أوباما والتعذيب: هل ثمة خطوات إلى الوراء؟
صبحي حديدي
قبل أن يقرّر الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنّ الوقت قد حان للوفاء بواحد من أبرز وعوده الإنتخابية، فيعطي الإذن بنشر ما يُسمّى اليوم ‘مذكرات التعذيب’ الصادرة عن كبار مسؤولي وزارة العدل والبنتاغون في الإدارة السابقة، كانت ثلاثة كتب قد صدرت في هذا الموضوع، على سبيل ارتياد حقائق ذلك الملفّ المشين. كتاب ‘فريق التعذيب: مذكرات رمسفيلد وخيانة القيم الأمريكية’ للمحامي البريطاني وأستاذ القانون فيليب ساندز، وكتاب جميل جعفر وأمريت سينغ ‘إدارة التعذيب: سجلّ موثق من واشنطن إلى أبو غريب’، وكتاب مايكل راتنر ‘محاكمة دونالد رمسفيلد: مقاضاة عن طريق كتاب’، بالتعاون مع مركز الحقوق الدستورية، إنما تنضم إلى سلسلة الأعمال والتحقيقات الصحافية التي بدأت من سيمور هيرش، ومرّت بأمثال مارك دانر وجين ماير ورون سوزكند وسواهم.
العمل الأحدث في هذا الصدد صدر مؤخراً بعنوان ‘كيف تكسر إرهابياً’، مؤلفه استعار اسم الرائد ماثيو ألكساندر، لأسباب أمنية تخصّ 14 سنة من الخدمة في الجيش الأمريكي، حيث كان أحد كبار المحققين في العراق، وأدّى قبلئذ مهامّ استخبارية في المملكة العربية السعودية والبوسنة، ويتردّد أنه المحقق الذي نجح في الحصول على معلومات أدّت إلى تحديد المزرعة التي كان أبو مصعب الزرقاوي يقيم فيها. خصوصية ألكسندر أنه لا يؤمن بالتعذيب وسيلة للحصول على المعلومات، بل يعتنق المبدأ النقيض، لاقتناعه ـ بعد طول خبرة، وأكثر من 300 جلسة تحقيق ـ أنّ السجين الخاضع للتعذيب يمكن أن يدلي بأي اعتراف، وقد يلفّق الكثير منها، لوقف ما يتعرّض له من صنوف العذاب.
وفي حديث مع الصحافي البريطاني باتريك كوبرن، قال ألكسندر إنّ السبب الطاغي الذي يدفع المقاتلين الأجانب (ويذكر مواطني مصر والسعودية واليمن وسورية وشمال أفريقيا) للإنضمام إلى منظمة ‘القاعدة’، هو الإساءات التي وقعت في سجن أبو غريب وغوانتانامو، قبل الحماس للإيديولوجيا الإسلامية. وهو ينظر إلى التعذيب بمزيج من السخط الأخلاقي والإحتقار المهني، لأنّ هذه التقنيات في التحقيق تذكّر السجين بمدى نفاق الغرب في ادعاء الدفاع عن حقوق الإنسان، وانتهاك تلك الحقوق مباشرة، أو بالتواطؤ مع أنظمة دكتاتورية إستبدادية. ويقرّر الكسندر، وهو يعي ما يقول، أنّ اعتماد التعذيب قد يكون كلّف أمريكا من أرواح أبنائها أكثر ممّا كلفتهم إياه هزّات 11/9، بالنظر إلى حجم الخسائر البشرية الأمريكية التي نجمت عن عمليات إنتحارية قام بها مقاتلون جرحت وجدانهم مشاهد التعذيب المهينة في أبو غريب وغوانتانامو.
بيد أنّ فظائع ‘مذكرات التعذيب’ الإدارية تلك لم تأت من ألبرتو غونزاليس وزير العدل في إدارة جورج بوش الابن، أو من جاي بايبي وجانيس كاربنسكي أو دونالد رمسفيلد، فحسب؛ بل جاءت من أمثال جون يو، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا، الذي زوّد الإدارة ـ هو المتعاقد مع وزارة العدل ـ بالمسوّغات القانونية للتلاعب على اتفاقية جنيف. وإذْ تنشرها اليوم صحف ودوريات أمريكية كبرى مثل ‘نيويورك تايمز’ و’واشنطن بوست’ و’وول ستريت جورنال’ وأسبوعية ‘تايم’، فإنّ الفضل في كشف رأس جبل الجليد العائم إنما يعود إلى المحقّق الصحافي الأمريكي سيمور هيرش. وهو، للتذكير، صاحب تحقيقات كبرى سلطت الأضواء على جرائم حرب أمريكية يحرص السادة في واشنطن على إبقائها غارقة في الظلام الدامس: مذبحة ‘ماي لي’ التي ارتُكبت في فييتنام، آذار (مارس) 1968، بأمر من الضابط الأمريكي وليام كالي (قرابة 347 قتيلا من المدنيين الفييتناميين)؛ ومجزرة الرميلة التي ارتكبها الجنرال الأمريكي باري ماكيفري غرب البصرة في 2/3/1991 (الجنرال هذا أصدر الأمر الحرفي التالي: ‘تدبّروا طريقة تمكنني من ذبح كلّ هؤلاء العراقيين الأوغاد’)… الذين كانوا، في كلّ حال، مهزومين منسحبين على الأوتوستراد 8 غرب حقل الرميلة.
وفي مثل هذه الأيام، سنة 2004، نشر هيرش تحقيقاً على الموقع الإلكتروني لمجلة ‘نيويوركر’، برهن فيه أنّ نشر صور تعذيب وتحقير وإهانة الموقوفين العراقيين في أبو غريب ليس سوى أوّل الغيث، وأنّ ما خفي كان أعظم وأدهى، وأبشع وأشنع! وأثبت هيرش أنّ الإدارة كانت تعرف، أو هكذا يقول العقل، في ضوء التقرير الذي أعدّه العميد أنتونيو م. تاغوبا، وسلّمه إلى البنتاغون أواخر شباط (فبراير) السنة ذاتها، وانطوى على 53 صفحة حافلة بوقائع رهيبة حول واقع السجون العراقية في ظلّ الإحتلال الأمريكي. يقول تاغوبا إنّ الجيش الأمريكي ارتكب أعمال تعذيب ‘إجرامية، سادية، صاخبة، بذيئة، متلذّذة’، يسرد بعضها، هكذا: صبّ السائل الفوسفوري أو الماء البارد على أجساد الموقوفين، الضرب باستخدام عصا المكنسة والكرسي، تهديد الموقوفين الذكور بالإغتصاب، اللواط بالموقوفين عن طريق استخدام المصابيح الكيماوية أو عصا المكنسة، واستخدام الكلاب العسكرية لإخافة الموقوفين وتهديدهم… والصور الفوتوغرافية التي نشرتها قناة CBS آنذاك كانت تقول المزيد عن تلك البربرية. ففي صحوة ضمير، أو ربما سعياً إلى تبييض صفحته الشخصية، كشف الرقيب أوّل إيفان ل. فريدريك، الذي يظهر في بعض تلك الصور، أنّ تقنيات التعذيب الأخرى كانت تتضمن إجبار الموقوفين الذكور على ارتداء ثياب داخلية نسائية! اللافت، هنا، أنّ الرجل حين استفسر عن هذه الممارسات، قيل له ببساطة: هكذا تريدنا المخابرات العسكرية أن نفعل!
شيء من هذا القبيل سردته أيضاً العميد جانيس كاربينسكي، التي اقترن اسمها بتلك الممارسات لأنها كانت قائد فوج الشرطة العسكرية في العراق، والمسؤولة عن السجون الثلاثة التي ورثها الإحتلال الأمريكي من جلاّدي صدّام حسين. ففي مقابلة مع انيويورك تايمز’، قالت كاربينسكي إنّ عناصر المخابرات العسكرية وعناصر المخابرات المركزية هم الذين كانوا يتولون مسؤولية الخلية ا1A’، وهي الوحدة الأمنية عالية السرّية التي تشرف على التحقيقات في سجن اأبو غريب’، وأنّ هؤلاء تمنّوا عليها أن لا تتدخّل في شؤون تلك الخلية، بل أن تمتنع حتى عن دخول أيّ من الزنزانات التي تجري فيها التحقيقات!
وإذا كنّا لا نحتاج حقاً إلى صقور تلك الإدارة، وجورج بوش على رأسهم، لكي نتذكّر أنّ هذا السلوك البربري لا يمثّل شعب أمريكا بالمطلق؛ فهل نحتاج إليهم لكي لا ننسى البتة أنّ برابرة ‘أبو غريب’ كانوا جنوداً نظاميين في الجيش الأمريكي، يحملون العلم الأمريكي، ويخوضون ‘الحملة الصليبية’ ذاتها التي أصدر سيّد البيت الأبيض الأمر بخوضها؟ ثمّ… هل نحتاج إلى أحد لكي نتذكّر سوابق مماثلة استأثر بها ‘العالم الحرّ’ على امتداد تاريخه الكولونيالي، بلا استثناء… بلا أيّ استثناء؟
ثمّ ما الجديد، حقاً، في بربرية الجيش الأمريكي، أو أيّ جيش احتلال، بما في ذلك جيوش الرحمة التي يرسلها الغرب إلي حروب العالم الثالث، لـ ‘حقن الدماء’؟ هل ننسى جنود بلجيكا الذين جاؤوا لإحياء الأمل في الصومال، فانخرطوا في مباذل تقشعر لها الأبدان، كأن يقيدوا صومالياً ويتبوّلوا عليه مثلاً؟ أو جنود سيلفيو برلسكوني وهم يغتصبون فتاة صومالية، مقيّدة إلى شاحنة عسكرية؟ أو الوحدات الهولندية التي سكتت على، وتواطأت في، مجزرة سريبرنيتشا حين قُتل خمسة آلاف مسلم بوسني عن سابق قصد وتصميم؟
ولهذا فإنّ ‘عشّ الدبابير’، أو ما يسمّيه المخيال الغربي ‘صندوق باندورا’، ينبغي أن ينفتح دون حجاب أو عائق، لكي تتكشّف جوانب تلك البربرية الأمريكية الرسمية، أينما جرت ممارستها، في سجن أبو غريب أو في معتقل غوانتنامو أو في سلسلة ‘السجون الطائرة’ و’السجون السرّية’… والمطلوب اليوم لم يعد يقتصر على كشف المزيد من الحقائق (وبعضها سوف يظلّ خافياً حتى بعد السماح بنشر المذكرات) التي تدين كبار المسؤولين الأمريكيين قبل صغار العسكريين، بل يتوجب أيضاً تعرية السياقات السياسية والثقافية والأخلاقية، أي ‘الفلسفة’ بأسرها، التي أتاحت انفلات تلك الهمجية، وقد تتيح إعادة إنتاجها في أيّ ظرف لاحق مماثل.
نعرف، ومن الخير أن نتذكر دائماً، ما تقوله جميع المنظمات الحقوقية الدولية عن سجلّ حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وطبيعة الإنتهاكات الصارخة التي تُمارس هناك على نحو مؤسساتي رسمي. لا أحد بلا خطيئة، غير أنّ ديمقراطية عريقة مثل هذه لا تليق بها البتة تلك الإنتهاكات الفظيعة ذاتها التي اعتادت على ارتكابها الدكتاتوريات ‘الكلاسيكية’، شرقاً وغرباً، وماضياً وحاضراً. والتقرير السنوي لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لا يوفّر الولايات المتحدة عاماً بعد عام، بل ويفرد لها خلاصات مفزعة، مثل هذه: ‘المواطن الأمريكي ليس متساوياً أبداً أمام القضاء، والأحكام الصادرة بحقّ الأمريكيين السود والآسيويين أقسى بثلاثة، وأحياناً بأربعة أضعاف من الأحكام الصادرة بحقّ البيض في قضايا مماثلة’. أو: ‘من الواضح أنّ اعتبارات مثل الأصل العرقي أو الإثني والوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي، هي عناصر حاسمة في تحديد ما إذا كانت عقوبة الإعدام ستُفرض أو ستُستبدل بعقوبة أخفّ، وما إذا كانت ستنفّذ أم تُلغى بقرار أعلى صادر عن حاكم الولاية المعنية’.
وهذه، كما ينبغي على المرء أن لا ينسى، ديمقراطية صوّتت مرّة ثانية للرجل الذي شنّ حرباً على أسس كاذبة، وكان يواصل احتلال وغزو العراق للأسباب الكاذبة ذاتها. ولعلها ديمقراطية صوّتت بعد أن تناست تماماً بربرية أبنائها في سجن أبو غريب العراقي، أو أنّ بعض أبنائها صوّتوا وهم يعيشون شذوذ التلذّذ الساديّ ذاته الذي حرّك سلوك برابرة ‘أبو غريب’! وهذه ديمقراطية صوّتت وهي تعرف جيداً أنّ المرشح الذي تمنحه أربع سنوات إضافية من حكم أمريكا، القوّة الكونية الأعظم، سوف يواصل حملاته الصليبية هنا وهناك، محاطاً بالبوارج وحاملات الطائرات وجيوش المحافظين المتشدّدين والرجعيين المتدينين والمكارثيين الجدد والقدماء.
ولكنها الأمة ذاتها التي صوتت لانتخاب أوّل رجل أسود في تاريخ أمريكا، قد يقول قائل، مضيفاً أنّ برنامج أوباما الإنتخابي كان نقيض أجندات سلفه في مسائل عديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، في صلبها الموازنة بين خيارات الأمن القومي وقيم أمريكا الأخلاقية. كلّ هذا صحيح، بالطبع. وإذا كان من حقّ أوباما أن تًسجّل باسمه خطوات شجاعة، مثل كشف سوأة الإنحطاط الاخلاقي لدى بعض رجال الإدارة السابقة، أو حظر التعذيب رسمياً (على الأراضي الأمريكية فقط، كما يتوجب التذكير دائماً!)، وإصدار الأمر بإغلاق معتقل غوانتانامو (مع المزيد من التلكؤ في التنفيذ)، فإنّ أوباما يبدو مصرّاً على عدم الذهاب خطوة أبعد، سواء في رفض تعيين قاض مستقلّ للتحقيق في المسؤولية عن ‘مذكرات التعذيب’ تلك، أو التذرّع بضرورة الحفاظ على ‘مبدأ الإجماع’ في مسائل الأمن القومي الأمريكي، الأمر الذي يتساوى فيه أوباما مع معظم الرؤساء الأمريكيين السابقين، وبوش الابن على رأسهم.
الخشية انها خطوة إلى أمام، سوف تعقبها مراوحة في المكان، أو… خطوتان إلى وراء!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –