صفحات ثقافية

نذير نـبعة معرضاً استعادياً في دمشق: الماضي والحاضر عـلى جدران “تـجليات”

null
عامر مطر
علّق نذير نبعة (1938) جدراناً على الجدران، وأساطير، ومدناً بملامح نساء، وأخرى بملامح الرماد، في معرض استعادي حمل اسم مجموعته الأخيرة “تجليات”، افتتح فيه الغاليري الذي سمّي نسبةً الى هذه المجموعة.
لم يعلّق فيه بستان جدته الذي شكل لوحاته الأولى، بدأ بتعليق تعب عمال مقالع الحجارة في قرية برقاش المصرية، بلوحة واحدة من مشروع تخرجه في كلية الفنون الجميلة في الزمالك عام 1964.
مجموعة العمال واقعيّة، رسمها بالزيت على القماش، متأثراً من حيث اختياره للموضوع بالحركة الفنية التي اهتمت بكدّ العمال في مصر آنذاك، وبتيارات التشكيل المصري، وخصوصاً بجورج البهجوري، وعبد الهادي الجزار. يقول نبعة عن أثر القاهرة في أعماله: “شكّلت القاهرة مرحلة النضج والوعي، فهمت فيها أن الفن ليس مجرد جمال أو كماليات، إنما طريق فكري وإنساني”.
قرب لوحة العامل، علّق تعباً آخر، أشجار “الغَرب” التي حمّلها أساطير الفرات وتعب أهله. لوحتان من أشجار الفرات تنتميان الى مجموعة “الغَرب” التي تحمل شيئاً من التجريد، خلقهما بالزيت على القماش أيضاً، حيث تصبح الأشجار وحوشا أسطورية ورمزاً لظلم أراد البوح به.
بدأ نبعة مجموعة “الغرب” إثر نقله إلى دير الزور، شرق سوريا، لتدريس الرسم فيها، بعد خمسة عشر يوماً من عودته إلى دمشق، حيث شكّلت تلك المنطقة منعطفاً جديداً في لوحاته، كما أوحت اليه معرضه الأول، في “صالة الفن الحديث العالمي” في دمشق عام 1965.
أغرق نهر الفرات نذير نبعة بأساطيره وألوانه طوال الستينات، فاستمر بعد “الغَرب” برسم خيال المنطقة بواقعيته. سيطر اللون الأزرق على القسم الأول من لوحات تلك الفترة، علّق منها في معرضه هذا لوحة “ساعة التنفيذ”، التي صوّرت رجلاً عاري الصدر، على أهبة الإعدام.
أما القسم الثاني من لوحات تلك الفترة فبلون الأهرة الصحراوي، صحراء الفرات. حظيت لوحات هذا اللون بنصيب جيد من العرض، يقف داخل كل منها شخص أو اثنان بلون واحد. شكّلت سديماً بشرياً استعار ملامح أشخاصه من منحوتات حضارات الرافدين.
بعد الإرهاق الذي تخلقه اللوحات السابقة في النفس، نصل إلى الشرقيات التي رسمها في نهاية الستينات وبداية السبعينات، انتقل فيها الى عالم جديد، بملامح الشرق ونسائه. اعتمد على التراث مؤكداً الهوية الثقافية للشرق عبر لوحاته، محاولاً الوقوف في وجه فكرة العولمة التي بدأ العرب بالتحدث عنها آنذاك.
يصف نبعة علاقته بالتراث: “هو كائن حي، يعيش معي، ومع فهمي، يساعدني كي أرى الكون بعيني، وليس بعيون الآخرين”.
لكن انتقال اللوحات من الأهرة إلى الشرقيات يعني تجاهل عرض مرحلة مهمة في حياة نبعة الفنية، هي مجموعة “من الأرض المحتلة” التي رسمها بعد معركة الكرامة عام 1968، بالحبر على الورق، بعد زيارته معسكرات الفدائيين في أغوار الأردن.
غابت “النباتات”، وهي المجموعة التي رسمها في باريس، وقدمها كمشروع تخرج في المدرسة العليا للفنون الجميلة “البوزار” عام 1975. ذهب عبر نباتاته تلك نحو التجريد، على رغم استحضاره لتفاصيل أزهار الشرق وألوانها لتلك المجموعة.
غابت النباتات والأرض المحتلة، لكن حضرت الحسناوات في المعرض. شهرزاد، ونساء أخريات كسر بعضهن قوّة الجاذبية، للتحليق في سماء اللوحة، ضمن مجموعة سمّاها الناس بالدمشقيات، بحسب قول نبعة.
للدمشقيات حضور كبير في المعرض، صوّر فيها نساء، وطبيعة صامتة، عمل عليها مدّة خمسة عشر عاماً. يقول عن دمشقياته: “هي قصيدة غنائية لدمشق، كانت غايتي أن يتعدى جمهورها فئة المثقفين، وأن لا يقف المتلقي أمامها بحيرة”.
ألبس نبعة نساءه ملابس وحلى دمشقية، فأصبحن أكثر جمالاً من نساء مجموعة الشرقيات، حملت بعضهن التفاح والأصداف، وهما عنصران مرافقان للوحاته منذ مجموعاته الأولى. كما صوّر رماناً وتفاحاً في لوحات سماها دمشق؛ حملت الأواني والأشياء الموجودة في البساتين الدمشقية التي بهرته ألوانها.
يعتقد نبعة أنه حقق ما أراد من الدمشقيات، لذلك انتقل الى التجليات في بداية التسعينات. يقول عن انتقاله هذا: “حين تتحقق الأحلام ينبغي تجاوزها”. يفسّر بعبارته هذه ترحاله الدائم بين المواضيع والأساليب، ويضيف: “بعد عمنا الكبير بيكاسو من المعيب أن يقول الفنان كلمة أسلوبي، وخصوصاً بعد فهم الأسلوب علمياً، إذ كان طلاب الفنان يعملون على جزء كبير من اللوحة في إشرافه، ثم ينهيها الفنان ويوقّعها، أما اليوم فصارت اللوحة أكثر ذاتيّة، وأقرب الى الفنان، بمعنى أنه عندما يكون شابا لا يفكر ولا يشعر كما لو كان رجلاً أو كهلاً، وتالياً تختلف اللوحة من ناحية الشكل والموضوع أيضاً”.
نصل في المعرض إلى التجليات والمدن المحروقة، كمحطة قد تكون الأخيرة في سفر هذا الرحالة نحو لوحته. رسم جدارناً للطبيعة من صخور وجبال، ومدناً محروقة، مستخدماً لوناً أو اثنين، كالأسود والرمادي، والبني والأسود، والأزرق والرمادي، متجهاً بها إلى التجريد حتى نهايته.
لا يرى نبعة أن تجلياته تنتمي الى التجريد، يراها واقعيّة بامتياز، إذ صوّر فيها صخوراً وجبالاً، ولا يرى أنه ابتعد فيها عن الناس، بل يراها أكثر فهماً لهم وقرباً منهم. يريد من المتلقي فيها أن يشاركه لوحته، أن يقف معه لا قربه.
في التجليات أصبحت مواضيع اللوحة أكثر، وأقرب من الحاضر والماضي معاً، وبتفاصيل أكثر، خلّفتها ضربات أفقية وطولية تظهر على وجه اللوحة التي تدخل من يقف أمامها، لتحرض ذاكرته ومشاعره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى