الحلقة رقم 8 من رواية: سيدة الملكوت

المثنى الشيخ عطية
زلازل المنفى
أمشي مسحوراً على شاطئ ليماسول. أفكر أن أستفيد من عطلة هذا الأسبوع الساحر في الكتابة، ولكن لأستمتع قليلاً بروعة بداية هذا الصيف. رصيف الشاطئ أمامي يعج بالسائحات اللواتي يتهادين بأعمدة من رخام إلهي مذاب، سيقان ممشوقة يلف نهاياتها ليظهرها أكثر مما يخفيها حرير الشورت الجارح.. أتأملهن وهنّ يتجهن لاحتلال مواقع تلوّح أجسادهن البيضاء بسمرة الشمس وتكوي جليد قلبي بعذاب ترددي وتساؤلاتي. تخطف روحي لمعة لون أبيض في حدّ نهاية درب الشمس. لون أبيض محزوز لسعته سياط وردية. أتأمل لسعة السوط وهي تسوط روحي متموجة في لعبة تجل واختفاء وتجلّ مرهق فوق حنايا صفحة تفاحة الفتاة التي تسير أمامي وتبتعد. أنظر صوب البحر على يساري. أحدق بالزبد الأبيض الذي يترامى بهدوء ودلع فوق الرمل ليتلاشى فيه. أمد نظري أبعد قليلاً لأغسل روحي في شريط الزمرد المتموج بهدوء ورغبة في احتضاني. أقف قليلاً لأموّج روحي فيه، لأغرقها فيه وأتساءل.. هل يكفي هذا العمق لأصل إليكِ.
أمدّ بصري إلى نهاية قوس الزمرّد. أتوقف في حدّ البحر الكحلي. أتوقف خوفاً من أن يشطر روحي ويذوّبها أحزاناً.. هذا يومٌ لله وللشمس وللأجساد المتناثرة على شاطئ دفء البشرية.. فلماذا أغرق روحي في هذا اللون الداكن. يا ألله. لوكنت هنا نورا، لو كنت هنا…
أسترجع شريط صوتها وهي تهدئني.. “لا تزعل هاني، هناك أمور تخص العائلة، سأنزل في بيت أخت يوسف بنيقوسيا، وسأزورك في ليماسول، فلا تقلق”. يا ألله، لوكنت هنا الآن. أسبوع واحد. أسبوع وتكونين هنا لكن كيف الصبر.
يسرق نظري جسدٌ مشلوح فوق الرمل، باستسلام كامل لأصابع شمس المتوسط وهي تقمّره. أحدق بخجل في الرابية الناعمة النائمة باستسلام بين يدي الله. هذا يوم لله وللنعم المتناثرة على شاطئ رغبات الإنسان المطلقة بأجنحة النور.
أزيح نظري باتجاه الزبد الأبيض المترامي فوق الرمل ليتلاشى فيه وأمشي. أنظر صوب فتاتين ممدتين بنعومة فوق المناشف. يلفت نظري المايوه المحافظ الذي ترتديان، وقبعتيهما اللتين تغطيان وجهيهما. أحدّق بفضول ويخفق قلبي. تلك روزا وأختها اللطيفة لونا. أبتسم وأقترب. تحسّان بي قربهما وتعتدلان. ألاحظ خجل روزا من انكشافها أمامي بثياب البحر.
ـ جميل مايوه الراهبة الذي ترتدين.. أقول ضاحكاً لأبدد خجلها، لكن وجهها يحمرّ. أحس أنني ارتكبت خطيئة لكن ماذا فعلت!؟.. تضحك لونا، وتنتشلني من حرجي.
ـ كيف عرفت أن روزا كانت ستصبح راهبة؟.. تفاجئني لونا بقولها وأضحك.
ـ كل تصرفاتها تدل عليها. ليتك ترين تزمتها في المكتب.. أقول وتضحك لونا.
_ لا تسألني عن ذلك.. تقول وتضحك روزا لينفرج الجو الذي لمست اشتعاله خطأ. أجلس قربهما. نتحدث عن الطقس. تشير روزا بعينيها إلى شقراء تتهادى أمامنا.
ـ انظر كي لا تفوتك الفرصة.. تقول غامزة من نظراتي التي تعرف هي بغريزة الأنثى أنها لا تهدأ.
ـ هذا يوم لله.. أقول وتضحك الفتاتان.
تقوم لونا حاملة محفظتها لتقدم لنا ما نشرب، وأختار البيرة. يسود الصمت بيني وبين روزا.
ـ كم بقي لعيونك من فرصة الزوغان.
ـ أسبوع واحد وأترهبن.. أقول وتضحك روزا.
ـ أشك بقدرتك على ذلك. ماذا فعلتَ مع الشاعرة!؟.. تقول وتجمد دمائي. أضحك لأبدد إحراجي.
ـ قال لك حسّان أننا استقبلنا الشاعرة وكنا نحن الثلاثة معاً في بيتي.
ـ وكنتما اثنان قبل أن تدعوا حسان. تقول ساخرة لاكتشاف ما حدث وأضحك.
ـ حسناً. ماذا لو قلت لك أنه لم يحدث بيننا شيء! وأن احترامي الكبير لها وقف حائلاً بينها وبين تمرداتي.
ـ سوف أصدق هذا فقط لو شرحت لي ذلك، لأن مارأيته من استقبالك لها في المكتب ووضع رجلها على الأخرى بهذا الارتياح أمامك لا يشجعني على التصديق.. تقول ضاحكة، وأصمت.
ـ قل لي أولاً لماذا دعوت حسان!؟.. تقول متخابثة، وأضحك.
ـ هل يريحك قولي أنني دعوته خوفاً من أن أنساق لرغبات المتوحش الذي بداخلي.. أقول وتضحك روزا.
ـ أصبحت ملزماً أكثر بالشرح. تقول منتظرة شرحي.
ـ ثقتك المعدومة بالرجال تقول لك أنني فعلت أو حاولت أو فكرت بافتراس المرأة. أقول وتهز رأسها موافقة وساخرة ومنتظرة أن أكمل.
ـ حسناً.. سوف لن أخفي عليك أنني فكرت بها.
ـ ولم تحاول!!.. لقد كنتما معاً في شقتك الجميلة المريحة.
ـ قدمت لها كأساً من البراندي واستمعت إليها بشغف وهي تشتعل بإلقاء قصيدتها حول البحر. كنت مشتعلاً بالرغبة لضمها وهي على هذه الحالة من انجذابها الصوفي، لكنني فكرت أنها ربما أرادت أن تسمعني شعرها لكي تضعه حائطاً بين جسدينا.
ـ وربما كان العكس.. تقول روزا ضاحكة.. ربما أرادت أن تشعل بينكما طقساً غريباً! لقاءاً استثنائياً معجوناً بالشعر، وأنك أضعت عليك فرصة لا تعوّض. هل أضعت الفرصة؟.. تسألني بخبث عابر.
ـ نعم.. لقد أضعتها. لكن هل تعتقدين أنها كانت تريد ذلك وفق معرفتك لبنات جنسك. أقول مجارياً إياها في عبثها.
ـ نعم! لكنك لم تقل كيف حال نورا.. تقول موجهة لكمتها القاضية لي، وأفكر بنورا. نعم. ماذا ستقول نورا لو عرفت أنني دعوت شاعرة إلى شقتي.
ـ هل ستستقر نورا في قبرص؟.. تسألني روزا محاولة مصافاتي. وأقول أننا لم نقرر شيئاً بعد، ولكني أنوي أن أطلب منها ذلك. ألاحظ علامات التفكير على وجه روزا، وأحس أنها تريد أن تقول شيئاً وتتردّد كعادتها.
تأتي لونا وتقدم لنا البيرة. أشكرها وأحتسي زجاجتي بمتعة مع استمتاعي بالنظر إلى السابحين والمستلقين بتناثر على الشاطئ تحت الشمس. هذا يوم لله وللنعم المتناثرة بأجنحة النور.. أقول.
أحتسي بيرتي ببطء وأنا أنظر بحيادية المطلق إلى جمال هذا الشاطئ الذي يتناثر فيه البشر مرفرفين بأجنحة الصمت تحت رذاذ شمس الله. تسترخي روزا وترتمي بظهرها على منشفتها فوق الرمل. ينسفح شعرها قتيلاً بجانب رأسها الذي يطلق تنهيدة استسلام. أسمع صوتها يأتيني متكسراً.
_ لم تقل لي، ما سبب زيارة شرطة الهجرة لك؟.. تقول ويدخل صوت الشاطئ في مشهد صمتي. أنظر إلى ساقيها المسفوحين بعريهما الساطع جنبي. أطيل النظر. أي شيطان يدفعني للنظر إلى ساقيها كي أهرب من هذا السؤال. تحس بموجات نظراتي وتعتدل. ترفع نظارتها الشمسية عن عينيها وتنظر إلي. أحدق في عينيها اللوزيتين.
ـ لن أسألك لماذا كنت ستدخلين الدير حتى لو طلبت مني ذلك؟.. أقول دون أن أدري ما الذي دفعني لقول ذلك. تنكفئ عيناها عن عيني. تعدّل المنشفة تحت ساقيها، وتعود للاسترخاء. ينسفح شعرها الأسود من جديد قتيلاً بجانب رأسها، وأعود للنظر إلى الشاطئ أمامي. يختفي صوت الشاطئ مع تلاشي صوت الموجة التي تنسفح متهالكة بجسدها على جسد الرمل.. هذا يوم لله وللموج المترامي دون سؤال فوق الرمل.. أقول.

*******

ترتمي الأوراق المزدوجة الثلاث على مكتبي بلطف من يد عماد. شعور بالتعاطف من يده يدفعني لأن أكون لطيفاً. أرحب به. أشكره وأدعوه للجلوس. أحس بعيني روزا ترصدان حركاتي. أسأل عماد هل أعجبه مقال الغلاف الذي كتبته، ويجيبني بصراحة أنه لم يكوّن رأياً لكنه اهتم بإخراجه. أخفي شعوري بالاستياء وأسأله عن العناوين، هل تلائم الغلاف، ويجيبني: نعم، لكنها طويلة قليلاً. وأوافقه. أقول له إنني سأختزلها ضمن الاتجاه نفسه. أنظر إلى الصفحة الأولى التي أخرجها. إنها جميلة ومبتكرة لكنها غير مريحة. أدقق النظر في المقدمة الملفوفة حول الصورة وأكتشف السبب، هناك انقطاع في سلاسة القراءة يولّده طول المسافة للوصول إلى السطر التالي. أقدم الورقة لعماد.
ـ ألا تعتقد أن المقدمة مصممة للغة تقرأ من اليسار لا من اليمين؟.. أقول وينتبه هو إلى الخطأ الذي ارتكبه. يوافقني ويسترجع الأوراق مني لتعديلها.
ـ ما رأيك بالإخراج الجديد للعدد السابق؟.. يسألني وأجيبه أنه أعجبني، كما أعجبني أكثر استمرار الوحدة الإخراجية السابقة مع هذا العدد للحفاظ على هوية المجلة، لكن لدي ملاحظات على التنويع في عرض العمود ضمن الصفحة نفسها.
ـ ما به!؟.. يجيبني بسرعة وأفهم من لهجته أنه يريد مشاركتي بآرائه..
ـ أعتقد أن من الأفضل الإبقاء على عرض واحد للعمود في الصفحة خشية من إرباك عملية القراءة.. هذا رأيي والأمر متروك لك. أقول بلطف محاولاً الحفاظ على روحية عناقنا يوم قصف بغداد، ويصمت مفكراً.
ـ رأيك يدعو للتفكير. سوف أدرس الأمر أكثر.. يقول وينهض مرتاحاً لهذا الحوار، وتنظر روزا إلي بابتسامتها الملغومة، وأبتسم لها بدوري. أتذكر تعبيرها المضحك عني وعن عماد بأننا الديكان السوري واللبناني المتناقران ولا دجاجات. أفتح درج مكتبي. أنظر إلى الملف الذي أعددته والمتضمن أخطاء عماد وحسّان لاستخدامه ضدهما إذا ما فكرا بالإساءة إلي. أستاء من نفسي على إعدادي لهذا الملف. أشعر باحتقار لما فعلت. أشعر باحتقار لنفسي. تدخل روزا مكتبي. تضع المجلة التي طلبتها أمامي وتلفحني سحابة عطرٍ أخاذ.
ـ أشّرت على بعض الصور لإرفاقها بالموضوع المترجم.. تقول وأشكرها. تستدير نصف استدارة كي تخرج لكنها تتوقف وتقول:
ـ استراتيجية التطويع السعودية، ها.. تقول وأحس باستيائها من مقالي. أقرر إغاظتها أكثر. أسألها إن كان أعجبها.
ـ نعم، لكن سنرى ما تكون النتيجة.. تقول وأضحك.
ـ ليس أسوأ مما أنا فيه.. أقول وأنظر إلى ظهرها المشدود غائباً في سحابة العطر التي سفحها خروجها. ثمة ما يستلبني في هذه الفتاة ولا أستطيع مقاومته. أضغط زر الهاتف. ترفع السماعة وهي تنظر إلي بثقة من رفع أصابعي ووضعها على الزر.
ـ حسناً. تلقيت طعنة عطرك. لن تتركيني نازفاً هكذا.. أقول ويحمرّ وجهها عبر الزجاج.
ـ ما الذي تريده أكثر. تجيبني بلهجة تحدّ تقاوم بها عصف جملتي بروحها.
ـ طعنة ثانية تشفي الأولى.. أقول وتطعنني ضحكتها الصافية الرنانة مرة أخرى عبر السلك المتوهج…

*******

أعدّل وضع الديك على ساعد المكتب. أتأمله وأسائل نفسي: ما الذي جعلني أختار ديكاً وأحضره من باريس لأضعه على مكتبي. أفكر بديك الصباح الذي يقطع الحكاية في لحظة تشويق تبعد سيف الجلاد عن عنق شهرزاد، إن هذا جدير بديكي. أقول مسروراً لهذا التفسير. أتشاغل بفك شريط التلفون وأحس بعيني روزا تراقباني. أنظر إلى روزا التي أحس بعينيها تراقباني دون أن تنظران إلي. أفكر بحديثها عن الشاعرة. أحس أنها تريد تذكيري بحماقتي معها!؟..أفكر بلطف عماد معي. أفتح درج مكتبي وأنظر إلى الملف. أعود إلى استيائي من نفسي. هل هذا أنا. هل وصل بي الخوف إلى أن أحمي نفسي بهذه الطريقة الجبانة. ماذا فعل بي هذا المنفى. لقد حولني إلى جبان أخرق. ما ذا فعل بي خوفي!؟.. أفكر بنورا. أحس بحاجتي لمكالمتها. أحس بالاختناق وأشعر بحاجتي لها. أنظر إلى روزا راجياً أن تستقبل مكالمة منها. أنظر إلى روزا التي ترفع سماعة التلفون. وتشير لي ضاحكة  أن ألتقط المكالمة. لقد أتت نورا لانتشالي. أحس قبل أن أسمع صوتها بأنفاسها الدافئة تحيط بي وتشكل سحابة كاملة تحمي كياني. أقول لها إنها اتصلت في الوقت المناسب، وأخجل أن أقول لها إنني أحتاجها. أسألها عن موعد طائرتها، ويتجمد كل شيء أمامي. يتوقف الصوت وأعوم بين سحابات بيضاء من هلام. يأتيني صوتها، تسألني أين أنا، وأقول لها إنني لا أعرف. قولي لي أين أنا. أقول ذلك بهدوء مرّ وتعتذر. تقول إنها عشرون يوماً فقط، وتكون في قبرص. أنفجر بالغضب. أرفع صوتي راجياً منها أن لا تحدد موعداً لأنني لن أستطيع الاحتمال. أقول وأصمت. يسود الصمت بيننا.
ـ معك حق هاني. يبدو أنني ثخنتها بتغيير مواعيد قدومي. المهم هو كيف حالك؟.. تقول وأردد بمرارة.
ـ تسأليني عن حالي!. أنا بخير ومسرور لزيارة شرطة الهجرة وأتطلع بالشوق لزيارتهم التالية. أمضغ بمتعة ليمون لورانس داريل المرّ على رأي محمود. واليوم أنظر إلى نفسي ولا أصدق أن هذا هو أنا. لقد أعددت ملفاً بأخطاء عماد وحسان لاستخدامه ضدهما إذا ما ضايقاني. أحس أنني أفقد نفسي. أحس أن قبرص تقتلني.
ـ يكفي هذا هاني. ربما كان الحق علي لكن عليك أن تصبر قليلاً. أبو أحمد مريض، والمراقبة شديدة على حركة إعداد الجوازات. اصبر قليلاً، ولا ترتكب أية حماقة. ثق بنفسك، واصبر.
ـ ولماذا علي أن أصبر. هذا البلد يقتلني، وأصبحت أخشى من تصرفاتي. أحس أن كل ما أفعله حماقة في حماقة.. أقول وتطلب مني نورا أن أهدأ، تحس أنني أعاني، وتطلب مني أن أهدأ.. أقول لها حسناً. سأكون بخير وأن عليها أن تغلق السماعة الآن.. تقول لي:
ـ حسناً، لكن ابق الرجل الذي أحب. تقول وتغلق السماعة قبل أن أفيق على اعترافها المذهل لي.
أضع سماعة الهاتف. أجلس مذهولاً. تدور كلمات نورا مع دوران دمائي بداخلي. يهبط هدوء العالم على نفسي. أضم يديّ وأضعهما على شفتيّ في حركة صلاة كما الراهب. نورا تعترف لي بأنها تحبني. المرأة التي حلمت بها لآلاف من السنوات تقول لي أنني الرجل الذي تحب. نورا تقول لي أن أبقى الرجل الذي تحب. أغمض عيني على لا نهائية العالم الذي أحاطني بالهدوء. أقوم وأفتح نافذة مكتبي. أحس أن عليّ أن أشرع عالمي على هواء البحر. أملأ رئتي بهواء البحر المفعم برائحة ليمونة الجيران. كم أقدّر لكم هذا يا أيها الجيران. كم أنتم عظيمون وهائلون وضروريون لهذا العالم وأحبكم يا أيها الجيران. أنظر إلى روزا التي تراقبني، وأحس بحاجة لأن تشاركني هذه الهناءة. هناك امرأة قالت للتو إنها تحبني. هناك امرأة طلبت مني للتو أن أبقى الرجل الذي تحب. هناك امرأة تغرق عيني بدمعي… أستدير قليلاً كي لا يرى أحد فيض الدمع في عيني. أتجه إلى مكتبي. أفتح درج مكتبي. أخرج ملف الأوراق الوثائقية الخاصة بأخطاء عماد وحسان. أمزّقها وأستدير باتجاه سلة المهملات على يساري. أمزقها أيضاً وأحشو السلة بها. أستدير وأرى روزا تراقبني دون أن تنظر باتجاهي. أشبك يديّ خلف رأسي ليتخلل الهواء صدري. أحس بهدوء روحي يعود إلى داخل جسدي. أنظر بحيادية إلى الفتاة التي بدأت بتوضيب حقيبتها. أتساءل عن الوقت.. لقد خيم الهدوء على المكاتب. تغادر روزا مكتبها وتدخل مكتبي. تسألني ضاحكة إن كنت أريد النوم هنا اليوم، لم يبق أحد في المجلة، وأمازحها بالرد نعم إذا بقي أحد معي. يحمرّ وجهها وتطلب مني المغادرة تحت تهديد إغلاق باب المجلة علي. أسألها ضاحكاً أن تجلس قليلاً لكي أوضب أوراقي. أقول لها إنها المرة الأولى التي تجلس فيها بمكتبي، وتجيبني ضاحكة أن مكتبي هو الوحيد الذي حظي بهذا الشرف. أحس أنها تريد التخفيف عني. أخبرها وأنا ألملم أوراقي أن نورا ستتأخر أيضاً في الحضور وتجيبني أن هذه المرأة تنال إعجابها على تأديبي.
ـ كما تنالين إعجابي على نكديتك.. أقول لها ضاحكاً ومتوقعاً منها التنكيد بعد مواساتها لي.
ـ طلبت عائشة من عماد أن يؤجل طبع العدد إلى ما بعد قدومها من ليبيا. تقول وتثير عش دبابير المخاوف التي أبعدتها طويلاً عن تفكيري.
ـ وتعتقدين بسوداويتك أن المجلة سوف تغلق. أقول ساخراً كي أطرد الدبابير التي بدأ أزيزها يطن داخل صدري.
ـ فكر كما تشاء، ولكن عليك تهيئة نفسك لتقبل هذه الفكرة.
ـ وماذا علي أن أفعل برأيك؟
ـ عماد نقل عائلته إلى بيروت تحسباً لأي طارئ بالعطالة.. تقول لي وتكشف أمامي جدية الخطر الذي أواجهه.
ـ وماذا تقترحين علي؟.. أسألها مازجاً الجد بالهزل.
ـ المشكلة أن جميع الصحف مشتراة من الخليجيين وأنت مازلت تنسف جسورك مع الخليج.
ـ وتنصحيني كالعادة أن لا أكتب تحقيقاً يمسّ الخليجيين.
ـ سوف تضطر في النهاية إلى هذا.. تقول وأحس بالإهانة. أنظر في عينيها لائماً، وتحس أنها تمادت. تحاول الاعتذار بسؤالي عن سبب زيارة موظفي الهجرة أكثر من مرة لي، وأحس أن روزا تفكر فعلاً بمصلحتي وإن كنت أخالفها آراءها. أصمت قليلاً. أنظر في عينيها الطيبتين. أشعر أنني أستطيع تخفيف ثقل الصخرة التي تطحن صدري. أقول لها بهدوء أنهم يطلبون مني تجديد جواز سفري الذي شارف على الانتهاء، وتحس هي أن هذا ليس كل شيء. تنظر إلي أن أتابع. تدفعني بحيرة اللوز في عينيها على الاعتراف لها.
ـ روزا. لا يعرف أحد هنا إلا نصير أنني “ملاحق سياسي” أي أن سفارتي لن تجدّد جواز سفري. أقول لها وتجمد بحيرة اللوز في عينيها قبل أن أرى بريق الدمع. تبعد عينيها عن عيني. تصمت قليلاً وتقول كأنها تحدث نفسها.
ـ يبدو أنكم كلكم هكذا. تقول وتقوم مستدركة انزلاق تصريحها الذي أربكني. تسألني أن نذهب، وأقوم متجهاً إليها. أمسك بكفّي كتفيها. تنظر في عيني. أضع كفي بين خدها وعنقها. تميل برأسها وتحتجز كفي. أحس بقوة حنان تدفعني إلى جذبها نحو صدري. أفتح يدي وأحتضنها بحنان. تسكن قليلاً في دفء احتضاني. نحس سوياً أنها أطالت السكن فتنتزع روحها من قيد احتضاني. ترجوني أن نذهب، وتستدير لمغادرة المكتب. أتناول مفاتيحي، وأتبعها حزيناً. تقف أمام المصعد بينما أغلق الباب. نخرج صامتين. نخرج كائنين صامتين حلّت عليهما لعنة عزلة لا تفسّر. هل وجدت ارتياحي بالاعتراف لها بما يثقل حياتي. هل زدت ثقل صخرتي على صدري بهذا الاعتراف. ما الذي تفكر فيه الفتاة التي تمشي بجانبي صامتة ولا أعرف سوى أنها اهتمت حقيقة بي. ما الذي علي أن أقوله لها. ما الذي يفجر بداخلي رغبة الكلام كما ماء يتفجر من صخر، ولكن أين ماء الكلام!؟.. نمشي صامتين. نصل دون أن نحس بذلك إلى بيتها. تقف أمامي لكي أودعها. أحس أن علي أن أقول شيئاً، أي شيء. أسألها إن كنت أسيء التصرف معها، وتبتسم بمرارة.
ـ لا. ذكّرتني فقط برجل أحببته في بيروت. كان ملاحقاً مثلك، وعنيداً مثلك، وخذلني. تقول وتستدير للذهاب. أستوقفها بعيني. أقول لها روزا، وتنظر في عيني.
ـ نعم.. تقول وأطلب منها أن لا تتحدث لكنها تسترسل.
ـ نعم تركني وذهب ليقاتل، ويموت. تقول وتستدير. تقول وتتركني مشروخاً ببرق الدمع الصامت الذي قصفت عيناها به روحي قبل أن تستدير.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com