المحيط
يانيس ريتسوس
ترجمة وتقديم: رفعت سلام( شاعر ومترجم من مصر)
لم يعد بحاجة الى تعريف، بل الى اكتشاف دائم، واعادة اكتشاف. فما ترجم منه الى العربية – حتى الآن – لا يزيد على شذرات، قياسا الى ما أبدع. قارة شعرية كاملة لها جغرافيات وتواريخ وشعوب ومناخات، تتجل فيما يزيد على الثمانين ديوانا، لا يشبا أحدها الآخر. كل ديوان بلد شعري بكامله، له دروبه المرئية وسراديبه السرية.
يانيس ريتسوس (1909 – 1990) ولد في “مونيمفاسيا” في الجنوب الشرقي من “البلوبونيز” جنوبي اليونان. ومنذ لحظته الأولى، كان منذورا للموت بالسل، ذلك المرض الذي قضى على أمه – في طفولته وشقيقه. وكان عليه أن يجابه – مع السل – الخراب الناجم عن أب مولع بالقمار حتى الجنون.
لا طفولة – إذن – ولا فراديس، بل عنابر المصحات المجانية، والتأرجح – طويلا – على حافة الحياة والموت، حافة النقاهة والانتكاس. أما بيت الأسرة فهو بيت الأشباح والذهول والكوابيس. لا عودة اليه، الا بعد عشرات الأعوام في قصيدته الأسطورية “البيت الميت” فإلى العاصمة، الى أثينا التي تموج بالمهاجرين القادمين من أسيا الصغري.
صبي يرمي بنفسه – وحيدا – الى العالم الشاسع، ليبدأ من الصفر تماما.. كاتبا ينسخ أوراقا في نقابة المحامين، فراقصا هامشيا بإحدى الفرق الفنية أو ممثلا صامتا، ثم مصححا وقارئا لبروفات الطباعة لدى أحد الناشرين.
وفي عام 1934، يظهر ديوانه الأول “تراكتورات”، ثم “أهرامات” في العام التالي، اللذين كتب معظم قصائدهما في المصحة. هما – معا – شارة على اكتشاف الشعر، أكثر من كونهما تحققا له. ولن يبدأ التحقق والحضور إلا مع “أبيتافيوس”، تلك القصيدة الجنائزية التي تتكون من عشرين نشيدا أو ترنيمة. لا خطابية ولا تعليمية. غنائية مشدودة الى الذاكرة الجمعية بوشائجها الشعورية بالغناء العامي والأسطورة الوثنية والطقس الأرثوذكسي.
والى أن تنشب الحرب العالمية الثانية، سينشر ثلاثة دواوين أخرى: “أغنية أختي” (1937) و”سيمفونية الربيع” (1938) و” مسيرة المحيط” (1940)، الذي نقدم ترجمته العربية الأول الكاملة في الصفحات التالية. وسيكون لسيد ذلك الزمن الشعري «بالاماس » أن يرسل له رباعية احتفالية: «ننحني لك، أيها الشاعر كي تمر».
وعل الفور، يجيء الرد من جانب النظام العسكري الحاكم فينهب البوليس نسخ «ابيتافيوس » الى محرقة الكتب، أمام أعمدة معبد «زيوس» في أثينا. وتبدأ سنوات الرعب والإرهاب. سنوات عاشها ريتسوس محطما تحت وطأة المرض، في غرفة تقع على نفس مستوى الشارع، في حي شعبي باثينا. ومع المجاعة الكبرى، يصبح خطر الموت أقرب اليه. وحينما يكتشف ذلك أحد الصحفيين، يطلق صرخة تحذير في جريدته اليومية، ويتم فتح اكتتاب عام لإنقاذ حياة الشاعر. لكن ريتسوس يرفض النقود، ويطلب تحويلها الى جمعية الأدباء الشبان لتوزيعها عليهم.
هي حقبة «القرن الأخير قبل الميلاد» و«أثينا تحت السلاح» الذي سيتحول – من بعد – الى «أبعد من ظلال السرو» ثم «يونانية» و”سيدة الكروم”. سطوع مباغت للصور وحساسية في الاستلهام تنبثق منها يونان طبيعية شهوانية، نبيلة ولاذعة. أبدية للهيللينية، تذوب فيها الطقوس القديمة والاساطير البيزنطية والأعمال الفدائية لقطاع الطرق والأنصار. ابدية للتمرد، ونداء للجزر والرياح والبحر، كي يمتزج الجميع.
وفي 1948، يتم اعتقال ريتسوس ضمن أكثر من مائة ألف معتقل الى الجزر. كابوس بلا تسمية، لكنه سيتخلل شقوق أشعاره في تلك المرحلة. ويقود «لوى اراجون» -الشاعر الفرنسي الكبير- ومجلة ” الآداب الفرنسية “حملة للدفاع والافراج عنه. وعندما يتم نقله الى جزيرة أخرى” يكتب «اركان العالم» و«النهر ونحن». ويفرج عنه، فيصدر “سهر” ( 1954).
واربع سنوات من المضايقات الإدارية، ويبدا السفر الى “الاتحاد السوفييتي” فرومانيا فتشيكوسلوفاكيا. وفي فجوات الوقت، يترجم مايافسكي وناظم حكمت وهنري ميشو ونيقولا جيين. ويتزوج عام 1954، ليكتب لطفلته – في العام التالي – «نجمة الصباح». وكل عام يجيء بديوانين أو ثلاثة: «سوناتة ضوء القمر» (1956)، «تأريخ » و «البعيد» (1957)، «عندما يأتي الغريب » (1958)، «النافذة» و” الجسر” (1959). وتنفتح الدائرة التراثية عام 1962 بـ” البيت الميت ” و«تحت ظلال الجبل»، وبعدهما “فيلوكتيت ” (1965) و«أوريست» (1966).
واذا ما كان التكنيك يظل ” تكنيك الاعتراف “، فإن المقدرة على المواربة تتزايد، ويتخفى الشاعر وراء الشخوص التي يقدمها بإيجاز في المفتتح ليتركها -من بعد -الى الحديث في مونولوج طويل. وانطلاقا من «سوناتا..» يعمل كل ديوان استعادة وبلورة لذلك الشكل المستحدث الذي يسمح بتنوع الرصد بلا نهاية، ضمن حركة الذهاب والإياب داخل القصيدة، والتذبذب الذي يلتقط كافة ظلال الحلم والفكر والوجود.
وخارج هذه القصائد الطويلة والتي تصدر مجتمعة عام 1973 في سفر ضخم بعنوان «البعد الرابع» يكتب ريتسوس مجموعات من قصائد قصيرة مستلهمة من الحياة اليومية. نصوص مكثفة تأخذ شكل الشذرات، تسعي الى ابتعاث جزئيات الحياة، والى التركيز على اللحظات المتعاقبة للنهار. وتصدر هذه القصائد القصيرة تحت عنوان «شهادات» في جزءين، عامي 1963و1966.
ويعود الحكم العسكري من جديد عام 1967. ويعود ريتسوس الى الاعتقال بالجزر اليونانية. من «يا روس: جزيرة الشيطان» الى «ليروس» حيث تبدأ القصائد حتى الهذيان: إيماءات غريبة، اوضاع متضاربة، عفونة، كلمات معلقة أجساد وتماثيل مبتورة، معتوهون وعميان وعجرة، أفعال بلا وعي، انزلاقات وانقطاعات في الفكر وسرد موجز للاشياء المتباينة كأنه لابد -بأسرع ما يمكن- من ملء الصدع الذي يهرب منه العالم.
وبدأت حملة واسعة – بتحريض من “أراجون ” للمطالبة بالإفراج عن الشاعر، ضمت أشهر الأدباء في فرنسا وايطاليا وألمانيا والبلاد الأنجلوسكسونية واسكندنافيا. ويفرج عنه في ديسمبر 1968، محدد الإقامة في منزله في “ساموس”، ممنوعا من الاتصالات والخطابات والسفر. ولن يتمكن من الحصول على تصريح بالسفر الى أثينا إلا بعد عام من الإقامة الجبرية حقبة كئيبة تنغرس اصداؤها في قصائد ديوان «الممر والسلالم » توقفت الحياة الثقافية تماما. وقائمة الممنوعات تغطي كافة مجالات الفكر والفن. وباب الهجرة مفتوح على الناحيتين: الهجرة الى المنفى والهجرة الى الصمت الداخلي.
ويخرج ريتسوس – من سنوات الصمت الأخيرة – بلا رصيد منشور، لينشر-من بعد – العديد من الدواوين التي تضم القصائد القصيرة «أحجار، تكرا رات، قضبان» ويماءات» و«الممر والسلالم»، وبعدها القصائد الطويلة ذات الطابع التراثي: «هيلين» و«اسمين» و«عودة ايفيجيني» و«كريسوثيميس».
وفي يوليو 1974، يسقط النظام العسكري. وتنتهي سنوات العذاب وأربعون عاما من المحن والصراعات الداعية. أربعون عاما من الغناء والمراثي والملاحم، التي تعكس آمال وبصيرة اليونان المعاصرة. ذلك ما منحه الجائزة الدولية الكبرى للشعر عام 1972، والتي سبق منحها لأونجاريتي وسان – جون بيرس وأوكتافيوباث. وهو ما أفضى الى ترشيحه للحصول على جائزة نوبل.
” لم أكن أعرف – من قبل -أنه أعظم الشعراء الأحياء في عصرنا. أقسم أنني لم أكن أعرف. ولكنني عرفت ذلك رويدا رويدا، من قصيدة الى أخرى، بل من سر الى آخر، حيث في كل مرة رجفة الاكتشاف الجديد: اكتشاف إنسان واكتشاف بلد، أعماق إنسان وأعماق بلد”. ذلك ما كتبه عنه «أرا جون».
أما هو، فيقول – في اعوامه الأخيرة – “أحس بأنني طفل يافع وأن عمري يمتد الى ملايين السنين. أنا شيخ شاب، وطفل عجوز وأنا أغتني بما أفقد. وكل عام يمر، أزداد فتوة بما أكسب، أي بما أفقد. حينما كنت في الثالثة والعشرين، كتبت: ” عندما أستيقظ كل صباح، أرى من خلال النافذة المفتوحة السماء المزهرة في البحر، أشعر أني أبدية اصغر من البارحة “. والآن، وبعد كل هذه الأعوام، كم من الأبديات احمل فوق أكتافي وفي جسدي وروحي لقد عبرت ميتات كثيرة، وسأموت في النهاية وأنا أحمل بعض الأبدية، أجل، أنا متفائل. لقد خرجت من أحلك الظلمات خرجت حيا من الأمراض، ومن جلسات التعذيب. ويمكنني القول إنني خرجت من أغرار الموت. التفاؤل ليس سهلا، وليس وسيلة سهلة لتجاوز الصعوبات أو تجاهلها. تفاؤلي لا يتزعزع، وهو راسخ لأنه ينجم – تحديدا. عن اليأس “.
________________________________________
ميناء ليلي
الأضواء غريقة في الماء
وجوه بلا ذاكرة أو ترابط
تضيئها الأنوار العابرة لسفن بعيدة
ثم تغرق في ظلال الرحلة
أشرعة ماثلة مزية بمصابيح الحلم
كأجنحة مكسورة لملائكة آثمين
جنود بخوذات بين الليل ونيران الفحم
أيد جريحة كالاعتذار الذي جاء بعد الاوان.
سجناء مربطون الى المرسى
سلسلة حول عنق الأفق
وسلاسل أخرى في أقدام الأطفال
وفي أيدي الفجر التي تحمل باقة زهور.
والصواري عابرة على عد النجوم
بمساعدة ذاكرة معلمة مطمئنة
– باقة من نوارس في الفجر الساكن .
اللون يرحل عن وجه النهار
والضوء لا يستطيع العثور على تمثال
ليدخل ، فينال المجد والسكينة .
فهل سنظل – إذن –
نحمي بمرح الشمس المفتوح
الذي يفيض ببذور الزهور
على نفس المسيرة
على نفس الهدف
في شرايين الربيع الخصبة
عندما يستأنف السنونو دورانه
بحثا عن عدم عاشق
على القبة الزرقاء المنيعة ؟
أي جرح
لم يضمن لنا – حتى الأن –
ان نصل بجنة الرب الى الكمال ؟
كانت لدينا حديقة على حافة البحر.
وكانت السماء تنزلق اليها من خلال النوافذ
فيما الأم جالسة على المقعد الخفيض
تطرز حقول الربيع مع أبواب مفتوحة في منازل
بيضاء
مع أحلام بجذوع الأشجار على السطح القش
مرسومة على زرقة فاتحة ناصعة
لم تأت بعد
سأتطلع الى الغرب وأراك
– في شعرك بريق وردي
– في عمق البحر طيف ابتسامة .
أمي تمسك بيدي.
لكنني وراء كتفها الحاني
وراء شعرها الشاحب
الذي يلتمع بأريج الصبر والنبل
أتطلع – في وقار- الى البحر.
هناك في منحنى الجبال الأزرق
يناديني أحد النوارس في أعماق المساء.
تهشمت المرآة التي رسمت حدود الفجر والحديقة .
وبالنايات الحرية للزهور
دفنا السونو الأول، أول أمس.
ثم جلس الأطفال وحيدين عند نافذة المساء
ليشهدوا الشمس المحتضرة .
وراء جدار الباحة الأبيض كان الطريق يصحو
وحالما تلاشى الضوء الذهبي فى البعيد
صعد الظل الهائل للجبال
مع خطوة الموت الصامتة الى أيدينا البيضاء
الى قلوبنا
الى جبهاتنا المحنية.
أمي ، من الذي يدق
الجرس اللازوردي على الأفق ?
غيمة فضية بجوار القمر.
صيادون عجإئز
لم يعد لديهم قوارب ، لم يعد لديهم شباك
يجلسون على الصخرة ويدخنون غلايينهم
يتأملون أحزان الترحال والظل .
لكننا لا نعرف شيئا
عن الرماد في مذاق الرحلة.
نعرف الرحلة ونصف دائرة الأفق
الأزرق الفاتح مثل الحاجب المخيف لإله البحر.
نقفز في القوارب
نرخي الحبال
ونغني للبحر
محدقن في الغيمة الفضية
بجوار قمر ربيعي.
أية مدينة مرصعة بالجواهر
تنام وراء الجبال ?
أية أضواء ترتجف في أغوار الليل
تنادي علينا؟
هناك قبور صغيرة بيضاء
لنوارس بريئة
بعيدا في جزر مهجورة مجهولة
لم تعرف سوى الضوء القادم من المحيط الليلي
هناك وضعنا أزهارنا الأولى .
شهقتنا الأولى والفكرة الأولى .
سمعنا أغنية البحر فلم نعد بقادرين على النوم .
أمي
لا تمسكي بيدي .
البحر . . البحر
في عقولنا وأرواحنا وشراييننا البحر.
رأينا سفنا تحمل بلدانا أسطورية
هنا على الرمال الذهبية
حيث يتمشى عابرو المساء.
ألبسنا محبات طفولتنا طحالب مبلولة .
قدمنا الى آلهة الشاطيء حصى وأصدافا لامعة .
ألوان الصباح تذوب في الماء
ونيران الغروب على أكتاف النوارس
الصواري التي تشير الى اللانهاية
تفتح أبوابا عند حلول الليل
مرفرفة فوق نومنا الحجري
متألقة، ابد ية.
وأغنية البحر
تأتي عبر النوافذ الصغيرة
فترسم حدائق وأحلاما مضيئة
على الجوانب الرطبة والجباه النائمة.
إيقاع مؤرق أليم
على الصخور القاحلة في الخارج نبصر الجمال
نحن الأطفال المشردين الحفاة
وفيما نمشي بأقدام عارية في البحر
نسمع صوته الذي يرتجف بأصداء هادئة
مع الوميض الفوسفوري للنجوم
التي تزرع حكايات ذهبية في الأعماق الخضراء.
قلب مهيب
قلب طفل بلا شبهة
لا تتبرأ منه أبدا.
مددنا أيدينا لنقطف زهورا من النجوم
لنقطف نجوعا من دقات قلوبنا
التي ردت على نداء البحر لنا
بأن نعتصم بحبل الجمال
ونحن نسافر الى اللانهاية
على طريق قمر الصيف الهائل
المرسوم على البحر المباح.
عرايا، تصارعنا على الرمال في الظهيرة
بأجساد مبلولة لأطفال الثانية عشرة من العمر
من أجل العناق لا الصراع
من أجل الصراع لا الانتصار
الانتصار وحده .
شعر ملحي
أفخاذ أحرقتها الشمس
الموجة الملهوفة في القبلة
البحر فيما ما وراء الفوران
الظهيرة تنحدر صاخبة في زوبعات من نار
تطوي بيوت الصيادين بلهيب أبيض
فتحرق القلوب التي لا تقاوم .
خارج النوافذ نسيم البحر الرهيف
الوجة المضيء للسكون
في ذآكرة الصيف البيضاء
مع بصيص طيفي ، داكن الزرقة
منحرف على وجنته الملساء.
نفس ذهبي لماء لا نهائي
شباك تتشمس على الصخور
قوارب مملوءة بفاكهة وزهور
وهناك بيوتنا
بيوتنا مكتوبة على البحر.
إيماء من الشاطىء
من الصخور الحمراء
من زهور الزنبق الصغيرة
والبنات.
من ينادي علينا
من شرفة بيتنا ؟
بنينا بيتنا في البحر
هناك لآليء في الأصداف
وغابات مرجان هائلة في الأعماق المعزولة .
صنعنا ناينا من العظام التي أخرجها مساء أمس
في باحتنا غناء العاصفة .
أنصتي الى أغنيتنا ، يا أمي،
أغنية الرحلة الجديدة
انت يا من تنوحين على الموت
لا تعرفيننا
البحر لا ينوح .
بل يغني .
متحررة من طقوس الأحد.
باحة مطلية بالأبيض
في مواجهة البحر برج الكنيسة الصامت
الذي دق يوم كل الارواح للبحارة .
والآن يقهقه في ضوء الشمس .
في أفواهنا غليون أبينا
تحت قبعة المدرسة .
وعلى صدورنا مطرز الصليب الجنوبي
والعذراء العجوز.
بدلة بحار قاتمة مزررة حتى العنق
وعندما ترانا الفتيات
نتخذ المشية المائلة لقباطنة جابوا العالم.
ويرتعش في نظرات الفتيات
صوت غابة صباحية شاسعة
موسيقى حقيقية واضحة.
لكن فيما المنازل الساكنة تحيينا في حنان
بنبات المسك المتدلي على الجدار الأبيض
فسوف يدخلنا من جديد ، ليقهرنا من جديد
الضوء الباهر من المحيط العظيم .
ها أنت هناك أيها القبطان
تأكل خبزك الجاف على عجل
والزيتون الأسود المنقوع في الملح والشمس
على قمة صخرة منحدرة.
إنه وقت الإبحار
ونحن نلتقط أنفاسنا
يرتفع شراع الزفير الأزرق الفاتح
وطياته المضيئة تتماوج
وهي تتلاشى خلف الصدور الساكنة للجبال
النائية .
قلوبنا التي عرفت البحر
لا تعرف الحدود.
علم الصحة الراسخ مغروس في الصخر
يحيي السماء ، يرفرف فوق الرجال .
وظلال باردة كبرى من بحر الصباح
مع جزر وأشرعة بيضاء
في الازدهار الكامل لمنتصف مايو.
القمر الفضي يعكس
جموعا زاحفة في عزلتها خلف الصخور.
على وسائد الطفولة أصداف صقيلة
وفي المحيط الأزرق للنوم
أصوات السرينات مع قياثرهن من عظام الأسماك .
آه يا ربة الجزيرة النائية
الرواسب الكلسية تتسلى في كهفك البحري
كأنها ترتل نوم السكون الشاحب
كأن صدرك الناصع يتنافس مع دائرة البحر الزرقاء
المضاءة بالنجوم
وهناك باقة ذهبية من نحل
حول النبع حيث يمرق الضوء في وهن
وهو يعطر ظل الأشجار الضخمة –
فأنت تعرف أن الماكر سوف يرحل .
– “لايرتيس” مع كلبه
سوف ينتظر فوق الصخرة سدى.
حين خرج عاريا من البحر
ذهبيا من ماء الفجر
فارتسمت عظام عانته في إطار الشمس
هربت ناوسيكا مع العذارى الفاتنات المرعوبات
خلف الأشجار
وأقدامهن الحافية ترفرف في الهواء كسرب حمام
وضوء أبيض ينعكس على العشب الأخضر.
. . . في الخارج على الشرفة بجوار البحر
مائدتنا المسائية المتقشفة
غمس الربيع الخبز القمحي في النبيذ
ورسم القمر في السر
على أباريق خزفية يونانية
مشاهد من طروادة .
كنت تعرفن أننا سنمضي ، يا أمي ،
وملحت عشاءنا بدمعة
وأنت محنية وحزينة تحت النجوم
والفتيات – اللائي كن خطيبات أوديسيوس –
تنهدن على عتبات نافذة الجزيرة .
سفحنا الدم والغلال مع الأشرعة العالية والغيوم
فوق المياه الناصعة
مع زوارق خشبية صغيرة في خلجان زرقاء
تفوح – في رقة – بالوداعات
مع القبلات بجوار القوارب عند حاجز الأمواج القديم
وراء طاحونة الهواء الصيفية المهدومة
متأهبين للرحلة الكبرى الى المجهول .
وعندما عدنا في المساء
بأيد دامية وركبنا مكسورة
حاملين غنائم التعب :
أيقونات مائية تتنكر للشكل
أجراس مساء وردية اللون
ندم الفوران
خواء الصراع –
هناك تحت ظل المقبرة عند البحر
أدركت عيون طفولتنا الصمت
سمعنا مجيء الليل
سمعنا ناي الجمال
الذي يمنح العزاء للجبين الحزين ،
ويبرر المصير .
من الذي يهشم روح الرب وفرحتنا
من الذي يقسم الصمت الى آلاف الأسماء والنجوم
التي تضيء في حركتها أيدينا
وترسم دوائر من العزلة على نفس البحر،
التي تستبقي نار الخلق
دون أن تبقى ؟
طيور البحر ترفرف عند كهوف الصخر الصامتة
رسوم لملائكة مطرزة بنجوم عند الحافة المتآكلة للماء
بالقرب من الحصى المقاوم
في الظل الأخضر لحاجز الأمواج
تحت العيون اسهوشة لأولاد حالمين .
جرح يوم الفراق
الذي يخط في الدم آفاقا وذكرى
يرسم نقيصة الرب
الإيماءة الحلم الخلق
معرفة صامتة
في عيون الأطفال الواسعة
على الشفاه الحازمة للمراهقين
الذين لم يحصوا حطام السفن
معرفة تمجد النجوم المنفرطة من جرح الرب المفتوح
لتداوي جرح الإنسان .
أغمضنا عيوننا
في سريرنا الموروث الأبيض .
المصباح انطفأ
وفي إطار النافشة يومض البحر في السر.
خلف الأسيجة والأشجار
سمعنا صوته العالي ينادي علينا
فيملأ نومنا بمشاهد لازوردية
مزهرة بأشرعة في بياض الثلج
بحدائق من نوارس مستغرقة في التفكير بلا صوت
جاثمة على الحافة الصخرية للمجهول
فوق الهوة المظلمة الآسرة .
من هناك أسمتنا صيحة الرب .
غدا سنسبح من جديد
غدا سنرتحل من جديد .
غدا سيطالبنا الفجر بالصبر.
وسوف نرد على البحر.
كتبنا السطر الأول على الرمال
والصواري الصابرة ترقبنا في عبوس
والموج يهمس حنينا لا ينتهي .
أقمنا على الصخر كأننا منحوتون في سرب طائر
وحدقنا في أقمار تخط دوائر
تسألنا سر سفن تحمل أشباحا بيضاء
سر الرحلة التي لا تنتهي
والمرسى الذي لا يحتمل الماء
لمسنا جرحنا ووقتنا
وهربنا .
الرحلة دائما لنا
والهدير الدائم للبحر.
وصلت السفن عند الفجر
محملة بالقمح والفحم والنبيذ
من أجل القباطنة الحالمين
من أجل وقود النيران .
طوحت بالخبز والنبيذ والفحم
وبقيت عاريا في البحر
بلا رداء يغطي ضلوعك
أو حب يخبيء عينيك .
كانت الساعة ملونة كلؤلؤة سرية
للتأمل العميق للفجر
وصوتها البعيد مترع بالخطر والإغراء.
نظرت الى جسدك في الماء
فأحببت الماء ونسيت جسدك .
أيتها الرحلة بلا متاع
نار بلا فحم
جوع بلا خبز
عطش ونشوة بلا نبيذ.
فات الآن أوان الرجوع .
لو كانت الموجة أكثر دفئا من الحب
والسفينة أكثر دفئا من الميناء
أنت – نفسك – تعرف
أن الطيران يغنى في شعرك
وأنت تواجه الأفق بنفير البحر
صاخبا بارتحال أبدي .
رحلت السفن وتركتنا
بلا خبز أو نبيذ أو فحم
في منتصف البحر.
بكينا طوال الليل
انحنينا على نعش أبيض لنورس .
مصباح أمي يشرق من بيتنا
غصن نحيل من ضوء
في الكف الرهيفة للعذراء.
نوم ثقيل عند الفجر
في حكاية الأصداف
والشموع ذابت
في الكنيسة المجاورة للبحر.
وكانت السفينة تنتظر
بمقدمة منحوتة في ضوء الفجر
كسيف للريح
النوم في هذا المساء بقلب ممرور
يشبه خبز صيادين في العاصفة
غدا سنقتلع الصلبان من المقبرة المجاورة للبحر
ونصنع قوارب الأطفال
وننحت في شواهد القبور
تماثيل صغيرة للجمال والبحر
لنملأ البيت المهجور
لنغوي الحياة وأنفسنا
رغم رب النكران
دون رب الرحمة .
ضاعت الصواري
غاص الدخان
وراء المنحنى الصامت للماء
مثل ركبة أم تنام
والرحلة الساهرة في صدورنا
ساهرة كالريح والبحر في المساء الشتائي .
تلال ناعمة تسافر في الضباب
والشمس المريضة ناعسة
على صخور المساء البليلة
الكراكي في الأعالي
مثلث للندم .
قداس صغيرة للعزلة في مطر المساء
حامل أيقونات سان -نيقولا على الشاطيء
حيث يتوقف الخريف
ليلقي بعملة من الأسى المرير ورقة شجر صفراء
فيما هدير العاصفة يتلاشى على الرمال المظلمة
تحت ضوء النجوم الباكي في سبتمبر صامت .
فلتلملم مرمرا أزرق من أيام اللعب والبكاء الطفولية
فقد تنحت تمثال المحيط
ملطخا يديك بالدم في أصيل غائم
حينما يرسم الانعكاس الشاحب للبحر
دائرة من ندم مضيء
عاليا في الهواء الخاوي
.
في البيت الأخضر الصغر على الشاطيء
فاجأنا الشتاء وحيدا.
الشرفات هجرت
وعلى الشاطيء الشاحب
يخطو الضباب بلا صوت .
أوراق صفراء فانية
موت صامت لليرقات
طحالب تسد الأبواب والطرقات
ذاكرة مشجرة بأشجار السرو.
عند منحنى الطريق ظل الصمت .
من النافذة رأينا آخر زوار الصيف يرحلون
والزورق الصغير سلاله فارغة .
السفن تنام في الميناء
وأعلام الريح الرمادية
ترفرف على الصواري العارية.
عما قليل سيأتي المطر المحزن
ليزيل الأسماء الغنائية
ورسوم الطفولة
ووميض البحر
من قوارب الصيف .
في ومضة ضوء
سنقرأ المصير قي كفوفنا المفتوحة
ولن نملك كلمة واحدة نطعم بها العزلة
أو كسرتين من خبز لنطعم العصافير القليلة
التي تموت على الطريق المعزول .
الأشجار على جانب الرصيف محنية ومهجورة
– قشرة خشبية للصيف
في الغسق المنهوب .
أين ذهب أوركسترا الفتيات الصغرات في الحديقة البحرية
هناك حيث سكر البحارة في المساء وسط الأشجار
وتقافزوا – راقصن في الهواء
لأن عملة القمر الذهبية انعكست
في شعر الفتاة خلف نباتات الريحان .
في الليالي
يتمشى الانعكاس الأخضر الهائل للبحر
وحيدا ، مهجورا على الصخور المنحدرة
صامتين نمر خلال غرف مظلمة
أمام مرايا معتمة لم تعد تعرفنا
ونسمع خطى الصمت
والريح والبحر
على حواسنا الناعسة .
شيء ما من أمان الفراغ
باب موصد في المساء
أو موكب من أشجار السرو
مرسوم في الضباب الفضي لضوء النجوم الخريفي .
وعندما يهطل البدر المعزول بالصبر والسلوى
نفتح النافذة ونبتهل .
نحمدك يا رب
على أن تركتنا وحيدين هكذا محزونين هكذا
كي نستطيع التحديق بلا رهبة في السماء
ونكون أنقياء وبلا حدود مثل اللانهاية
منسيين ومجهولين مثل المجهول
ليل . أقف في الباب المظلم
الجبل المخفي يمتد بعيدا
يتلو اسم الرب في العاصفة الثلجية للنجوم
في الظل الشفيف حيث ينام الرجال ويموتون
في العزلة التي تعيد صوتي ألف صوت .
أين ذهبوا جميعا
ليزكوني أحدق في كفي الخاويتين ،
لأصادق الصمت والمطر؟
حزين حتى الموت
أرى السماء الخاوية
وأحتمي بغيمة كبيرة
وأنا مثل حمل حزين ، مهجور ووحيد
في منتصف واد مظلم .
آه ، يا رب ، لماذا رحلوا عني جميعا؟
تحت ثيابي الممزقة
أمتلك قلب الطيور والأزهار الحاني ،
(كم من ليلة بكيت فيها سرا
على جرح فراشة).
فليذهب كله . فلينهب كل شيء .
فسوف أبقى مرة أخرى قي مواجهة السماء الفسيحة
في مواجهة البحر الشاسع
لأغني بلا مرارة أو شكوى .
فليذهب كل شيء
فحينما أبقى وحيدا أقترب أكثر من الناس
فأقرب أكثر من الرب .
أسمع صوتي
مهجورا في الريح
وأدفيء أيامي .
جوقة طفولة تتبع المساء
وهي تعري الصمت
وهي تحيي الربيع .
لكنني ، يا أمي ، ما أزال بردان .
حل المساء.
جدا جد الخريف الأخيرة تتمازح في الظلال عند الأسيجة
بأصوات صغيرة واثقة .
فلتفتش قلبك
عن الشمس التي رحلت .
وإذ يمتد الشفق الى أرواحنا
سيقطر أريج وردة قطرة ندى على الرموش ،
والضوء الأخير للمساء
على يدين عاريتين معقودتين
على وجه تحول الى رخام
بفعل القوس الفضي للبحر.
أخذوا منا أغنية البحر
قيدوا أقدام بحرنا .
أطفال مدهوشون وصامتون بأهداب ملحية
بعيون زرقاء واسعة
نمر-خائفين – عبر مدن كبيرة
تحت مستشفيات تفوح بالنوم والعرق
تحت بيوت بمصابيح حمراء
تحت أبنية كبيرة
نبتعث ليل الدم والغنيمة .
أمي يا أمي
تنكرنا لحكمة دموعك الحانية
فأين يدك الغفورة باحتمالها الصبور
أين يدك
فلعلنا نسمع الفجر والبحر
وندفيء عزلتنا؟ أمي
السماء ماتت في دموع البريء .
نحن الذين سرنا في الليالي
في غابات ناصعة كاللآلىء
نحن الذين نحتنا في الصخر
الشكل الصافي للحلم
لا نعرف كيف نسير على طرقات
تتلطخ كل يوم بدم المسيح العادل .
خلف الجدران يتعددون في انتظارنا.
ومن الأركان ، تنطلق – مرتاعة –
أسراب من حمام خشبي .
أبواب تتثاءب في الليل .
ومضة سيف .
قمر مقطوع الرأس .
بعظام آدمية يصنعون سلالم
ليصعدوا .
سيدي المسيح ، سيدي
ونحن هنا، في منتصف الطرقات الكبيرة
مرتبكون ومحزونون
بحقائب خاوية في أيدينا
بقفص عندليب على ظهرنا
بذكرى البحر الشاسع على جبيننا
بأيد بريئة مندهشة ، لا تستجدي
لم يبق لنا شيء ، يا أمي
أين سنأوي ؟
أين سننام ؟
هناك حيث الأيدي والبيوت خاوية
يحتل البحر مكانه الرئيسي في غرف الليل السوداء.
ثياب من ظلام
أقنعة من جبس
ابتسامة حب معسولة
صور لأطفال يكبرون
لم تعد تعلق على الجدران.
هناك منفردا يتماوج
شامخا باردا – بلا كلل وحرا
المحيط الوامض .
طفل بنى البشرة بعينين زرقاوين
وشعر كثيف مشطه البحر
طفل لم تتشكك خطوته المبتهجة بالأرض أبدا
طفل أبي رفض طقوس الأحد
لقد صنعت مراكب وطائرات ورق من كتب التدريبات
هل تذكر القبطان العجوز
الذي نسي الميناء وهو يحدق في النجوم
مغنيا للبحر كي يستعيد شبابه ؟
هكذا ، في الساعة المقررة
رحلت عنا بسمة الليل الأخيرة
وما كان لدينا سفينة أخرى نبحر بها
وأرصفة الميناء بلا أضواء أو مسافرين
قابلنا ظلنا آه يا طفل البحر
قابلناك وقمر ربيعي في يديك
تتمشى وحيدا على الشاطيء وسط الصخور
حيث الفقمات والسراطين تحلم في سكينة .
شبعت العيون من صور الماء
لكنها تهفو-ما تزال -الى الماء
النجوم تتنزه في ذكريات النوارس النائمة
انقضاض مفاجيء للدلافن المذعورة من كائنات البحر
وعلى مرايا الماء المكسورة
طيران المجرة الدائري .
صمت مرعوب يرحل من جديد
الى الشاطيء النائم البعيد
– الإبنة الجميلة للقباطنة الغرقى
تعيش في أنقاض حاجز الأمواج
وكل ليلة حين يكتمل القمر
يطاردها البحارة السكارى.
رب السماء والأرض والبحر
الى متى سنظل نرقب وننتظر
الى متى سنظل عطاشى
الى متى سنظل لا نموت ؟
أن نصل الى حيث توقف الضوء
مهشما الى جراح وورود
ذلك ما سيوقف دوران السنونو المتعب
لابد أنك قد كدحت حتى السلمة الأخيرة من الغسق
وتقطعت أنفاسك حتى الموت .
في أمسيات مكسورة
حين بكت المصابيح في البيوت
حين صلى الأطفال عند سرير العنراء المريضة
في الثلوج حيث كان قمر كبير وحيد يموت
في الريح التي صلبت ريش الطيور العاشق
لملمنا الدفء والضوء
لنجعل من الزهر ترنيمة للربيع .
لكن الانتصار لم يجيء ، لم ينته .
ونحن منعزلون
الى حد أن الموت لم يقع في غرامنا
وظلنا يتمشى على الشاطيء الأبيض
مثل طائر مسالم للمحيط
مترع بالبهاء والسكينة
منهك من الليل والعشق .
لكن الساعة التي تسبق الفجر لم تجيء .
فمن الآن سيأتي لنا
برجوع السفن المنفية
المحملة بالصباحات والحمام
بابتسامات الطفولة ودموعها؟
من سيعيد لنا الصحبة العظيمة للنجوم
التي انهارت في عيوننا المشرقة ؟
رب ، يا رب
أعد لي من جديد عباءة المصلى الإلهية
هات لي القلب الذي يجهل المطر
والازدهار مع السنونو
امنحني ارتحالات وعودات
لعلي أستطيع البكاء من أجل جرح فراشة
لعلي أستطيع الخطيئة
والندم
عندما يدوي جرس جزيرتنا فوق البحر
ببراءة يوم الأحد الطاهرة
ببراءتنا الضائعة
وصحتنا المفقودة
في العيون الرهيفة للطيور
سوف يبقى طيف السهول بخشخاشها القرمزي
والفيض الذهبي للشعير
وفي نوافذ صغيرة على الشاطيء
سيزهر الحب والجيرانيوم من جديد
وسيأتي مسيح طفل ليأخذ بيدنا
ونلعب حتى المساء تحت الزنابق
مع اللقالق ونسيم البحر والشمس .
وعندما يحل الليل سنقفز الى زوارق بيضاء
وبشباك صيادين توراتيين محزونين
سوف نصيد القمر المائي
ونستلقي معه في هدوء
فنبهج نومنا بملائكة صامتين
لم يتعلموا بعد الضحك والبكاء
بل الابتسام -وحده – في حلم خلق لم يولد.
جزر ذات أشجار صامتة في مساء الصلوات
حمامات السلام هناك ساكتة
ونحن صامتون أثناء جمع ورود النهار
فيما يسقط ظل المساء على الصفحة البيضاء
حيث نقتفي أثر الحياة بجوار الشاطيء .
لن نقرأ ما كتبتاه
سنرفع عيوننا في انتظار المجرة الساقطة
خلف شجرة لوز من غيم أبيض
يتمشى فوق البحر.
يأتي – من جديد – الموسم
الذي لا يعرف الزمن ولا الندم .
صوت صاف لماء ساكن
ضوء خطى الصيادين على الرمال
الأطفال نائمون في القوارب
والملائكة يستحمون في أحلامهم .
رائحة عشب ونكهة نجوم
سلاسل الجبال تذوب بعيدا في السماء المتلألئة .
أيدينا المتعبة تنضح ندى عذبا
وشعرنا معطر بظل حزن الأمس .
العالم بلا حدود، يا أمي
القيثار العظيم للشفق
رحل في الغابة الكثيفة الظلال ،
غيمة وردية تشتعل في حريق الغروب .
يقبض الرب هذا اللون
لعلنا نعرف عقلنا
ذلك الذي انهزم لكنه لا يعرف الخضوع .
سنحتاج الى ذلك التعاطف البعيد
الذي يقاسي من أجل ما فسد
محافظا على الحلم بالاستقامة .
يمر المساء على الشاطيء المهجور
وجرة الرماد على كتفه العاري .
على وجهها المتأمل أشرقت بسمة
تغذي ضالتنا المنشودة، تغذي سهرنا
وهي توجه الوحي المجيد لمصيرنا.
في هذا المساء يستنشق الكون
أريج بنرة الرب اليقظان .
نروي الجذور من النبع الأبدي
الذي يتفجر من أعماق الليل
ويملا جماجم الموتى بالورود .
أضيء الأنوار على الأرصفة البعيدة
وطرز البحر النائم بالنجوم
ولترفع الأيدي السليبة .
صمتها يتخذ صوتا
حيواتها دائما كل ما مضى
هنا لا طيران ولا فناء.
أغنية المساء فوق البحار
مصحوبة بغياب الأشياء
التي تزهر في الدائرة الأبدية
للصمت والحب
البحر يحدق في وجهه
في البحر.
فلتأخذ المثل المقهورة
خذ المعرفة التي غضنت حواسنا الشابة.
خذ الهدوء العقيم
الذي يبقى متعبا على الصخر
فيبني معبده ومقبرته
بأخشاب سفننا القديمة .
ولتدع لنا غبطة الليل وحدها
عندما تنتظر الأمهات على الباب المزهر
أطفالهن الغريبين الخارجين على الرويض
الذين أضاعوا وجبتهم المسائية
الذين يسبحون عرايا طوال اليوم
الذين يبحثون عن أعشاش النوارس
وينطقون طوال الليل بكلمات لا نعرفها
عن السفن والغيوم والملائكة
عن ملائكة مجانين يعيشون في سلاسل مرجان قرمزي
عن ملائكة جميلات مخطوبات للبحر
والرب المنكر لذاته يعزف على أبواق مسعورة
مصنوعة من عظام شعراء محطمين .
دع لنا غبطة الليل وحدها
حينما يصيد الأطفال من أجل النجوم
في زوارق بيضاء كالثلج
حينما يواجه المراهقون العرايا الجميلون
الجمال في العيون بلا شكوك أو خوف .
أعد لنا قوارب الورق
لعلنا نرسو في الميناء المعهود لبيتنا الأول .
وسوف نركع – برهة – على الرمال
وسوف نصلي أمام ظلنا الذي لا يركع
فيما عنراء البحر الحزينة
ستفتح – في هدوء -باب الكنيسة
وتأتي لتقبل شعرنا المبلول بندى النجوم العذب
بندى الصمت والليل
لكننا سنرفض من جديد
قبلة الحب التي تسترضي وتأسر.
مجهولين في المجهول
فاتنين لا نعرف الخضوع
سوف نرتحل -أبدا – في غابات القمر الفضية
في الجزر الوحيدة للنجوم
دون أن نعرف ربا
دون أن نعثر على رب
مثل نبض الألوهية الذي -في خلقه -يدمر ذاته .
ميناء ليلي
أضواء غريقة في الماء
وجوه بلا ذاكرة أو ترابط تضاء بالتعاقب
من الأضواء العابرة لسفن بعيدة
ثم تغوص في ظلال الرحلة الأبدية
أشرعة مزينة بمصابيح الحلم
مائلة مثل أجنحة مكسورة لملائكة آثمين
جنود بخوذات بين الليل ونيران الفحم
أيد جريحة كالاعتذار الذي جاء بعد الاوان .
نار كبيرة على القمة
تحرق قلب الظلال .
سجناء مربوطون الى المراسي
في الوهج الأحمر
سلسلة محكمة حول عنق الأفق
وحول أيدي الفجر التي تحمل زهرة الربيع .
اللون يرحل عن وجه النهار
والضوء لايستطيع العثورعلى تمثال
ليدخل ، فينال المجد والسكينة .
أخوتي وأخواتي
كيف يمكن أن أبقى بعيدا عنكم ؟
البحر ، البحر
الكتب لا تجيب عن السؤال
والسؤال لا يداوي الجرح .
من جرحنا يبدأ البحر.
أحلام الرحلة
عند منحنى الدموع الأخير.
من يطرد الشمس عن شعر الأطفال
عن قلبنا العظيم ؟
ارفعوا الأشرعة
ارفعوا المرساة
هيا والموانيء القديمة تنزلق بعيدا
هيا والفجر يشرق بكل دموع أسلافنا
سلسلة لا تليق بكاحل البحر
سلسلة لا تليق بقلب بحرنا.
وداعا للحب والبلاد.
طيور البحر في الضوء والملوحة
نحلم بالارتحالات في شراع كامل
آذاننا ليست صماء عن أصوات السيرينات
وعيوننا يقظانة .
ما من دخان ولا إيثاكا.
ما من أفق آخر وراء الآفاق .
أغنية البحر الأبدية تجيب على الفراغ
وتملأ خواءه بقلب وشمس .
آه ، ليال عاصفة
رياح قوية مندفعة في عنف
زبد على زجاج النافذة
مصابيح داخنة في بيوت الصيادين
مخاوف الفتيات الحزانى
رتق الجوارب للمنفى
منارة سهرانة مع عيون الأمهات
والبحر لا يرحم ولا نهائي كعقل الرب
يمتلك الرقة ولم يروض مثل قلوب الشعراء.
أشباح القباطنة الغرقى
غلايينهم ما تزال في أفواههم
يطفون على ومضات الرق .
سفن غريقة راجعة الى موانيء الليل
والطاقم الضائع واقف خارج الأبواب الموصدة
ينتظرون
يبحثون – صامتين – عن حيواتهم
يحملون صورا استوائية
سهولا لازوردية وزنابق هائلة
ونساء عرايا من أبنوس .
يولولن بلا بصر.
لكننا ، نحن الذين تكلمنا ساعات مع البحر
نحن الذين نحمل في شفاهنا دائما
مذاق الرحلة العذب القوي الجديد
نتقبل هبات الموت الأبدية .
وعندما تلعن الأمهات البحر
ويتمشى القباطنة العجائز قلقين في غرف موصدة
نفتح نحن الأبواب
نركض الى الصخور العالية
ونطلق صيحتنا في الليل
تاركين العاصفة وراءنا
ناسين الخبز والمدفأة
لنبرد جبيننا المحموم
بغضبة البحر الواسع .
أيها البحر، البحر
مثلما نحن معك ، فلتكن معنا
والبحر لا يرحم ولا نهائي كعقل الرب
يمتلك الرقة ولم يروض مثل قلوب الشعراء.
أشباح القباطنة الغرقى
غلايينهم ما تزال في أفواههم
يطفون على ومضات الرق .
سفن غريقة راجعة الى موانيء الليل
والطاقم الضائع واقف خارج الأبواب الموصدة
ينتظرون
يبحثون – صامتين – عن حيواتهم
يحملون صورا استوائية
سهولا لازوردية وزنابق هائلة
ونساء عرايا من أبنوس .
يولولن بلا بصر.
لكننا ، نحن الذين تكلمنا ساعات مع البحر
نحن الذين نحمل في شفاهنا دائما
مذاق الرحلة العذب القوي الجديد
نتقبل هبات الموت الأبدية .
وعندما تلعن الأمهات البحر
ويتمشى القباطنة العجائز قلقين في غرف موصدة
نفتح نحن الأبواب
نركض الى الصخور العالية
ونطلق صيحتنا في الليل
تاركين العاصفة وراءنا
ناسين الخبز والمدفأة
لنبرد جبيننا المحموم
بغضبة البحر الواسع .
أيها البحر، البحر
مثلما نحن معك ، فلتكن معنا