الفساد على خارطة لبنان الانتخابية
خليل احمد خليل
“ما أفسد لبنان سوى المال والسلاح والمخابرات والعقلية المركنتيلية”، خلاصة حرب.
كيف ستتمكن طبقة سياسية مُختصرة (4 أو 5 أشخاص) من إخفاء الفساد السياسي الكبير، الماثل في غياب التمثيل النسبي عن خارطة لبنان الانتخابية؟
بعد احتواء الأحزاب السياسية وتدجين النقابات العمالية وحتى المهنية، وبعد نسف مبدأ الحكم بالموازنة المفقودة عنوة منذ أربع سنوات، وبعد الرجوع إلى قانون 1960 (الدوائر الطائفية بامتياز)، يبدو التساؤل مشروعاً عن غد لبنان السياسي في ضوء أزمته المعقدة اقتصادياً ونفسياً اجتماعياً الراهنة. وبدلاً من أجوبة موضوعية مُبرمجة في رؤية سياسية للدولة واقتصادها الاجتماعي، لا يحظى اللبنانيون بغير رهنهم والمراهنة عليهم، كما في سباق خيل أو لوتو أو يانصيب، لكن مع مفارقة وهي أن الجائزة الكبرى ليست من حق الجمهور، طالما أنها مقسومة سلفاً بين أربع أو خمس مرجعيات سياسية/ طائفية، تقدم نفسها على أنها “زعامات” والبقية “أزلام”.
هذا الرهان على استنخاب الجمهور هو المحرك الرئيسي للفساد، بؤرة العدوى العامة، الكامن في خارطة لبنان الانتخابية. ومنه يتفرع حالياً رهانان كبيران:
رهان على إقبال الجمهور في كل لبنان، وفي يوم واحد (7/6/2009)، إقبالاً شديداً على الأقل بمستوى انتخابات 2005 أو أشد على ملء صناديق الاقتراع بأوراقٍ ملوّنة بألوان المرشحين الكبار، الذين تخرج اللوائح المميزة من إدراجهم ومن حاسباتهم المحلية، غير آبهين بالصناديق الخفية، “صناديق الفرجة” التي يحتفظ بها في نفوسهم لبنانيون آخرون معتكفون عن هذه المشاركة. وإذا صحّ حسنُ الفأل هذا، ستنعم الطبقة السياسية اللبنانية بقاعدة شعبية أعرض من قاعدة 2005. لكن، ما العمل؟ إذا لم يصح لها ذلك؟
رهان على عبور مفازة الانتخابات بفوز كاسح لفريق على آخر. فريق الأكثرية الراهنة (14 آذار) يأمل في الحفاظ على مقطوعيته البرلمانية وأكثر. وفريق “المعارضة” المشاركة في الحكم بثلث ضامن أو معطل، يحلم بقلب خارطة التوازنات الحالية، الهشة في كل حال، والإتيان بأغلبية نيابية، ولكن مع الحفاظ على كذبة “لا غالب ولا مغلوب”، أي الحفاظ على المشاركة بأي ثمن وإلا… فالحروب.
في لبنان، الحكمة السياسية علّمت معظم اللبنانيين أن يحتكموا أولاً إلى ضمائرهم، وثانياً إلى عقولهم العملية وأخيراً إلى مصالحهم الوطنية. إلا أن الغافلين منهم عن مستقبل الوطن، المتحكمين مع الطبقة السياسية بموارد المجتمع والدولة معهم، لا يرون حالة البلد إلا من خلال أحوالهم السياسية، هم والمتزعمون الذين يقودونهم بعماهة أو بظرافة أحياناً. وعليه، نجدهم يحتكمون إلى جيوبهم “جيب مليان كَيْف تمام”، وعند اللزوم إلى “سلاحهم” لثأرٍ أو لمناورة حتى على أمن الدولة، فيما “ثقافة” الكحول والمخدرات تقتحم البيوت والشوارع في غير مكان من لبنان، حتى بلغ عدد المدمنين اكثر من ربع مليون، وانتقل الفساد الأخلاقي من السلطة إلى المجتمع. وفي كل حال، تبقى المخابرات المحلية والعربية والعالمية خصوصاً “الاسرائيلية” مستنفرة من وراء أوكار ومداجن سياسية اجتماعية حولت لبنان من مجموعة “مضائق طائفية” إلى مجموعة “مفاسد” و”مبائس”، تحول دون التطور السليم والمعافى لبلد مصابٍ بغير مرض، عنوانه السياسية المحلية ومضمونه التفكك الأسري للجماعات والفلتان الأخلاقي أحياناً بأقنعة دينية.
الأقنعة الاجتماعية حلّت، إذن، مكان القناعات الفكرية عند بعض اللبنانيين، فباتوا بصرف النظر عن الهاوية الاجتماعية التي ينقادون نحوها، يعيشون في مجتمع مضاد للدولة، بينما طبقة سياسية ترفل بامتيازاتها في سلطات بلا دولة، وبلا مجتمع متماسك يحفظها من غدر الانهيار.
الى هذا تعاهد جميع أفرقاء الطبقة السياسية على تمرير الانتخابات المبالغ في توصيف مخاطرها من كل طرف من دون صواعق أمنية. ولكنها تميل ضمناً إلى الاعتقاد بأن أجهزة استخباراتية قد تحرك “خلاياها النائمة” وقد تضرب في غير موقع وموجع.
اما إفساد الناس بالجنس الطليق وبالمخدرات والكحول، فلا يندرج على أية لائحة من لوائح الفرسان الكبار، وتجري الأمور هذه وسط ثقافة كوسمو بوليتية، مركنتيلية أو اتجارية، تتسابق في مضاميرها الأصوات من جهة، والخدمات أو الدولارات من جهة أخرى، حتى إن طرقات ما كانت تحلم بالزفت مثلاً، باتت تئنّ أحياناً من وفرته. ويتساءل معظم اللبنانيين: اين كان هذا الزفت، وهذا المال وهذه الخدمات قبل الانتخابات؟
وبمرارة يكتشفون مجدداً أنهم يعيشون في ظل حكومات موسمية، وأن عليهم أن يواصلوا انتظاراتهم للدولة “المستحيلة” “المؤجلة”، “المؤقتة”، الممنوعة… لكنْ إلى متى؟ ويرون أنهم لن يحظوا بجواب قاطع وتاريخي، ما لم يبادروا إلى تجاوز فساد الطبقة السياسية، بتجاوزها هي نفسها، لا بالتجديد لها (ولو بنسبة ضئيلة، 20% مثلاً)، وبإنتاج طبقة سياسية، انطلاقاً من زعامات اجتماعية، تقود احزاب المجتمع ونقاباته وهيئاته الثقافية والإعلامية، لا كطبقة سياسية رديفة، بل كقوة تغيير. لكنْ ما العمل والكل يعلن ريادته للإصلاح والتغيير والتحرير والديمقراطية، الخ، بينما الفساد الرباعي (المال والمخابرات والمخدرات والمركنتيلية) يواصل نخره السوسي لعظام الشعب اللبناني؟
إن الانتخابات هذه قد تؤجل “بؤرة حرب” إلى ما بعدها. وقد يواجه لبنان مرحلة صعبة من التحديات المستورة، إلى أن تنجح السلطة والمجتمع في إنتاج دولة حاكمة، لا محكومة.
الخليج