لا عاصم من اعتقال المثقفين هناك في دمشق
ياسين الحاج صالح
(إلى فايز سارة)
أما كان أحرى اختيارها عاصمة لـ»الطبيعة» لا للثقافة العربية؟ أم لعل «الثقافة العربية» اسم آخر لـ»الطبيعة»؟
على سؤال كيف يمكن لدمشق أن تكون عاصمة للثقافة العربية عام 2008، بينما يعتقل مثقفون فيها، رد وزير الثقافة السوري: «أنا لا أعلم ذلك!!. أعلم أن هناك ناسا يحاكمون وهذا موضوع آخر، وهل توجد دولة في العالم ليس فيها سجون أو محاكم أو محاكمات؟!!، فهل علينا أن نتوقف عن الطعام والشراب وقراءة الأدب والفن حتى تنتهي المحاكمات، لا أظن أن أحدا يطلب ذلك».
حيال سؤال غير معتاد، اشتغل تفكير الوزير بطريقة فرويدية جدا: أولا، أنا لا أعلم؛ ثانيا، ليس هناك دولة ليس فيها سجون؛ ثالثا، هل نتوقف عن… حتى تنتهي المحاكمات؟ وهناك رابعا أيضا: «أنا على استعداد فيما إذا كان أحد القابعين في السجون لديه قصيدة جيدة، أنا على استعداد أن أنشرها له». وكان من سماه الوزير نفسه في جريدة محلية «عالم النفس الصهيوني»، المدعو فرويد، قد ضرب مثلا طريفا على منطق الإنكار الذي يعمل في خدمة اللاشعور ولا يبالي بالتناقض: استعارت امرأة من جارتها وعاء وأعادته مثقوبا، وحين انكشفت فعلتها بررتها بطريقة الوزير: أولا، أنا أعدت لك الوعاء سليما، ثانيا كان مثقوبا حين استعرته منك، ثالثا إني لم أستعر منك وعاء أصلا.
ويشارك السيد صابر فلحوط، نائب رئيس اتحاد الصحافيين العرب ورئيس اتحاد الصحافيين السوريين سابقا، وزير الثقافة اليقيـن بأنه «لا يوجد بلد على وجه هذا الكوكـــب لا يوجد فيه معتقلون، سواء سياسيين أو مجرمين أو جانحين». قبل أن يقترح، ثانيا، أن «هذه المواضيع [الكلام على معتقلين] تثار وفق المواسم، وعندما يريدون زيادة الضغط على سورية يصدر بيان من منظمة العفو الدولية». ثم ليضيف، ثالثا، أن «من يسمون بإعلان دمشق يغردون خارج السرب الوطني بشكل كامل، وبالتالي مسألة اعتقالهم ومساءلتهم وتقديمهم إلى القضاء أمر طبيعــي وبديهــي وهو من حقوق الدولة».
لم يتكرم السيد فلحوط بتعريف «السرب الوطني» أو يرشد إلى أصول «التغريد» فيه، أو يذكر شيئا عن حقوق رعايا «الدولة». غير أنه استطاع أن يزيد: «لا يوجد معتقل لا يقدم إلى القضاء خلال 48 ساعة، والقاضي يقرر إبقاءه في السجن أو إطلاق سراحه». وللأسف لم يشعر محاوره بحاجة إلى التساؤل عن سبب عدم تقديم معتقلي إعلان دمشق التسعة إلى القضاء، وقد تجاوز أمد اعتقال بعضهم إلى اليوم أزيد من عشرين ثمان وأربعين ساعة؟
ليست صورة «السرب» غريبة على الثقافة السياسية المقررة في سورية، الثقافة التي تنظر إلى المجتمع ككيان عضوي متجانس، أشبه بقبيلة أو «أوبة» (عشيرة في التركية، وتستخدم الكلمة بدلالة تبخيسية في حلب) كما كتب بكر صدقي في مقالة لامعة قبل حين (الحياة، 11/1/2008)، «أوبة» طبيعية يوجهها طبعها الأصيل، فلا تفسدها ثقافة ولا يحرفها عن «ثوابتها» اصطناع وتاريخ. وهي «تغرد» سعيدة، خالية البال، بريئة من أي خصام أو منازعة في دوحتها الفيحاء.
وينضبط السرب بغريزة لا تخطئ، تسوقه إلى الوقوف «صفا واحد خلف القيادة التاريخية الحكيمة» حسب تعريف معياريّ لـ«الوحدة الوطنية». أما «التغريد» خارج «السرب الوطني»، أو الوقوف خارج «الصف»، فهو خروج على هذه الغريزة التي قد تسمى أصالة أو هوية. ولما كان هذا أمرا شاذا، واعتداء على «حقوق الدولة»، ساغ أن يكون جزاؤه النبذ والاعتقال.
وفي مملكة الطبيعة والأصالة والثوابت والغريزة هذه، هل من مكان للثقافة؟ لا يخفى أن هذه نقيض الطبائع، وأنها عالم الشذوذ والاصطناع والاختلاف والتهجين والخروج من الأسراب وعليها والتمرد و»الخيانة»، والنقيض التام للتغريد العذب الجميل. فحيث الثوابت والطبيعة والأصول والهوية.،. والأسراب والتغريد، تحتضر الثقافة، الأمر الذي يمكن التمثيل عليه بصورة كافية باستذكار أيام عز كل من السيدين فلحوط وعلي عقلة عرسان في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، حين كانت الصحافة تغريدا خالصا، والثقافة ثوابت وأصالة وهوية، و»الفكر» مقالات تقول الشيء نفسه مئات المرات ضد… «التطبيع».
ما الذي يقحم الثقافة في هذه الخميلة الغناء؟ أما كان أحرى اختيار دمشق عاصمة لـ»الطبيعة» لا للثقافة العربية؟ أم لعل «الثقافة العربية» اسم آخر لـ»الطبيعة»؟ الواقع أن هذه هي بالضبط المعادلة التي يراد للثقافة في سورية أن تنتظم حولها: ثقافة هوية وثوابت لا ثقافة اختلاف وتجدد، ثقافة أصالة وآباء لا ثقافة أبناء وتهجين، وبالطبع ثقافة «القصائد الجيدة» لا النثر السيئ… تعريفا.
ومن أجل ثقافة كهذه يتعين أن تكون أسماء المحال التجارية والفنادق والمطاعم بالعربية الفصحى وحدها، وأن ينفذ ذلك بأسلوب أوامري ودونما نقاش. وهذه هي المرة الثالثة إن لم تخنّي الذاكرة التي يصدر فيها قرار بيروقراطي بهذا المعنى منذ سبعينات القرن العشرين، وتجري متابعته أسابيع أو شهورا، قبل أن ينساه من أصدروه، ويعود الناس إلى إطلاق أسماء أجنبية على منتجاتهم ومحلاتهم تستجيب لنازع التنفج (سنوبيزم) عند المستهلكين.
هنا أيضا ثمة أولوية الطبيعة والهوية والأصل والثوابت والسرب على التهجين والاختلاط وتعدد الأصوات والألسنة.
والحال، ليس هناك أي خطأ في أن تحتل اللغة القومية موقع السيادة الرمزية في أي بلد. لكن هذا لا يتأتى بوسائل بيروقراطية سبق تجريبها غير مرة، ولم تثمر. ولا مجال لمناقشة جدية في هذا المقام لسبل ترقية السيادة الرمزية للغة العربية، لكن لا ريب أنه ليس من بينها توسل التعريب أداتيا وموسميا لأغراض الدعاية السياسية ودغدغة المشاعر السربية أو «الأوبوية». فلا شيء يسيء للعربية، وهي أساس إجماع محتمل في البلد، من تسييسها، أي زجها في حلبة الاختلاف والتنازع والمزايدة السياسية. هذا باب بهدلتها، لا باب تشريفها.
والواقع أن المشهد الرمزي كما تعكسه أسماء المحلات والمطاعم والإعلانات التجارية… فوضوي وقبيح في سورية فعلا، لكنه ليس أشد قبحا من المشهد القانوني (وليسمح لنا السيد فلحوط بنسيان ساعاته الثمانية والأربعين) أو الاقتصادي أو السياسي، أو الديني. وأن تتولى شركة إيطالية إدارة الطقس الاحتفالي التدشيني لعاصمة الثقافة العربية لأمر يشير إلى أن نوبة التعريب الراهنة (نتوقع أن تكون أقصر عمرا من سابقاتها) عنصر من عناصر الفوضى وليس بندا في خطة ضدها.
ما الذي يوحد بين اعتقال مثقفين وإرادة طمس أسماء أجنبية لمتاجر ومطاعم (بقدر ما أتبين، فإن العملية جزئية جدا، ولعلها أصابت فقط بعض صغار أصحاب المتاجر… حتى الآن على الأقل)؟ العودة إلى «الطبيعة»، إلى السرب والأصل والثوابت والهوية. لا يطعن في ذلك أن «الطبيعة» تلك، مصنوعة لأغراض سياسية تناسب نمط ممارسة السلطة الجاري في البلد. فهويتنا وثقافتنا الأصيلة (التي لا تتوافق مع الديموقراطية مثلا) وثوابتنا الوطنية والقومية، هي الطبائع البسيطة المناسبة لتحجيب سيطرة سياسية يشغل الإكراه موقعا بارزا فيها، كما يشهد اعتقال أكرم البني وعلي العبدالله وفايز سارة وزملائهم من قبل.
الحياة – 20/01/08