لينا شماميان: لماذا نغني؟
هذا العالم الفطري الذي يغزل كل ما فينا من أحلام ..ونعيش فيه أطول ساعات حياتنا وأجملها قطعا ..
عالم أحلام اليقظة الذي يتيح للمرء أن يكون مخرجاً وممثلاً بأدوار بطولة مطلقة..هو عالم يتيح لنا أالفنانة لينا شماميانن نحقق رغباتنا ونحررها ,دون أي خوف من حكم النقاد على مستوى حرفيته ..
حتى الآن، حين أُسأَل عن هواياتي أجيب: الغناء، الكلام، وأحلام اليقظة.
فذاك هو العالم الذي أذن لي بأن أطلق لروحي العنان وبشرني بأن الجنون في داخلي سيُتوّج يوماً ما فناُّّ ..وغريب كيف كان منبع أغلب هذه الأحلام : مقاعد الدراسة ..
هناك كانت لي أولى لحظات تخيلت فيها منصة الصف مسرحاً خلفيته السبورة..وكنتُ هناك أتربع مغنية مكان الآنسة.. ورفاقي في الصف كانوا الجمهور..وللحق.. كنت أحياناً أجتهد في دروسي لأرتاد هذا المكان اليومي, الذي يتيح لي فسحةًً لإخراج قصة أخرى قبل النوم ,حيث كنت أعود مراراً لانطباعات صور حفلات المهرجانات بذاكرتي..ففي طفولتي كان يسبق برامج الأطفال تلاوة من القرآن الكريم تليها أغانٍ مصورة من حفلات مهرجانات بصرى ومعرض دمشق الدولي وجرش وغيرها ممن كان يحييها (العظماء)، وأعتقد أن هذا كان من أسمى ما قدمه التلفزيون السوري لجيل الثمانينات، ووحد ذائقته الموسيقية..
كانت شارات برامج الأطفال منتقاة: ريمي، جزيرة الكنز، قصص الشعوب، الليدي أوسكار ..وحتى شارات برامج الرياضة، فما زلت لليوم أذكر أني حفظت أغنية (ياأحلى ذكريات) لميادة الحناوي من برنامج (الأحد الرياضي) ..
والغريب أن الدراما السورية حينها لم تكن مزدهرة كما هي الآن، فكانت الموسيقى التصويرية للمسلسلات عبارة عن مقطوعات من الموسيقى العالمية -لبيتهوفن وموتزارت وغيرهم- حتى أننا في المعهد العالي للموسيقا كنا نحفظ لحن (كارمينا بورانا- لأورف) من مقدمة برنامج (حياتنا الثقافية) الذي عايشناه منذ كنا صغاراً.
أذكر أني حين كنت صغيرة ..كانت والدتي تستمع لـ(على عيني يا حبة حيني )لوردة الجزائرية، اللحن الذي حفظتُه عن ظهر قلب واعتقدت بفطرة الطفل فيّ، أنه حتى الورود في الجزائر تغني ..
ما زالت جدتي حتى الآن تعشق آل (الأطرش) …وبما أني كنت ال(مسجلة) المتنقلة في العائلة ,كان لكل فرد منها أغنيته المفضلة ,يستمع إليها أوقات زياراتي لهم ,أو يرحب بضيوفه بإسماعهم ..حينها ,اختبرَت جدتي من أمي قدرتي الموسيقية بأن جعلتني أغني (ليالي الأنس في فيينا) ,وحين انتهينا قالت لي (شكلك رح تطلعي مغنية أوبرا يا تيتة) وضحكَت…لم أدرك حينها أن نبوءات الجدات قد تتحققٍ يوما ..
كنت أحفظ كل ما أسمع عن ظهر قلب ..وكانت أمي تجعلني أغني كل أغاني (ماجدة الرومي) الجديدة آنذاك (عم يسألوني عليك الناس- ما حدا بيعبي) ..كنت أردد كل تلك الأغاني بتهجئةٍ مختلفة أحيانا كثيرة ولكن بلحن صحيح، وهي وسواها ما جعلني أدرك أنني أميل إلى النصوص العربية الفصحى لأنها أسهل حفظا -كونها بلغة الدراسة والمسلسلات المكسيكية ويفهمها الكبار والصغار وورود الجزائر وكل العرب …
كان لكل فرد ممن حولي تأثيره فيما أسمع، وحين أصبحت صاحبة القرار في الاستماع ,تعلمت أكثر ما تعلمت من الأناشيد الدينية .. ما زلت حتى اليوم أجلس بعد ظهر الأحد والخميس في حديقة بيتنا أنصت لتذكير المؤذن العظيم في جامع الحسين – والذي لا أعلم للآن ما اسمه-ولكنني نشأت مع صوته وحفظت كل مقامات الأذان والتكبير والتشريق وصلاة الوقفة وصلاة الجمعة بحضرته…
أما أجمل ما سمعته من غناء على الإطلاق …فتراتيل الآلام بصوت السيدة فيروز والطقس الكامل للقداس السرياني، والطقس الأرمني صباح السبت في المدرسة ..
حتى الآن …ما زال هناك الكثير مما لا أتذكره والذي حدد معالم هويتي الموسيقية …أدرك أن أحلام يقظتي في الصف وقبل النوم هي ما أرشدني إلى جنون اليوم الذي يدفعني كل مرة لأراهن من جديد بروحي على المسرح ..
أحيانا كثيرة أسأل ..لمَاذا نغني؟؟؟
عادة ً,هناك الكثير من الأسباب المنطقية لكل منا ليبرر خياره باحتراف شغفه في الحياة .. وغالبا ما أقوم بترداد البعض منها ..ولكنني في قرارة نفسي أدرك أن السبب مختلف عن كل ما في الحياة من حجج ومبررات ..ربما الدوافع أضحت منطقية ,أما السبب فهو حتما :الجنون ,أحلام يقظتي وإخلاصي لإلهام الطفلة الصغيرة التي ما تزال للآن , قابعة بداخلي..
مجلة شرفات