صفحات مختارة

الإسلام دين ودنيا وليس ديناً ودولة!

صلاح سالم
كتب عبدالله العليان مقالاً في هذه الصفحة يوم 6 نيسان (أبريل) تحت عنوان «لماذا لا يكون للإسلام دولة لتطبيق أنظمته وممارسة سلطاته؟»، منتقدا ما كان كتبه إبراهيم غرايبة في الصفحة نفسها يوم 11 آذار (مارس)، تحت عنوان «رحلتي من اليقين إلى الشك… أو تجربة في الحركة الإسلامية» نافياً فيه وجود خصوصية جوهرية لفكرة الدولة الإسلامية.
ولعلي، هنا، أقصد مباشرة إلى تحديد أولي لمعنى شمول الإسلام لأن جل الذين يقولون بشموله، على نحو ما ذهب العليان، إنما يؤكدون على دوره السياسي، ويقصدون إلى القول بالحاكمية السياسية للشريعة، وصولاً إلى الادعاء بأن الدولة أصل من أصولها يجسد «الحاكمية الإلهية»، بينما الدولة «المدنية» تجسد، في اعتقادهم، «الحاكمية الإنسانية» على الأرض، وهو أمر عليه تحفظات ثلاثة:
الأول: أن الإسلام بالفعل دين شامل، ولكن بالمعنى الوجودي الذي يتبدى في سعيه لإنشاء صورة متكاملة للحياة لا تنغرس أبداً في الأرض مترعة بالدنيوية، ولا تنزع دوماً إلى السماء تهويماً في المثالية، بل تنزع إلى التوفيق الجدلي بينهما. وفيما أرجأت المسيحية «التقليدية طبعاً» تحقيق ملكوت الله إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الدنيا، لأن الإنسان خاطيء بطبعه، قاصر بطبعه، ولا يمكن أن يستقيم، كان الإسلام واقعياً في فهمه للطبيعة البشرية، متفائلاً بقدرتها على النضال ضد الشر، داعياً إلى تغيير العالم، باعتباره الوظيفة الأساسية للحضور الإنساني على الأرض، وهذا جوهر شموله.
والثاني: أن قضية الدولة أو «الإمامة الكبرى» هي الأكثر استبعاداً من إطار العقائد، التي يبقى معيار الخلاف فيها هو «الإيمان» و»الكفر»، إلى إطار «الفروع» التي يبقى معيار الاختلاف حولها «الصواب» و»الخطأ»!. ولعل ما يثبت هذا الفهم ليس فقط غلبته على تيارات الفقه الإسلامي، بل التطبيقات التي جسدته في تجربة الإسلام الباكرة. ففي دولة المدينة الأولى كان ثمة ملابسات في التأسيس لا تتأتى لغيرها، إذ جمعت بين النبوة والحكم، وكان على رأسها رسول يستلهم الوحي، بقدر ما كان يوجب على المؤمنين طاعته، وهذا بالطبع ما لا يتأتى لأي تجربة أخرى بعد موت النبي.
والثالث: أن حاكمية الإنسان على الأرض حاكمية مفوضة للإنسان، باعتباره الطرف الثاني في عهد الاستخلاف، الذي يمثل الله طرفه الأول. حاكمية الاستخلاف هذه تسمح للإنسان بتأسيس سلطته الزمنية على اجتماعه البشري، كمجال لفاعليته وحضوره الواعي في التاريخ، وهي تبقى غير منكرة طالما ظلت خاضعة لسنن الله في الكون. فإذا ما تحررت الحاكمية الإنسانية من بنود عهد الاستخلاف، وأهدرت الحاكمية الإلهية بمرجعيتها الأخلاقية للوجود صارت منكرة، إذ تجعل الاجتماع البشرى هنا محايداً، وتخضعه لنزعات دنيوية بحتة، وتصورات أخلاقية غالباً ما تكسر حاجز الفطرة/ الطبيعة الإنسانية.
ومن ثم فشمولية الإسلام بالمعنى الوجودي العميق، تعنى مرجعية المنظومة القيمية الإلهية، ولكنها لا تفرض حضوراً سياسياً مائزاً لسلطة بعينها، ذات سمات قدسية / متعالية على التاريخ. ولعل هذا هو موضع الخلاف الذي كان بين تيارات الفكر الإسلامي، والذي يبقى جوهر الجدل بين غرايبة الذي وضع الدولة في عهدة الاجتماع البشرى، وبين العليان الذي وضعها في عهدة الدين.
ففطريا يبقى الإنسان متديناً ولو عاش منفرداً لأن الإيمان اعتقاد فردي، وطالما خلا الدين من الكهنوت فإنه يصبح قادراً على البقاء من دون سلطة وتلك فضيلة إسلامية. ونظرياً لو أننا تصورنا مجتمعاً مثالياً يحكم الناس فيه ضمائرهم فقط، لن نكون بحاجة إلى سلطة، فالسلطة مطلوبة لتنظيم حركة المجتمع، وفرض سيادة القانون، وليس الرقابة على ضمير المؤمن. وتاريخياً كانت هناك الأقليات الدينية التي عاشت في كثير من المجتمعات محافظة على إيمانها. بل أكثر من ذلك نجد أن المتدينين بعقيدة ما يصبحون أكثر تمسكاً بها إذا ما تعرضوا للاضطهاد الديني، والمسلمون أنفسهم في المرحلة المكية لا يخرجون عن هذه القاعدة.
ولعل الفارق الجوهري بين السلطة كنتاج تاريخي للاجتماع البشري بالمعنى الذي يذهب إليه غرايبة، وبين الدولة الإسلامية كنموذج متعين قصد إليه العليان، يكمن في مصدر الشرعية وهل يكمن في الناس / الشعب / الأمة، أو في الشريعة نفسها. فإذا كانت الأمة مصدر شرعية الاجتماع الإسلامي، كأي اجتماع آخر، وظلت الشريعة بمثابة الأصل القيمي/ المرجعي الذي يشي بإسلاميته، تتصالح الدولة كمعطى تاريخي مع السلطة كمطلب شرعي وتنحل الإشكالية، إذ يستطيع المسلمون آنذاك إقامة سلطتهم على أمورهم في كل مرحلة تاريخية، شرط أن تقوم هذه السلطة، أياً كان شكلها، أو كيفية تشكيلها، على حفظ المقاصد العليا للشريعة.
وأما القول بأن الشريعة نفسها هي مصدر الشرعية وليس الأمة، فيفتح الباب تلقائياً، بعد خطوة واحدة أو خطوتين، على الدولة الدينية، لأن الشريعة لا تفصل ولا تمارس إلا من خلال بشر. وهنا ينمو الكهنوت السياسي عبر تأويلات واختزالات متتالية في خضم الإجابة على أسئلة من قبيل: من الذي يستقى جوهر الشريعة من النص القرآني؟ وإذا كانت الإجابة الجاهزة هي أهل الحل والعقد يبقى السؤال: ولكن من الذي يختارهم أو يحدد صفاتهم في كل عصر؟ وكيف يتفقون إذا ما اجتمعوا وهم قد اختلفوا إلى درجة التقاتل في عصر الصحابة، فما بالك بزماننا المفرط في أنانيته، وإذا ما اختلفوا. فإلى من يحتكمون لحسم الخلاف بينهم؟ وهل هناك من هو أكثر فقها منهم ليكون مرجعاً لهم يقرر مصير خلافاتهم؟ وهل هم مقتنعون بعلو قامته كي يطيعوا أمره أو حكمه فيهم؟. وحتى إذا كان اتفاقهم ممكناً بعد هذا كله حول ما نزل فيه نص، فكيف يكون الأمر في ما أتى به الزمان من معطيات ووقائع جديدة؟ هل يحتكمون فيها إلى أولى الاختصاص لتقرير مصالح الناس، أم يهدرون المصالح على مذبح الشريعة، فإذا ما أهدروا المصالح يكونون قد أهدروا الإسلام لأن الإسلام ليس إلا المسلمين في النهاية. وإذا لجأوا إلى المختصين في كل أمر حياتي خارج عن أصول الشرع فأين يكون جوهر حاجتنا إليهم، وما الفارق الموضوعي الذي يميزهم هنا عن سلطة مدنية يختارها الناس بطريقتهم، ويعزلونها بطريقتهم، حسبما يتيحه لهم زمانهم، بشرط واحد أساسي هو أن تحمي مقاصد الشريعة الأساسية؟
ربما كان الفارق على مستوى الغاية غير موجود، ولكنه يبقى عملياً لصالح السلطة المدنية حتى لو كانت أكثر فساداً أو بطشاً من سلطة أهل الحل والعقد، إذ تتوفر لها فضائل ثلاث أساسية: الأولى كونها اختيار البشر، ومن ثم فهم يستحقونها فيما كانت خيراً جزاء يقظتهم، أو شراً عقاباً على إهمالهم تكريساً لحرية الإرادة الإنسانية. والثانية أنها قابلة للتغيير من دون خشية الوقوع في الإثم، ما يحفز ديناميكية الفعل ورغبة التأثير في التاريخ. والثالثة أنها لا تسىء إلى الشريعة فيما لو أساء الناس الاختيار، ثم عجزوا عن إصلاح ما أفسدوه، حيث يبقى الإسلام بريئاً من غفلتنا، ومشيئة الله متسامية على فسادنا، ولا تستحيل شرعية المقدس غطاء لخطايا التاريخ.

* كاتب مصري
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى