صفحات ثقافية

التحْديثُ وانعدَامُ الوَفاء

null
محمد بنيـس
يلازمُ المثقفون المعنيون بالتحديث في العالم العربي ملاحظة ما يطرأ من إخفاق في حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية. ما يلاحظون اليومَ، بطريقـتهم، كانت ملاحظته بدأت مع نهاية الثمانينيات، وخاصة بعد حرب الخليج الأولى. كان ذلك متزامناً مع سقوط سور برلين ونهاية الاتحاد السوفياتي ومعه الشيوعية التي كانت نظامَه السياسي. وجاءت هزيمة العراق واتفاقيات أوسلو، ثم العولمة المدافعة عن المصلحة والامتياز. وقائع تبدو لنا، اليوم، بعيدة. وأبعد منها ما كانت عليه حالُ قيم التحديث، التي برزت مع فكرة الحداثة لدى العرب، في القرن التاسع عشر.
نحن، اليوم، في عالم آخر، وقيم أخرى. هناك من يقولُ إن ذلك زمنهم وهذا زمنُنا. ولكل زمن أهله وأفكاره واختياراته. جوابٌ لا نستطيع الرد عليه، عندما نتخلى عن المعرفة. جوابٌ يتردد في حياتنا العامة، لكنه يتخذ معنى خاصاً وخطيراً في حياتنا الثقافية. وأول شكل أرى أنه يتخذه هو تبرير انعدام الوفاء لفكرة الحداثة.
ثقافة الوفاء كانت حاضرة في الثقافة العربية، منذ الجاهلية. وبها تأسست الحضارات، قديماً وحديثاً. بالوفاء تأسست الأفكار والمذاهب والتيارات والسلوكات، في العلوم والآداب والفنون والعلاقات الإنسانية على السواء. أقصد بالوفاء إبداعَ المرجعيات النموذجية التي تقوم عليها المعارف والتجارب.
وفاءٌ هو التشبث بكل فعل يهدف إلى مصاحبة الحقيقة في سيرورتها، أي ربط المعلوم فيها بالمجهول. بالوفاء لهذه السيرورة، التي تنقل الوقائعَ والأفعالَ من حالتها اليومية إلى حالتها التاريخية، النموذجية، أو ‘الحدث’ بلغة ألن بَادْيُــو، استطاعت نخبة مثقفـــة عبر العالم العــربي أن تأتي بلغة جديدة، وبمنظور جديد لما كنا عليه وما كانت مجتمعاتنا تحلم أن تسير نحوه.
أقتصرُ على المثقفين، الذين شكلوا نخبة التحديث (لا التقليد) في بداية القرن العشرين. لم يكنْ لعمل هذه النخبة ولا لمشروعها ارتباطٌ بأي سلطة منافية لإبدال الرؤية والفعل، وفق طرائق مبدعة. أي لا منفعة ولا امتياز يتعارض مع ما تسعى إليه.
عدم ارتباط تلك النخبة بأي منفعة ولا امتياز من هذا القبيل هو ما سمح لها ببناء مشروع تحديثي. وذلك ما يسمح لنا اليوم أن نقيس، من جهتنا، ما هي عليه اليوم ثقافتنا ومثقفونا بما كانت عليه تلك النخبة وثقافتها. هل في رؤية كهذه نكوص؟ لا، أقول.
النكوص هو ما نعيشه اليوم، حيث طغى تفضيلُ المنفعة والامتياز على الوفاء لفكرة التحديث ولقيمها وطبيعة العلاقات الإنسانية التي تطلبتها بين الأفراد. لننظرْ إلى خريطة الثقافة العربية والعلاقات بين المثقفين وممارسة المؤسسات الثقافية، عبر جميع البلاد. أليس هناك ما يدعو لليأس من مستقبل فكرة التحديث ومن غالبية النخبة المثقفة ومؤسساتها التي تدّعي حمل مشعل التحديث؟
‘مشعل التحديث’ استعارة متهالكة. هذا ملموس. لكن التهالك، هنا، لا يدل على ما آلت إليه فكرة الشعلة، بل على الضربات المُنهكة التي سُددت لها، من طرف أصحاب تفضيل الامتياز والمنفعة. أما المعرفة التي لا تتنازل عن الحقيقة فهي مشعل لا يخبو وهجه.
ضربات لها تسمياتُ العالم التي تبدّل ولم يعدْ يتحمّل الكَلام لا عن المعرفة ولا عن الحقيقة ولا عن التحديث. وعدم تحمّل كلام كهذا هو ما جعل الوفاءَ ينعدم في حياتنا الثقافية.
ليس التباكي ما يعنيني، ولا هو أفضلية الشاعر الحديث. أبداً. لنا أن نذهب رأساً إلى الأفكار، في تاريخيتها ونقدها. هذا ما ينفع. لأن أكبر ضربة تسدد إلى ‘مشعل التحديث’ هي التي تصيب المقاومين من أجل إبداعية الفكرة. وما زالت في العالم العربي فئة تؤمن بالفكرة وتقاوم من أجلها. والذهاب إلى الأفكار يدلنا على أن ما يحصل، منذ حرب الخليج الأولى، هو التخلي عن الوفاء في لحظة الامتحان، امتحان المثقف، وهو يقف وجهاً لوجه أمام المنفعة والامتياز فيفضلهما على حساب ما كان يؤمن به وما كان عليه سلوكه. في لحظة الامتحان، لحظة افتراض النطق بلا النافية التي تتردد أصداؤها عبر التاريخ، يتخلى المثقف طواعية، وفي مشهد من مشاهد العبودية، عن الوفاء لحركية نقل الوقائع والأفعال من حالتها اليومية، الاعتيادية، إلى حالتها التاريخية، الإبداعية، النموذجية، أي إلى ما يجب أن يكون عليه موقفه من الاستمرار، بإبداعية، في الذي كان عليه أجدادٌ كبار، مثل المتنبي أو أبي حيان التوحيدي أو ابن رشد، على سبيل المثال. لتذهب الحقيقة إلى الجحيم، يقول هذا المثقف المتساقط في نفسه أولاً، ثم يجهر برأيه لاحقاً، بل يشجع عليه، بل يسخر ممن لا يزال متشبثاً بالحقيقة وبإبداعية العلاقة مع الأجداد الكبار، بل يحاكمه ويعلن إعدامه.
هل هناك تسمية لموقف كهذا غير الخيانة؟ بلى. هي خيانة متابعة السير على طريق الوفاء للحقيقة وللمقاومين من أجلها. لا أعطي للخيانة وضعية يتوقف مفعولها في ما هو أخلاقي. فالانهيار في قيمنا الثقافية وفعلنا الثقافي، وبالتالي في فعل التحديث، لا يعود إلى أسباب أخلاقية، بل إلى التخلي عن متابعة السير وفقاً للوفاء، الذي هو شرط سابق على جميع الشروط الأخرى، في النظر إلى الحقيقة التي لا يتم اكتشافها ولا إلى الأفكار التي لا يتحقق اغتناؤها إلا بفعل المقاومة. الحقيقة في العلم كما هي الحقيقة في الفكر والإبداع والحياة شأنها شأن الفكرة.
وأعطي الحياة مرتبة الفكر والإبداع، لأن حقيقة الصداقة في الحياة لا تقل عن الحقائق الأخري. والذين يخونون، اليوم، متابعة السير على طريق الوفاء، يتحولون إلى عائق تاريخي.
ولا أعرف كيف يمكن أن ننظر إلى ما بعدَ هذا الذي يحدث في حياتنا بغير اليأس من هؤلاء الذين يتخلون عن الوفاء، أي كيف يمكن لنا أن نرى غير هذه العودة المظفرة للتقليديين إلى مواقع كانوا غادروها، فيما هؤلاء المثقفون يعيشون لحظات سعادة لا تفارق وجوههم وهم يعيدون إنتاج التقليد.
والغريب هو أن انعدام الوفاء في حياتنا الثقافية وفي سلوك المثقفين لم يعد يثير. فلا احتجاج ولا غضب ولا نقد. اتركْ كلّ واحد يفعلُ ما يشاء. والمنتظرون ينتظرون. بمعنى أن فعل التحديث الثقافي لم يعد ملاحقة للحقيقة ولا إخلاصا للفكرة، بل تحول إلى موقع للحصول على المنفعة والامتياز. هذا المعطى لا يتطلب أي جهد لاستخلاصه.
هو ذا الأخطر. أن يعم صمت هنا وهناك دلالة على ما هو سائد علانية. تواطؤ. فانعدام الوفاء أصبحت له تشعبات في حياتنا الثقافية. حيث لم يعد يهمنا انعدام الوفاء ولا مقاومة انعدام الوفاء.
كل واحد يأخذ حصته من المنفعة والامتياز، ضداً على ما كان له وما يجب أن يكون من إبداعية العلاقة مع نخبة التحديث.
في مثل هذه الحياة الثقافية يلزم المقاومين أن يظلوا مقاومين. بالفكرة ومن أجلها. تلك هي وحدها الكلمة التي نتعلمها، حتى يبقى للحياة معنى وللثقافة معنى.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى