منتقيات من جـيل الــ Beat
تُعتبر الـ”Beat Generation”، الحركة الشعرية الوحيدة الأميركية التي انطلقت في العالم منذ 1945. انها أول اعتراض غنائي لوسائل الراحة الحديثة، والتفاؤلية المتكلّفة، وكل الاحكام المسبقة، العرقية والاجتماعية، التي تحدد “نهج الحياة الاميركية”. وهي تعني حرفياً: “جيل وجوديي المسلك والملبس”. وكانت اسماً على مسمى. فقد خرقت القوانين وتابو المخدّر. واستسلمت بكل وعي وحرية لاختباراتها في استخدام المهلّسات (الماريجوانا، المسكالين، الأسيد الليسيرجي وغيرها…)، فتقاطعت بذلك مع السوريالية الفرنسية وتجاربها التي اعتدناها: مقاربة الجنون، استكشاف اللاوعي المنظم، أهمية الأحلام، وحتى المهلّسات التي تعاطاها اختبارياً هنري ميشو وحده في فرنسا في هذا الصدد. انّ إواليّة العقل البشري عند الـ”Beat”، والسورياليين، كما عند ميشو، غايتها البحث الأقصى والخَلْق الشعري. وعليه فإن الشعر هنا، يولي الأدب ظهره نهائياً، وينغمس في القلق، وحتى في لهاث الحياة: الشعر لم يعد أداة تأمّل جماليّ، بل نافذة مفتوحة على مجاهل العقل، ووتد مغروس في أرض بائرة، خالية من المعالم، ومزروعة بالرقى ووسائل القوى المشؤومة في المجتمع. اذاً ما نجده لدى الـ “Beat”، ليس “احتقاراً للشكل”، ولا “ذوقاً سيئاً”، بل صراخ عال وحاد. فاختلال التوازن في الشكل، ليس سوى انعكاس اختلال التوازن في المواقف المعيشية. وإن “الاهمالات والتكرارات” دلالة على ما تعانيه نفوسهم القلقة من كوابيس وتشوّشات. اننا في مقاربتنا لأشعارهم، نحسّ كأننا في أعماق مغارة ذهنية. ولذا فالغموض الذي نلاحظه عندهم، ليس غموضاً مقصوداً، أو غموضاً جمالياً، بل عدم وضوح في الرؤية داخل مهاوي المخدر، حيث تتعطّل كوابح العقل ومصافيه، وتالياً، كل حكم جمالي عليهم، يجب ألا يتعامى إرادياً عن مقاصدهم أو تشويه جوهرهم. وإلا يكون تنكراً للتغيرات التي طرأت كذلك على الشعر منذ السوريالية، حيث خرج من محاور الجمالية التقليدية، وبات الشعراء اليوم، أفراداً أحراراً، تائهين في سهوب اللغة، كما يكون ايضاً نسي أن الشعراء في تيههم خلف الكلمات، ربما يحظون بالانوجاد أحياناً في كنه كينونتهم. وهذا ما ليس معطى لكلّ كاتب (تمكن مراجعة مقالنا: “بحثاً عن جوهر الحقيقة خلف الكلمات” في كتابنا: “دوار الكلمات” الصادر عن دار نلسن، حيث تناولنا هذا الموضوع بشكل أوسع). قد يُعاب على الـ”Beat”، أنهم ينطقون بنبرة غير لائقة، ويتطرّقون أحياناً الى مواضيع اصطُلح على أنها “غير شعرية”، ويتبنون غالباً إيقاع المحادثة العادية. ولكن ما يجب الاعتراف به، انهم حاولوا اخراج الشعر من سجون الكتاب، والجامعة والثقافة، واطلقوه مجدداً على دروب رامبو، وفي تماس مباشر مع ثوران الذات الانسانية. اليوم، لم يبق من هذه الحركة سوى الذكرى، فقد انفرط اعضاؤها المؤسسون (اندروز، بوروز، كيرواك، كورسو، فرلنغيتي، غينسبيرغ، كوفمان، لامانيتا، وماكلور)، وراح كل في سبيله، كشأن مختلف الحركات في العالم. وفي ما يأتي بعض تجاربهم.
جورج أندروز
من مواليد نيويورك عام 1926. طُرد من المدرسة لتعاطيه تدخين الماريجوانا. أمضى سنة في جامعة كورنيل. بدأ اختباراته بتناول المهلّسات في سُنّه الحادية والعشرين. ويُعد من الأوائل الذين شكّلوا جماعة الـ” Beat Generation” والقصيدة التالية: “إشراق مُهلك”، هي حكايته مع المسكالين. وقد ظهرت للمرة الأولى في “Psychedelic Review” عضو الاتحاد العالمي من أجل الحرية الداخلية.
إشراق مُهلِك
تضربني الصاعقة بحركةٍ بطيئة
تشتعل النار من طبقةٍ إلى طبقة
تفحّمي حتى الرماد الأخير
أُخلخل صراخ البلّورات الضّاحكة
يَسكن الجنون المشِعّ لروح العاصفة أمعاء التنّين
تمزّق قنبلة بطني جسدي
يولد مليون شمس متفجرة
عريانٌ طليقٌ لادائرة حولي سوى رغبتي الخاصّة
أحمل جنين الصاعقة بين ذراعيّ
دم الصبّار هو دم أفعى ودم نجمة
تنينٌ مغنطيسي يختلج في كّل جُسَيم
أفعى متلألئة للموجة المضيئة التي بُنيتْ عليها كائناتنا
حلْيةٌ معماريّة قنويّة الشكل من نواة الكون
الوميض الأوّل لـ”ليكنْ نور”
المركب الشمسي يُبحر في متاهة أمعائي
رحّالةٌ دائم مقدَّر له أن يتيه بين الانعكاسات اللونيّة
البنية الصميميّة للأشارات الشفّافة
أزهار الضوء السائل في دم العالم
أتيه عبر متاهات المجد ورُعب المادة اللزجة
عصيرٌ مخثَّر حيوي يتكاثر في جميع المخلوقات الممكنة
أرى الأموات والأحياء ينصهرون
الأموات ينادون الأحياء كي نتعرّف إليهم أخيراً
الأموات في دمائنا كلُّ جُسَيْمٍ جَدّ
يوم يموت الأحياء سيحيا الأموات
أنفخْ يا نذير نهاية العالم في بوق اليوم الأخير
ايها الأنسان أوقفْ عجلة الخليقة وانظرْ الى الداخل
كلّ الكواكب محتواةٌ في أعضائنا
يُدَوّم صوت المجرّات في عظامنا
موسيقى التلألؤات بأنواعها تتجمّد في ارتعاشاتٍ قُزَحيّة
نقاط الجذْب المتزاوجة تُشعل ملحَ نزوةٍ فانتازيّة
حجر الفلاسفة الذي يغلي على مهلٍ في قِدْر جمجمتي
يشرب حتى القطرةَ المرّةَ الأخيرة في الكأس
شربة الساحر فعّالة
فعّالة جداً كالطائر الجبار الذي انقض عليّ وحملني
الى النقطة الثابتة التي تدور حولها كل حركة
أرى ألمس وأحصي بزور القدر
أرى كيف تنسج المصادفة خيوطها العنكبوتية
وتولد عوالم من عصارة دماغي لكثرة ما أحلم بها
ويولد إله من سائل أعضائي
ومبتلياً منذ ذلك الوقت بتعقّد المركبات المتناقضة
أصنع في الاخير من كل عوالم التيه شيئا كاملاً
فدية لألم الروح
اشرب الصاعقة السائلة للنهر المقدس ما دام النهر يجري
لا أضيع نقطة واحدة فالمرء لا يرى النهر مرتين
وتسبح النار وتقفز كنبض في كل خلية من كياني
وتستيقظ بزرة اللذة القصوى
افراح لا تحصى في عش ملائكي
عجلات البهاء الدوارة تسكب الجمال بكثرة
شلال الوان صافية بانعكاسات متموجة
للالماس في الدماغ الغدة الصنوبرية المنزوعة الكلسيوم المرآة الذهنية
ويستيقظ القلب الحاذق يتحدث النبض الاول الى العوالم
جرثومة في امعاء الأله او الأله في امعاء جرثومة
انا من انا الرقص ذاته في كل مكان
لقانون التحولات الدورية الوحيد
هذا التسلسل المتسارع للاختبار المتوهج
ترانيم متألقة من البنى الايقاعية
انا حي في صميم الأله الحي
أختلج وحيداً بين تغيرات لامتناهية
وما هم إن لم يتوصل تطوّر الوعي الى معرفة
أني جرثومة في امعاء اعظم كائن
انا اقدم من الخليقة اقدم من كلّ الكائنات
النجوم تكمل دورانها في ذاتي
اسافر عبر فضاء السريرة بين ذرّاتي
استقل مركبة فضائية للتنقل في مختلف اجزاء جسمي
كل عضو يصير كوكبة نجوم اثناء انبساطي على السماء
متدحرجاً في فلك البروج ناسجا مصير الاجيال الآتية
مبتكرا كونا لا تحتاج فيه الحياة الى القتل لتعيش
خالقا نظاما خاليا من الألم
في غليان المحيط المثمر الاول
خارج السديم أرسل التيار
حلى ألماسية تلمع على زبد اللحظة المباشرة
وتنفجر بشدة قصوى
الصور المتلألئة للمد الذي لا يتجمد ابدا
وتحدث على الدوام بريقا ذهبيا
في مواجهة الاشراق المهلك
اي درجة ايحائية يمكن ان يملكها جهاز عضوي ويظل حيا
حذار ايها الفانون من اشعاعات المطلق
نرفال: “يعتبرونني مجنونا لكني اعرف اني بطل حي في نظر الآلهة”
نجوم مؤثرة براقة في أجهزة كل اشكال الحياة
تومض الحلى المرتعشة وتزحف كالافاعي
جذور خفية لتماس الروح – الجسد الفعال
علاقة دقيقة بين الشمس وايضنا الحيوي
عجلة نار غير مرئية في صميم ذاتي
شرارة تحول كل شيء
كنت في الفردوس وخرجت من الجهة الاخرى
عبرت فيه كالاعصار كقطار منتصف الليل السريع في بلدة صغيرة
مزقتني انامل البرق
سُلختُ حيا على هيكلي الكهربائي
وسحقتني قوة التشنج
انا الجسر بين الاحياء والاموات
انا الروح في طبل “الشامان”
ارتجف لايقاع “السفينكس”
ازور جسدي الخاص كغريب
نوبات عجيبة للبروتوبلاسما المضيئة
تثير التنغيمات المتعددة لحقيقة نادرة وملكية
لادراك ان جواهر تاج المطلق ترقص
كل حين في سيولة جسمي
وعبر نبض ادراكي الحسي ينساب
لعب النور في الخلية المتنامية
يغرد الفينيق في جسمي
طائر يتنشق الصاعقة كما نتنشق نحن الهواء والسمك الماء
بيضة معقدة للنار المتموجة
في الحقل المغنطيسي لتناغماتي وتنافراتي
حيث عدد لا يحصى من الكريات يجري واسلاك متقاطعة تطن
انها الفانتازيا الاوفر لحصاد الاجساد الألماسية
أحرر نواتي باقتطاف الانخطاف من اجل العصور
نفسي تتجرع الحكمة الرؤيوية
غثيان بين الكواكب السيارة
ايتها النجمة الزرقاء الضعيفة والدقيقة
نغمياتك الحائرة والهشة تتلاشى
في اقواس قزحية منتصرة
فيما الجنون الصاخب لجلجلة الرعد
يتبدد كلمات على الورق.
غريغوري كورسو
من مواليد نيويورك عام 1930. لم يكن على علاقة طيبة مع “العدالة”. عاش فترة في اوروبا. ثم عاد الى نيويورك، حيث عاش حياة هادئة. يسود شعره قلق مطبق سرمدي يعبّر عن دوام الغريزة ويكبحها في الوقت ذاته.
الى ك. ر. الذي انتحر
في سجن “شارل ستريت”
يا أقسى يوم للموت!
الليل يرتّب تسريحة شعره المبعثر
على الرف السموي
ايتها الفوضى الصلعاء! ايها العدم المزخرف!
على هدي اي ضوء تمضي شياطين التمرد
في اتجاه
اسفل
الكاتدرائية ذات الاسرار
التي تضيء خلية القش المبللة حيث
تموت عجوز في سن متأخرة؟
مربية الشباب! عظام الطفولة!
ايها الغارق في الموت إقطف ضوء النوافذ البشرية!
العيون تلتهم ذاتها بذاتها
الضوء هو عظم العيون –
لقد رضع اثداء ليثي Léthé هذا الشاعر الوحيد الذي عرفته وردة المه المنورة كانت تنمو في انارة كهذه –
اناديك صارع النجوم ولاحق حلاها الضوئية!
اجبر الملاك البشري على النزول
واغرز فيه الحربة
في وضح النهار!
اسع في الضوء، يا ابن المظلوم، عانق في الضوء!
هاك
يدي الكهربائية فالمسها.
ملاحظات بعد إغماء
يا سيدة عالم بلا ساقين رفضتُ
ان اذهب الى ابعد من اختفاء الذات
انا في فراش رجل ضعيف عارفاً ان الساقين
بقيتا لي بفضل تيار هواء بارد
مفيدة هذه العبارة وغير مفيدة
ثمة جواب لكل شيء لست في حاجة الى معرفة الجواب
الشعر هو بحث عن جواب
الفرح هو معرفة ان ثمّة جواباً
الموت هو العِلْم بالجواب
(ذلك النور الضعيف في رَحِم “الأشراق”
هو الموتى يقذفون جوابهم)
يا ملكة العُرج الفتيانُ لا يَبدون ضروريّين
لقد احتُفظ بالقدماء بسبب علمهم
إنّهم إضافات أبديّة الى هذه الكذبة
الكبرى بدون سُلطة
لكنّ صانع الحقيقة بالذات هو العدم
وبرغم أنّي عملت ليكون العدم حيويّاً
فإنّه بذاته ينهار
ليس ثمّة شيء
لم يكنْ شيء قطّ
اللاشيء مَسكنٌ مكتسَبٌ أبداً
اللاشيء يأتي بعد هذه الدعابة الوحشيّة – الساطعة
اللاشيء قائم على اللاشيء في لا شيء من لا أشياء عديدة
مَلِكٍ من لا شيء.
لورنس فرلِنْغيتي
وُلد في نيويورك عام 1919. تابع دروسه في جامعتي كولومبيا والسوربون. أنشأ في سان فرنسيسكو مكتبة أصبحت مركزاً لتجمّع الـ”Beat Generation” ونشر أعمالهم، يتّسم شِعره بطابع سرديّ مبنيّ للسماع أكثر من القراءة. تمتاز الحياة في نظره بنوعٍ من البداهة الشعرية.
العالم مُدهش
العالم مكانٌ مُدهش
للولادة
اذا لم يزعجكم أن لا تكون
السعادة دائماً
ممتعةً كثيراً
اذا لم يضايقكم قليل من الجحيم
من وقت الى آخر
في زمنٍ محدَّد حيث كل شيء في الطريق القويم
لأنّه حتى في السماء
لا يُسمَع الغناء
باستمرار
العالم مكانٌ مُدهش
للولادة
اذا لم تَروا خيراً أن يموت الناس
باستمرار
أو ربّما هم جياعٌ فقط
أحياناً
وهذا ليس بسيّىء
إن لم تكونوا انتم
يا له من عالمٍ مُدهش
للولادة
اذا لم يَسْترعِ انتباهكم كثيرا
بعض الأدمغة الميتة
والمناصب المفاتيح
أو بالحريّ قنبلة أو قنبلتان
من حين الى آخر
على وجوهكم الملتفتة نحو السماء
أو بعض الأضرار الأخرى
كمثل التي تتحمّلها جماعتنا ذات “العلامة المسجّلة”
برجالها المميَّزين
ورجالها التدميريّين
وكهّانها
ودوريّات أخرى
ومختلف إفرازاتها
وتحقيقات مجالس شيوخها
وسواها من الأصابات بالإمساك
التي يتعرّض لها جسمنا
البسيط
نعم العالم هو أفضل الأماكن كلّها
للكثير من النشاطات مثل
التكرُّس للَّعِب
والتكرّس للحبّ
والتكرّس للحزن
وغناء الأناشيد الرديئة والاستلهام
والتنزّه مهتمّين بكلّ شيء
وتنشّق الأزهار
ووَضْع الأصبع في مؤخّرة الأنصاب
وحتى التفكير
ومعانقة الناس و
إنجاب الأطفال ولبْس البنطلون
وتحريك القبّعة و
الرقص
والسباحة في الأنهار
أو القيام بنزهة في الهواء الطلق
في وسط الصيف
وفي العموم
العيش عيشة حلوة
نعم، ولكنْ في وسط كلّ ذلك بالضبط
يصل والبسمة على وجهه
دفّانُ الأموات.
أَلن غينسبيرغ
وُلد في باترسون (ولاية نيوجيرزي) عام 1926. أصدر عام 1956، قصيدة طويلة بعنوان “عواء”. واستُقبلتْ يومها بفتور، كما اتُّهمتْ قضائياً بالبذاءة في سان فرنسيسكو. إلاّ أنّها أصبحت في ما بعد تُباع بآلاف النسَخ في مختلف أنحاء أميركا. كما غدا غينسبيرغ الناطق باسم الـBeat Generation”، وزعيم “الثورة الثقافيّة” التي كان تأثيرها واضحاً على الفنّ، والموسيقى، والأدب، واللباس، وبعض الأخلاق الأميركيّة.
نفسي الحزينة
في أوقاتٍ، حين تحمرّ عيناي
أصعد الى قمّة مبنى الـ”RCA”
وأتأمّل في عالم، مانهاتن –
في مبانيّ، في شوارعي التي قمت فيها ببعض الأمور،
في أَسِرّتي، في علاليّ، في غرفي
– في الجادة الخامسة التي ما برحت في البال،
بعرباتها المنمنمة، بتاكسيّاتها الصفراء الصغيرة،
بأُناسها العابرين بحجم كُبيباتٍ من الصوف –
وبانوراما الجسور، وشروق الشمس على ماكنة بروكلين،
وغروب الشمس على نيوجرسي حيث وُلدت،
وباترسون حيث كنت ألعب مع النمال –
وغراميّاتي الأخيرة في الشارع الخامس عشر،
وغراميّاتي الكثيرة في “الجانب الشرقيّ السفلي”،
وغراميّاتي الخرافيّة بعيداً في “البرونكس” –
وتقاطُع الطرف في الشوارع الخفيّة،
وحكايتي الوجيزة، وغياباتي
وانخطافاتي في هارلم –
– وإشراق الشمس على كلّ ما املك
في لمحة عينٍ نحو الأفق
في أبديّتي الأخيرة –
المادّة هي الماء.
حزيناً،
أنزل في المصعد الى الطبقة الأرضية و
مستغرقاً في أفكاري،
أمضي أنتقّل على الأرصفة متفحّصاً كل
واجهات المحلات الزجاجية، والوجوه،
سائلاً عن مُحب،
ومتوقفاً في انذهال،
امام واجهة معرض للسيارات،
حيث كنت اشرد في أفكاري الصافية
ومن ورائي
حركة السير في الجادة الخامسة في الاتجاهين،
منتظراً ساعة…
الأياب الى المنزل وتحضير العشاء والاستماع
الى أخبار الاذاعة عن الحرب الرومنطيقية
… وتتوقف كل حركة
وأسعى في حزن الوجود بلا انتهاء،
ويدفق الحنان من خلال المباني،
وتلامس اناملي وجه الحقيقة،
ووجهي تغمره الدموع في مرآة
واجهة – عند الغسق –
حيث لم تكن لي أي رغبة –
في قَضْم الملبَّس – أو في اقتناء الفساتين
او الأباجورات اليابانية
للعقل –
ومشوَّشاً بما اشاهده حولي،
ها رجل يجتاز الشارع بصعوبة
حاملاً رزماً، صحفاً،
ربطات عنق، وبِذَلاً جميلة
نحو مبتغاه
ها رجل، وامرأة، تائهان على الأرصفة
وإشارات المرور التي توقّت
الساعات المسرعة و
الحركة على الطريق المعبّدة –
وكل تلك الشوارع تتقاطع
وتزعق زماراتها طويلاً،
بجانب الجادات
المكسوة بالمباني الشاهقة او الاكواخ القذرة
وعبر حركة السير اللاهثة هذه،
تجأر عربات ومحرّكات تتجه نحو
ذلك الريف، تلك المقبرة
تلك الطمأنينة
على سرير الموت او على جبل شوهد لمرة
ولم يعد يشاهد قط او يُبتغى
في ذاكرة المستقبل
حيث مانهاتن التي رأيتها منذ قليل قد اختفت.
بوب كوفمان
وُلد هذا الشاعر الزنجي في نيو أورليانز عام 1925. وقد يكون اول من قدّمه، وبالأحرى من اكتشفه، الشاعر فرلنغيتي الذي اصدر له عن داره للنشر مجموعته الاولى: “توحّد”. التي جمع فيها كوفمان اشعاره على مدى عشر سنين. وجاءت حافلة بعالم الجاز، والتمرد، واختبارات المتوحد في وجه الجماهير… وذلك في لغة كثيفة مشرّبة بالغرابة والانفعالات الشديدة.
طويت أشجاني
طويت اشجاني في معطف ليل صيفي،
مانحاً الأعاصير القصيرة مداها المعطى لها في الموعد المضروب،
بدون ضجة ألاحق القصص الفاجعة
الدفينة في عينيّ.
نعم، العالم ليس مجال فجور كونيّ
والشمس دائماً على بعد 93 مليون ميل
وفي الغابة الوهمية يصبح فرس النهر – القدة الارضية،
ليكورنا “licorne” فرحاً.
كلا، لن أتجر مع حرّاس نكبات الأمس الشذّاذ،
وتُقْبل البلوز “Blues” متنكرة،
كأصداء رحيل مستذكر.
نعم، فتّشت الغرف القمرية في ليالي صيف باردة.
نعم، تصارعت مع تلك الاتصالات الناقصة.
وظلت ناقصة.
نعم، أرغب احياناً ان اكون شيئاً آخر.
في كل الاماسي، يُسمَع نشيد المأساة
في مآتم الشاعر؛
والنفس المزورة ثانية تُغلّفها هالة من الألفة.
حلم افريقي
ينفجر في قلب الليل
صواعق فضية، تصادم امواج في دماغي،
ستائر من نحاس ممزّقة، ذاكرات – عوالم
دفينة في مخادع الزمن المكوكية،
ألماسات – نيران – الليل تُغوي نفسي.
مخطط مركب باهت… يجتاز الخوف
على أمواج لونية
تزدردها آبار الضوء،
تطنّ وتنكص في الروح،
تدندن وتنكص في الزمان،
تطنّ وتشقّ الليل
اغنياتٌ غريبة في الغاب، ضوضاء جلود
تعلو فجأة… ولا غرابة في ذلك ابداً،
ازهار صفراء غَرْسُ المحارم تستأصل
سحرَ الارض
كتب طقوس مبللة قمرية، يديرها إله
أرجواني، تداعبها عذارى من الأبنوس
بعيون صافية… حلى برفيرية، أنوف
مرتعشة، تغنّي الصبايا.
نشيد الحب القديم في اماكن معتمة،
حيث الذاكرت أقفل عليها
وهي تحترق في عيون النمور.
وفجأة وبرصانة، أصارع الحلم:
صراخٌ أخضر يُغلّف ليلي.
ربّما
أعليَّ أن انشد صلاة لراحة الموتى
عندما ينغلق الباب؟
ربما من الأفضل ان ازعق باللامعنى.
عليّ أن اركض في الشوارع صارخاً
بأغاني الحب؟
ربما من المنطقي أكثر ان نزمّر البذاءات.
أعليَّ أن أقضم أظفاري حتى المعصم؟
ربما من الأفضل ان نبوّق الجاز الأبدي.
ربما سأطوي الريح في مربعات منتظمة ¶
هنري فريد صعب