صفحات الناس

جريمة الشرف: قتل علني للأنثى تحت أنظار القانون وبموافقته!

null

منى أسعد

أعلن منذ 1/9/1949 المباشرة بتطبيق قانون العقوبات السوري. واليوم تكاد تفصلنا عن ذلك التاريخ ستة عقود تقريبا، شهد المجتمع السوري خلالها تطورات كبيرةً شملت كافة مجالات الحياة،
من اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية… الخ. وكان من المفترض أن يواكب هذه التطورات تطور مماثل في بنية القوانين والتشريعات، بما يضمن تحقيق غاية المشرع في إحقاق العدالة وتكريس الإنصاف بين الناس، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو المعتقد. وبشكل يحقق إحدى أهم وظائف الدولة الحديثة، ألا وهي إقامة العدل بين الناس بصورة يتمكن معها كل ذي حق من الوصول إلى حقه، فلا يجعل من نفسه حكماً بينه وبين خصومه، ولا يسعى إلى أخذ ما يدعي لنفسه وبيده، حتى لا تكون الغلبة للقوة.

وحدث بعد قرابة ربع قرن وتحديداً عام 1973، أن أُقر الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية، الذي كفلت مواده – خاصة المواد (25و26و27و44و45)- لجميع المواطنين المساواة التامة في الحقوق والواجبات، مع ضمان حق كل مواطن في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما كفلت نصوص الدستور للمرأة السورية جميع الفرص للمساهمة الفعالة في كل الميادين، وأكدت نصوصه أيضاً، على واجب الدولة في العمل على إزالة القيود التي تمنع تطور مشاركة المرأة في بناء المجتمع.

إلا أن ما تضمنته هذه النصوص الدستورية من إيجابية في التعامل مع المرأة وحقوقها، لم تحل دون وجود ما يناقضها تناقضاً كلياً في قانون العقوبات، وعلى وجه التحديد، عقوبة ما يسمى “بجرائم الشرف”، بالرغم من أن صريح المادة (153) من الدستور ينص على ” أن تُعدّل التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان الدستور بما يتوافق مع أحكامه”. إذ لم يطرأ – حتى الآن- أي تعديل على مواد قانون العقوبات وخاصة تلك المواد التمييزية المتعلقة بالأنثى والأسرة، والتي وصل بعضها حد انتهاك حق الأنثى بالحياة والبقاء، رغم مخالفة هذه المواد الصريحة لمبادئ الدستور السوري ومقررات حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية الخاصة بالطفل والمرأة.

أهم هذه النصوص: المادة (548) التي تندرج تحتها جرائم الشرف والتي تنص على:

1- يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد.

2- يستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر.

تؤيد هذه المادة كل من المواد (192) و(242) من القانون ذاته، والتي عكست بمجموعها رغبة المشرّع في تأمين مزيد من الحماية للقاتل، بحيث تصل عقوبته وفق أحكام المادة (192) حد الحبس البسيط جداً، إذا أثبت أن القتل تمّ بذريعة الدفاع عن الشرف.

أما المادة (242) فتعطي القاضي حق تخفيض عقوبة القاتل إلى الحبس من ستة أشهر إلى سنتين، إذا أثبت أنه ارتكب جريمته تحت تأثير ثورة غضب شديد.

و”جرائم الشرف” في القانون هي “جرائم القتل أو الإيذاء التي يرتكبها أشخاص بحق الإناث القريبات لهم لارتكابهن الزنا أو إقامتهن للصلات غير المشروعة مع الغير أو لمجرد الشبهة“.

وعلى هذا المنوال جاءت اجتهادات محكمة النقض السورية والتي تعتبر مصدراً قانونياً بعد النص القانوني، لتوسع دائرة الحماية بالنسبة للأشخاص الذين ارتكبوا “جرائم الشرف” إذ امتدت لتشمل الأقارب وأولاد الأقارب. فالقاعدة / 1308 / تقول: (الدافع الشريف يستفيد منه المتدخل في الجريمة إذا كان قريباً سواء من جهة العصبات أو من جهة الأصهار وإن لم يكن من المحارم).

كما جاءت هذه الاجتهادات لتكرس العادات والتقاليد الموروثة والبالية والقاصرة عن ركاب العصر وتطوراته، حين أكدت على أن غسل العار لا يكون ولا يزول إلا بقتل المرأة، حيث نصت القاعدة / 541 / على ما يلي:

( إن العادات والتقاليد والحياة الاجتماعية في الريف تنبذ فعل الزنا، ويُعتبر كل فعل من هذا القبيل تقدم عليه المرأة تسبب فيه إلى عائلتها ذلاً وانكساراً وعاراً أمام الآخرين، وأن هذا العار لا يزول إلا بقتل المرأة التي سببته للعائلة حسب الاعتقاد السائد في المجتمع ).

إن قراءة بسيطة لما ورد في تعريف القانون “لجرائم الشرف”، بالإضافة لهذه النصوص والاجتهادات تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، رغبة المشرّع ليس فقط في تأمين الحماية القانونية للجاني وإعفائه من العقاب أو منحه العذر المخفف، بل أيضاً في تشريع هذا النوع من الجرائم واعتباره الرد الطبيعي والأمثل لإقدام الإناث على إقامة علاقات أو صلات غير مشروعة مع الغير أو لمجرد الشبهة أو الريبة.

هذا أمراً يدعو للدهشة، إذ كيف يُعقل أن يجيز المشرع القتل لمجرد الشبهة أو الريبة، خاصة وأن مصطلح “الشبهة أو الريبة” مصطلح فضفاض لا معيار له ويصعب تحديده، قد يصل بالبعض إلى ارتكاب القتل لمجرد الشك أو حتى لمجرد ثرثرة كيدية. وكيف يُعقل أن يجيز المشرع حق القاتل بأن يكون الخصم والحكم والمنفذ للعقوبة بآن معاً؟ وكيف يعقل أن يجيز المشرع أن يحكم امرؤ على آخر بعقوبة القتل دون أن يُسمح للأخير حتى بالدفاع عن نفسه؟ وأخيراً كيف للمشرع أن يوافق وأن يساهم في إفساح المجال للإساءة للأنثى وأذيتها وحتى قتلها رغم أن ذلك يشجع على الإجرام والقتل لغايات أخرى بعيدة كل البعد عن الشرف، وإن كانت تظهر للعلن على أنها جريمة شرف.

لا شك أن هذه النصوص والاجتهادات التي تبيح للرجل قتل الأنثى، قد صيغت استناداً إلى أعذار وهمية، لكنها أرست قيم فكرية واجتماعية متخلفة بات من الضروري تجاوزها. كذلك وهو الأهم، فإن إباحة القتل بذريعة (الدافع الشريف) يعني إعمال مبدأ استيفاء الحق بالذات، وهو المبدأ ذاته الذي رفضه المشرع عندما صاغ مواد قانون العقوبات لما فيه من مجافاة للعدالة، وتكريس لمبدأ القوة والتسلط، بدلاً من مبادئ العدالة والقانون.

تشير بعض الإحصائيات، رغم عدم دقتها بسبب التكتم الذي يحيط بهذا النوع من الجرائم، أن عدد الجرائم التي تقع لدينا بدافع الشرف تقارب (300) جريمة سنوياً، معظمها في المجتمعات الريفية. مع أن البعض يرى أن عدد ضحايا هذه الجريمة أكبر من ذلك بكثير، إذ جاء في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة “أن سوريا تصنف بين أكثر خمس دول في العالم ترتكب فيها جرائم الشرف، وتكون ضحيتها المرأة“.

هذا التصنيف دفع بالكثير من العاملين في القانون ورجالات الدين إلى المطالبة بنبذ القتل ورفع الحماية القانونية عن الفاعل، واعتبار فعله جرماً جنائياً يستوجب العقاب. وعلى ذلك أكد مفتي سوريا السيد أحمد بدر الدين حسون عندما طالب بتعديل المواد المتعلقة بجرائم الشرف في القانون السوري معتبراً أن “الشرف قيم وأخلاق وليس دعوة إلى القتل“.

وعليه فإن النصوص القانونية آنفة الذكر، كذلك الاجتهادات الصادرة عن محكمة النقض السورية، جميعها نصوص غير دستورية، ليس لتعارضها مع نصوص الدستور السوري فقط، بل ولتعارضها أيضاً مع المواثيق الدولية التي وقعتها وصادقت عليها الجمهورية العربية السورية، بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ولا سيما المادة الثالثـة والمادة الرابعة عشرة منه، ومع إعلان بكين 1995، ولتعارضها أيضاً مع روح ومضمون وأهداف اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة- وعلى وجه الخصوص المواد الأولى والثانية والثالثة منها- والمعروف أن المصادَقة على أي اتفاقية دولية تجعل من نصوص الاتفاقية أعلى مرتبة من نصوص القوانين الوطنية للدولة المصادِقة، ولابد لهذه الأخيرة من مطابقة قوانينها وتكييفها مع الاتفاقية الدولية، وإزالة التعارض بينهما إن وجد، سنداً للمادة (25) من القانون المدني السوري.

وأخيراً لا بد من القول إن إزهاق الروح يُعتبر في كافة الديانات السماوية والقوانين الوضعية والأعراف جريمة تستوجب العقاب، كذلك فإن احترام الدستور باعتباره أب القوانين والناظم لها، يفترض إعمال المادة (153) منه وإزالة أي تناقض في التشريعات الصادرة قبله بما يتفق وأحكامه. الأمر الذي يُفترض معه إحداث تغيير جذري ليس في قانون العقوبات فحسب، بل في جميع النصوص القانونية التي تبيح العنف ضد المرأة. إذ كفانا (35) سنة تعطيلا للنص الدستوري، وكفانا ما قدمه المجتمع لهذه النصوص من أضاحي، ويبقى السؤال إلى متى سنبقى رهن أهواء المشرع ورغباته؟!

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى