجتمع يتغيّر. ثمّة أشياء لا يمكن إرساؤها عبر القوانين. قوانين الهجرة دائما ما تنتهي بأن تكون مفارقة تاريخيا وظالمة لأنّ الهجرة لا تتوقّف عن التغيير. ويبدو لي التعدد الثقافي بالغ الخطورة كنموذج. لا يمكن التسامح مع استئصال البظر لأنّ ذلك يشكل جزءا من ثقافة ما.
أين هو الحدّ الأقصى للتسامح؟
يجب البحث عنه، لكنه دائما سيتغير. إذا احتاج الاقتصاد إلى سواعد فليس الأمر نفسه حينما يمرّ بأزمة. إنّ شيخوخة السكان تجعل الأمر محسوسا في أنّ أوروبا تحتاج إلى بشر من خارجها. بالإضافة إلى أنّ الاتصال بالآخرين يزيدنا غنى. لكن ما يبيعونه لنا مجرّد الخوف.
هل يساعد الأدب في تفسير هذه الظواهر، هل ينفع بشيء؟
يمكن له أن يفسر، لكنه لا يغيّر شيئا.
لكنك لم تتوقف عن كتابة المقالات وسافرت إلى أماكن واقعة في حروب.
إنها أمور مختلفة. أحاول أن أقدم شهادة متعلّفة بأشياء تقلقني. لم أذهب لسراييفو(2) لأسباب أدبية بل للدفاع عن قضية بدت لي عادلة.
عندما ألقوا القبض على كارادازيتش نشرت مقالا شديد القسوة ليس فقط عليه بل على الأمم المتحدة كذلك.
كان تواطؤ القوات التابعة للأمم المتحدة مع محاصري سراييفو أمرا مخجلا. الذهاب إلى هناك كشاهد كما لو كان جريمة. في قاعدة حلف شمال الاطلنطي في أفيانو، إيطاليا، كانوا يفرغون حقيبتك بطريقة سيئة. وحجزوا بكل الوسائل الممكنة المعلومات عن مذبحة سراييفو، وقطعوا جميع وسائل الاتصالات. وصل أحد المفاوضين اليابانيين إلى القول بأنّ المسلمين كانوا قد سعوا وراءه.
كذلك أقمت علاقة بين حرب البوسنة وأحداث الحادي عشر من سبتمبر. أو ترى العلاقة بيّنة الوضوح؟
إنّ السؤال الذي لا يمكن لأحد الإجابة عليه هو: أكان حصار سراييفو سيمتدّ لأكثر من أربعين شهرا إذا كان المحاصرون (بكسر الصاد) مسلمين وكان المحاصرون (بفتح الصاد) مسيحيين؟ ما كان ليمتدّ لأسبوع واحد. تخيّل أنّ هذا ما كان ليكون له ثمن… تلاقيت مع عرب في سراييفو. ماذا كانوا يفعلون هناك؟ كانوا قد ذهبوا للدفاع عن أبناء عقيدتهم البوشناق. رأوا الموقف الغربيّ وتحوّلوا إلى أصوليين.
هوامش المترجم:
1- تجدر الإشارة إلى ترجمة كاظم جهاد للفصل الثالث من رواية “بطاقة هوية” والمنشور في مجلة الكرمل، العدد الخامس والثلاثين عام 1990.
2- كذلك نود الإشارة إلى ترجمة طلعت شاهين لكتاب جويتسولو “دفاتر العنف المقدس: دفتر سراييفو” القاهرة 1996.
المصدر: بابليا (الملحق الأدبي لجريدة الباييس الإسبانية) 30.8.2008
تُرجم هذا الحوار عن الإسبانية
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى