كتابة غائبة
<
أمجد ناصر
عرفت الكتابة الصحافية العربية طرفا من الريبورتاج الأدبي سميناه التحقيق الصحافي ولكنها لم تعرف جنسا أدبيا أو صحافيا يعتد به علي هذا الصعيد. هناك فارق ضوئي بين الصحافة العربية والصحافة الغربية. ليست كلمة السر في القدرات المالية الضخمة للأخيرة. هذا عامل مهم جدا. السوق عامل آخر لا تقوم الصحافة من دونه ولا تتطور. لكن الحرية قبل هذا وذاك.
وبهذا المعني فإن الفارق بين صحافتنا وصحافة الغرب هو فارق في الحياة نفسها، نوعيتها، أفقها ومداها. فعندما تضيق حدود الحياة ويصبح الممنوع اكثر من المسموح تنمسخ أنشطة الناس وفعاليتهم وتتحول، في أفضل الاحوال، عملا لسد الحاجات الاولي. الحضارة هي، كما نعرف، الخطوة الثانية والثالثة والرابعة (الي ما لا نهاية) بعد الحاجة. قد يكون عملي هو الذي جعلني اهتم بما يسمي الريبورتاج الأدبي وقد تكون رغبتي في توسيع حدود المادة الصحافية وفتحها علي آليات الكتابة الأدبية. شاركت، في هذا الاطار، بأكثر من لجنة تحكيم أهمها، كما كتبت من قبل، جائزة يوليسس الألمانية المرموقة. أحزنني أن صحفنا العربية (وبعضها يمتلك قدرات مالية هائلة) لا تستطيع إرسال كاتب الي بؤرة توتر، أو منطقة صراع، كي يكتب لها من هناك. معظم صحافتنا العربية يكتفي بما تجود به عليه الوكالات، وبعض الترجمات من الصحافة الاجنبية. يمكن للغارديان، مثلا، ان ترسل صحافيا الي بغداد لمدة شهرين، أو ثلاثة، كي يكتب اليها حلقتين او ثلاثاً عما تشهده أرض العراق من دم وموت. ويمكن للنيويورك تايمز أن تفرغ كاتبا، أو أكثر، لمرافقة القوات الامريكية في مهامها من دون أن يتحول بوقا لها، أو الاقتراب، ما أمكن، من جماعات المقاومة للوقوف علي بيانها السياسي والايديولوجي. الذين كشفوا فظائع سجن أبو غريب، مجزرة حديثة، فضيحة اغتصاب عبير الجنابي، شركة بلاك ووتر، دور هالبيرتون، وغير ذلك من انتهاكات بحق العراقيين لم يكونوا، للأسف، صحافيين عربا بل امريكيين او بريطانيين. تابعوا جوائز بوليتزر الامريكية الرصينة للصحافة. الموضوعات التي فازت بجوائزها هي من أمكنة مثل بغداد، البلقان، الشيشان، صراعات افريقيا، اضافة، بطبيعة الحال، للشأن الامريكي المحلي سواء كان في السياسة او الاقتصاد او الحياة الاجتماعية. لا يتعلق الامر بمقال هنا أو مقال هناك، بل بجهد صحافي عياني، ومعلومات موثقة، مكتوب بلغة أعلي قليلا من لغة التقرير الصحافي تتحول كتابا. أين هي الكتب العربية المكتوبة عن دورات الدم والموت والتهجير في العراق؟ أين هي الكتب العربية التي ترصد الحياة الفلسطينية العسيرة تحت الاحتلال والحصار الخانق؟ هل هناك كتاب عربي واحد عما جري، ويجري، في غزة المقذوفة خارج التاريخ والجغرافيا؟ لا اظن انه يوجد كتاب كهذا. هناك في فلسطين والعراق كتابة أدبية. هذا لا شك فيه، ولكنها كتابة لا تخوض في بؤس الحياة وامواج الدم وعنف الاقتلاع والتهجير. هناك، بالتأكيد، قصائد، قصص، ولكن ليس هناك سرد أدبي، أو صحافي، يمسك بعصب اللحظة الراهنة ويكشف عن بواطن العنف والدم والفساد. لا أرجع هذا الغياب لقصور في الثقافة العراقية أو الفلسطينية في أن تري، تشهد، وتسجل، فالثقافة التي انتجت ريادات شعرية وتشكيلية، وأعمالا ملحمية ورؤيوية أو تهكمية جارحة انخرطت في اعادة صياغة رواية الصراع، في المثال الفلسطيني، لا يمكن وصفها بقصر النظر، ولكن لعل السبب يكمن في اشتباك الفلسطينيين والعراقيين اليومي والمباشر مع الاحتلال، وانعدام المسافة، اللازمة ربما، لكتابة تنطوي علي قدر ما من الحيدة مثل الريبورتاج الأدبي ، أو ببساطة الي عدم وجود تقاليد لهذا الفن الكتابي المتصل اتصالا وثيقا بالواقع، وغياب المنابر الصحافية التي ترعاه وتحض عليه.
ولعل كل واقع (مثل العراق وفلسطين) يحتاج إلي عين أخري ليست مشبعة بـ الألفة حيال مشهدها اليومي لتكتبه، أو الي عين محلية تنفض عنها ظلال الألفة الخادعة التي تحوِّل خوارق الحياة اليومية الي وقائع بليدة.
حتي الاحتلال، بكل هتكه وعنفه، يمكن أن يتحول إلي ألفة و اعتياد قد لا تري فيهما كتابة الواقعين تحته جديداً.
ليس الريبورتاج الأدبي ابنا للأزمات الكبري كالحروب. ولا هو سرد للثورات والاضطرابات السياسية فقط، بل قد يكون كتابة تغوص في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وتعالقاتها الانسانية. إنه ليس تابعا للحدث، بالمعني المشار اليه، بل قد يكون صانع الحدث، كاشف الغطاء عن الرداءة والتحلل الاجتماعي والانساني، وبهذا المعني يمكن لمقابر القاهرة، التي تحولت من مثوي أبدي للأموات الي أحياء شعبية يعيش فيها ملايين الناس (يحبون ويتزوجون ويبيعون ويشترون كما هو الحال في أمكنة الحياة الأخري) أن تكون موضوعا مثاليا للريبورتاج الأدبي، مثلما يمكن لظاهرة العمالة الآسيوية الكاسحة في الخليج العربي أن تنتج ريبورتاجات مفزعة عن بلاد تحيا بعضلات عمال أجانب يعيشون بأقل قدر ممكن من الحقوق الانسانية، فضلا عن تغييرها شكل وحياة المجتمعات المحلية التي يعمل فيها ملايين المسحوقين القادمين من شبه القارة الهندية، كما يمكن للريبورتاج أن يكون صوتا للصراعات التي تعيشها المدينة العربية بين فئات قليلة تستأثر بالخير العام وطبقات واسعة من البشر تكدح في سبيل حياة كريمة، بين الابراج الزجاجية اللامعة والمولات الحديثة وبين الاحياء العشوائية ومدن الصفيح التي يعشش فيها الفقر والغضب فتتحول الي حاضنة للتطرف والانتحار.. وكره الحياة.
لا حدود للريبورتاج الأدبي. لا أرض له. لا سماء. كما أن لا شكل له. لا وصفة جاهزة. إنه فضول الصحافي، أو الكاتب، لكشف أقنعة الواقع المخاتلة. لمعرفة جذور الأزمات. للسعي وراء الحقيقة أيا كانت النتائج والعواقب. إنه شبق اللغة والمعرفة لتوسيع حدود ادركنا لواقع انساني نعتبره، رغم شذوذه وفنتازيته أحيانا، مسلما به. لا جديد فيه. فهناك دائما جديد تحت شمس الواقع، وفي أرض البشر.
لكن الريبورتاج الأدبي ليس هو، بالضبط، ما تسميه الكتابة العربية اليوم أدب الرحلة . علي الأقل ليس كما هو شائع من أدب الرحلة الذي يكتفي بوصف الأمكنة وحياة الناس، وينتشي باغواء البيان اللغوي، ويركز علي ما هو غريب أو غير مألوف خصوصا عندما يتعلق الأمر بأمم غيرنا وأمكنة غير أمكنتنا. فذلك عمل أقرب الي السياحة منه الي التحقيق، لا يتورط في السؤال السياسي والاجتماعي. لا يتغلغل في ما وراء سطح المكان ليكشف لنا عما يفتعل في قلبه من صراعات، وما تحتدم فيه من قضايا. أدب الرحلة ، بهذا المعني، يختلف عن الريبورتاج الأدبي حتي وإن ارتدي قناعه اللغوي والاجرائي. الريبورتاج الأدبي عمل مسكون بالكشف. متورط في البحث عن الحقيقة. يضع يده في أعشاش الدبابير ولا يخشي اللسعات. يكسر التابو السياسي أو الاجتماعي، ولا يطمئن الي المدونة الرسمية والمعطيات التي توفرها السلطة السائدة.
إنه كتابة الواقع، الشغف بالحقيقة، المسؤولية الأدبية والأخلاقية عما يعرفه عالمنا من عسف وتعفن وتحلل واستئثار شره بالخير العام، واحتكار فظ للسلطة وأسباب القوة.