دمشق رفضت دائما أن يكون في لبنان ديمقراطية!.. لماذا؟
الطاهر إبراهيم
الشباب السوري من الجيل الحالي يجهل العلاقة العضوية التي كانت تربط دمشق ببيروت، وعلى الأخص في عهد الانتداب الفرنسي الذي حكم القطرين قرابة ربع قرن، مرورا ببداية الاستقلال في النصف الثاني من الأربعينات وصولا إلى بداية الستينات من القرن العشرين.. حتى قيل بحق أن أي موجة برد تهب على سورية كانت تصيب اللبنانيين بالزكام.
لسنا هنا بصدد سرد الموجات السياسية التي عصفت بأحد البلدين فانعكست أجواؤها أحداثاً في البلد الآخر. فقط نذكّر بأزمة حدثت يوم لوحق “أنطون سعادة” رئيس الحزب السوري القومي، بعد أن حكمت عليه حكومة لبنان بالإعدام في عام 1949، فلجأ إلى سورية بوعد من “حسني الزعيم” الذي كان الحاكم بأمره في دمشق، ألا يسلمه إلى لبنان. إلا أن العلاقة العضوية المتشابكة بين البلدين والاتفاقات المبرمة بينهما، وأكثرها غير مكتوب، دفعت بالحكومة السورية إلى تسليمه لحكومة لبنان التي أعدمته فورا.
استطرادا، يذكر في السياق السابق أن تسليم أنطون سعادة إلى لبنان ثم إعدامه، كان له دور هام بالانقلاب الذي قاده الزعيم “سامي الحناوي” ضد “حسني الزعيم” ثم إعدامه هو ورئيس وزرائه “محسن البرازي”. وقد ذُكِرَ – أثناء تنفيذ الإعدام “بالزعيم” في حقل رماية “عرطوز” جنوب العاصمة دمشق – أنه اقترب شخص من “حسني الزعيم” وأطلق عليه الرصاص من مسدسه قائلا له: “خذها من يد أنطون سعادة“.
على أن فصول هذه القضية لم تنته عند هذا الفصل. فيوم تم الانقلاب على سامي الحناوي، اعتقل ثم أفرج عنه ومنح راتبا تقاعديا، بشرط أن ينفي نفسه إلى بيروت. فتعقبه رجل من آل البرازي هو “حرشو البرازي” إلى بيروت وقتله، لينتهي فصل واحد من فصول العلاقة المحتدمة بين سورية ولبنان على مدار تاريخهما المعاصر المشترك.
قدمت هذه العجالة من تاريخ البلدين الشقيقين لأؤكد أن العلاقة بينهما كانت أكبر من الحدود التي تفصل بينهما، وأنها كانت قدَرَ البلدين. يبقى أن هذه العلاقة كانت محكومة باحترام كل قطر للقطر الآخر طيلة العهد الديمقراطي الذي عاشه القطر السوري – باستثناء عهد الوحدة 1958، 1961 – حيث انتهى عهد الديمقراطية في سورية بانقلاب 8 آذار 1963.
ويوم استولى “حافظ أسد” على السلطة تأكد له أن الحكم في سورية لن يخلص له، طالما أن الانفتاح قائم بين البلدين. وأن العلاقة الوطيدة بين سورية ولبنان سوف تسمح للمناوئين بأن يعملوا ضده انطلاقا من لبنان، وسيبقى الخطر على حكمه، ما لم يصبح أمر لبنان في يده.
وقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب مع الاقتتال الطائفي في لبنان في 13 نيسان 1975. حيث تأكد رجحان كفة الفلسطينيين وحلفائهم في لبنان على كفة الميليشيات المسيحية التي كان أقواها الميليشيا الكتائبية التي يقودها “بشير الجميل” بن “بيار الجميل” الزعيم الماروني المعروف. وقد فزعت إسرائيل من النجاحات التي حققها الزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” في تلك الحرب. وخشيت من تحول لبنان إلى دويلة يسيطر عليها الفلسطينيون والمسلمون السنة. وكان أن تحركت “واشنطن” وأعطت الضوء الأخضر للرئيس السوري، فبادر على الفور إلى إدخال قوات سورية إلى لبنان في صيف 1976 بحجة إنهاء الاقتتال الطائفي.
ودون الدخول في تفاصيل المرحلة التي أعقبت دخول الجيش السوري إلى لبنان، فقد أصبح “حافظ أسد” يشعر أن الحياة الديمقراطية في لبنان ستكون خطرا على حكمه وحكم الوريث من بعده. فعمل على ربط الحكم اللبناني كله بالمندوب السوري في “مجدل عنجر”، ما سمح له أن يحكم لبنان كله من قصر الرئاسة في المهاجرين بدمشق.
وقد اعتقد حافظ أسد أن استمرار الديمقراطية في لبنان مرض يعدي السوريين وأن عليه أن يحصن سورية من هذه العدوى. وهذا لن يكون إلا إذا ألغيت الديمقراطية في لبنان أو ضيِّق عليها إلى الحد الذي يجعلها شكلية كديمقراطية سورية في عهد البعث، لا ضرر منها، “لأن من يعيش بجوار الأعور عليه أن يقلع عينه“.
ومن هنا فقد شعر الرئيس “بشار أسد” بأن عليه أن لا يستجيب لدعوات اللبنانيين في رفض التمديد للرئيس “إميل لحود”، حتى ولو صنع الرئيس الجديد حسب المواصفات السورية. فقد اعتقد أن رفض التمديد سيكون بداية الانفلات من الوصاية السورية، وأن الإذعان لرغبات هؤلاء في عدم التمديد، قد يشجعهم على طلب المزيد، “وأول الرقص حنجلة“.
يعتقد كثيرون أن الرئيس بشار أسد لم يكن قارئا جيدا للسياسة الدولية كما كان أبوه من قبله. ولا أدل على صدق ما نقول، من أن حافظ أسد رمى خلف ظهره، كل الشعارات التي تغنى البعثيون بها طويلا بالعداء لواشنطن يوم شعر أنه يجب عليه أن يقف تحت راية واشنطن في حربها ضد العراق عام1991. وإلا فإن تحالفه مع واشنطن الذي تم عند دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 – وربما قبل ذلك – سوف يصبح في خبر كان، وربما ينقلب السحر على الساحر، وهو ما لم يفطن إليه الرئيس بشار أسد.
ا لم يدركه الحكم السوري الحالي، أن علاقته مع واشنطن لن تعود إلى ما كانت عليه قبل اغتيال الرئيس الشهيد “رفيق الحريري”. وما لم يدركه أيضا أن ما تفعله السعودية إلى لبنان حتى يتعافى من محنته، هو موقف مبدئي لا تريد منه الرياض جزاءً ولا شكوراً.
كما أن ما لم يدركه الحكم في دمشق أن عليه ألا يذهب بعيدا في العلاقة مع طهران فتصبح علاقته معها على حساب العلاقة مع العرب. وأن الشعب السوري يرفض ذلك، بل ويعتبره خطاً أحمر. فهل يدرك النظام السوري ذلك قبل فوات الأوان؟
* كاتب سوري
أخبار الشرق