الفاشية ـ الفوضوية: الثلة والحثالة
وسام سعادة
المنظمات الفاشية تقدّس العنف. «القمع المتمادي» هو الاسم الجامع لأشكال العنف في ظل الفاشية.
الشراذم الفوضوية تقدّس العنف. «مقاومة القمع» هو الاسم الحركي لأشكال تصريف هذه الشراذم لمخزونها العنفي.
تقدّم الفاشية نفسها كأبعد نقطة ممكنة عن الفوضوية، سواء من حيث التفكير أو من حيث الممارسة.
بدورها تقدّم الفوضوية نفسها كألد أعداء الفاشية دون منازع. يرى الفوضويون طرف فاشية في كل ما عداهم. في عرفهم أن الماركسيين فاشيون، والليبراليين فاشيون، تماماً مثلما يرى الفاشيون شبهة فوضوية في كل الظواهر التي يحاربونها.
الا أن كل ذلك غير كاف للقول بأن الفاشية والفوضوية ضدان لا يجتمعان. فحين ينعقد التقديس الأيديولوجي للعنف كآلية جامعة، تغدو الحدود اعتبارية تماماً، بل ولفظية مائعة، بين ما هو «قمع» فاشي فخور بصفته تلك، وبين ما هو «مقاومة للقمع»، على الطريقة الفوضوية.
وإذا ما نحينا الحركة المعروفة تاريخياً بـ«الفوضوية النقابية» جانباً، ويضاف اليها محاولات التعشيق غير المجدية بين الفوضوية والماركسية، يمكن القول، بلا التباس، بأن ثمة محدّدات شعبوية مشتركة لازدهار كل من الفاشية والفوضوية، بل ثمة آلية لاختلاطهما، وتمازجهما.
فاذا ما رد كارل ماركس النموذج الفوضوي لرمز المزايدات ميخائيل باكونين، الى أحد انعكاسات الثقافة الاستبدادية القيصرية، فان أوكرانيا الحرب الأهلية لم تكذب خبراً: كانت حركة ماخنو الفلاحية فاشية وفوضوية بامتياز. شكّلت المهد لظاهرة يمكن الاصطلاح على تسميتها بـ«الفاشية الفوضوية»، وهذه الظاهرة هي التي تمثل نموذجاً للتحديات الراهنة التي قد تُختصر أمنياً تحت عنوان «مكافحة الإرهاب».
فالفاشية والفوضوية ثمرتان غير شرعيتين للحداثة. ما يحدث في بعض المجتمعات المُدَاهَمة بالتحديث والمأزومة بسبب عدم قدرتها على السير بتصميم في اتجاهه، هو أن شرائح منها تجد سهولة في الغرف والجمع بين المؤثرات الفاشية والفوضوية الآتية من الحداثة. انها الحداثة السهلة والملحمية في آن. بها تمكن الممانعة أمام الحداثة الصعبة والواقعية.
تتكشّف هذه الفاشية ـ الفوضوية كحالة هستيرية في مواجهة كل من الإرثين الليبرالي والماركسي، وبدعوى التواطؤ «الاستشراقي» بين هذين الإرثين في مواجهة «معذبي الأرض». هجاء الاستشراق هو الركيزة النظرية للأدب السجالي الفاشي ـ الفوضوي الذي لا يتجاوز المشاغبة الهزلية على تاريخ غربي كامل من نظريات المعرفة. لا يُقرأ التاريخ عند الفاشيين ـ الفوضويين الا من زاوية تحاكي تباهي ميشال فوكو بالثورة الدينية الأصولية وقد عدّها استمراراً للثورة الجنسية الشبابية، وتطوّع نعوم تشومسكي لتبييض صفحات نظام «الخمير الحمر» (وهم نموذج ممكن لأي مجتمع يخضع لسيطرة الفاشيين ـ الفوضويين).
تتعامل الفاشية ـ الفوضوية مع شعوب العالم الثالث ببهلوانية لا آخر لها. على هواها تصنف هذه الشعوب. تنكر قضايا وتتبنى أخرى. لبنان لا يعجبها. هو كيان مصطنع. لكن ماذا عن الكيانات الأخرى والشعوب الكيانية الأخرى؟ هي كلها قائمة في عرف الفاشيين ـ الفوضويين مذ قام تاريخ. لبنان لا يعجب الفاشيين ـ الفوضويين، مرة مدان لأنه كيان ذي طابع فاشي، ومرة لأنه كيان قائم على الفوضى وجالب للفوضى. لبنان طائفي، والفاشيون ـ الفوضويون يحاربون الطائفية. يحاربونها، لكن من موقع أن ثمة طائفة طائفية، وطائفة غير طائفية. ثمة طائفة ثورية أو حميدة، وثمة طائفة رجعية أو خبيثة. ينبغي اذا خوض الصراع ضد الطائفة الأكثر طائفية من موقع الطائفة الأقل طائفية. واذاك يصير صراعاً طبقياً ووطنياً تحرّرياً، ويكتسب مزايا أممية بمجرّد رفع بيارق فنزويلا ولاووس وقطر.
تتترّس الفاشية ـ الفوضوية وراء «الفلسطينيين». هي تريدهم أن يموتوا كلّهم كي ينتصر التحليل الأكاديمي الثوري على التحليل الأكاديمي الرجعي في الجامعات النائية عبر العالم. هي لا تعرف الفلسطينيين الذين من لحم ودم، والذين سئموا وضجروا. هي لا تعرف الملايين العربية التي سئمت وضجرت. تحسب الفاشية ـ الفوضوية أن بضعة آلاف من الهتافين الذين عبرنا بهم عقوداً عجافاً مديدة منذ الانقلابات العسكرية الى اليوم، هم الجماهير.
ليست مشكلة التنوير منذ قرن ونيف والى اليوم هي مشكلة التضاد بين النخب والشعوب. وانما هي مشكلة على هامش الشعوب. هي مشكلة بين «ثلة التنوير» الممتدة من أحمد لطفي السيد والى يومنا هذا، وبين «حثالة الفاشية الفوضوية». الثلة تطالب بأنصار للتنوير مغيبين في السجون. أما الحثالة فتطالب الثلة بأن تبدل المطالبة بأخرى، من مثل المطالبة بتحرير من هم في غوانتانامو. ولكن هل من في غوانتانامو هم طلاب المادية التاريخية؟ ما هو اسم النظام العربي الوحيد الذي ما زال يحبس طلاباً أو طلاباً سابقين للمادية التاريخية؟
الاجابة لا تدور في بال الفاشية الفوضوية. بوجه الفاشية الفوضوية لا يجد الماركسيون الحقيقيون أي حرج في الانخراط العضوي في «المشروع الليبرالي»، ولا يتميزون عن الليبراليين الآخرين الا من حيث مقاربة كلية للمشروع في تاريخيته وفي حدوده كما تظهر في كل بلد، وعند كل منعطف. ولأجل ذلك بالتحديد، وبما أن الخطر فاشي وفوضوي في آن، فلا يجد هؤلاء الماركسيون من حرج في أن يكونوا أقصى يسار المشروع الليبرالي وأقصى يمينه، لأن التهديد يطال هذا المشروع من على يمينه ومن على يساره.