محمود درويش وقصيدة النثر
أمجد ناصر
لم يكن محمود درويش شاعر قصيدة نثر. هذا معروف. بل لعله من أكثر شعراء الوزن (التفعيلة) الذين ساجلوا، سلباً وايجاباً، شعراء قصيدة النثر. يمكن، أيضاً، أن يبدو للمنحازين الى ‘الوزن’ سداً منيعاً، إن لم يكن أخيراً، في وجه ‘طوفان النثر’. رحل درويش وهو على علاقة جيدة مع من يراهم ‘أفضل شعراء قصيدة النثر’. أزعم، كذلك، أن أقرب الشعراء العرب الى ذائقته، في مرحلته الأخيرة، هم اولئك. نظرياً لم يكتب درويش قصيدة نثر. أقصد أنه لم يقل إنه فعل. عملياً، في ظني، قام بذلك من دون إعلان. أول اشارة الى اقتراب مقصود من قصيدة النثر بدأت، كما أزعم، في الاقتباس الذي يمهد لعمله الشعري ‘كزهر اللوز أو أبعد’. هناك من يعتبر البداية أقدم بكثير: في ‘المزامير’ التي تضمنها ديوانه ‘أحبك أو لا أحبك’ بحسب صبحي حديدي. لا أميل الى رأي صديقي الناقد الفذ لسبب بسيط: ‘قصائد’ المزامير النثرية هي أقرب شيء إلى ما نسميه ‘النثر الشعري’ وليست قصائد نثر بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. تحديداً، كما هي عليه في المدونة الشعرية الغربية (الاوروبية والامريكية). القصيدة في أصلها، مصدر لغوي وممارسة أيضاً، قصد. توجه واع. ممارسة داخل حقل وبنية. هذا ما يعنيه اسمها في العربية. وبذلك قد لا يتشابه اسمها عربيا مع أي اسم آخر لها في الشعريات التي نعرفها. المصدر اللغوي لـ ‘قصيدة’ في العربية يرجع، كما نعرف، الى ‘قصد’. أي ‘توجه’.
لم يكن درويش يقصد، في ظني، ذلك عندما كتب بعض المزامير نثراً. لا المادة نفسها تجعل المزامير المنثورة في خانة ‘قصيدة النثر’، ولا الشاعر كرر التجربة لوقت طويل لاحق. يمكن اجتزاء قطع من ‘ذاكرة للنسيان’ واعتبارها ‘قصائد نثر’. ولكن ذلك لم يكن قصد الشاعر أيضا. هذا فعل لاحق تقوم به ‘الرغبة’ في وضع درويش قريباً من قصيدة النثر، إن لم يكن في داخلها.
في السنين الأخيرة ثار جدل حول ‘شكل’ قصيدة النثر العربية كما تتبدى عند الماغوط ويعكسها أسلوبه الشائع عربياً. أي الشكل الذي يتخذ تقطيع ‘التفعيلة’ على الصفحة ولكنه غير موزون. شارك كاتب هذه السطور في ذلك الجدل الذي حاول مساءلة ‘شكل’ قصيدة النثر العربية. لم يصل الجدل الذي انقطع فجأة، إلى حد حسم ‘الالتباس’ الذي رافق ولادة قصيدة النثر العربية وجعلها، في الممارسة العامة، أقرب الى ‘الشعر الحر’، بمعناه الغربي، منها الى ‘قصيدة النثر’ كما هي عليه عند من أطلقوها وكتبوها قبلنا. هذا موضوع له مناسبة أخرى وحيز مختلف. لكن المهم فيه أن كاتب هذه السطور وجد أن درويش كتب فعلا قصائد نثر ولكن ليس في أي من مجموعاته الشعرية المصنفة كذلك، بل في ‘يومياته’. أعود الآن لاقتباس درويش في ديوانه ‘كزهر اللوز أو أبعد’.
لم يكن درويش يعلن، في زعمي، هدنة مفتوحة مع قصيدة النثر وشعرائها من خلال تلك التوطئة، بل لعله كان يمهد لانتقالة محتملة لا يريدها أن تفاجىء متلقيه ونقاده الذين اعتبروه ‘حارس الوزن’. يبدأ الديوان المذكور بهذا الاقتباس من التوحيدي ‘أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم ‘كأنه نثر، ونثر كأنه نظم’. كان يمكن لدرويش أن يقتبس آخرين، لكنه اقتبس علما من التراث العربي: التوحيدي. لم يكن هناك من مبرر موضوعي في الديوان المذكور لهذا الاستدعاء. فلم يكن في كتابه، إياه، ‘شبهة’ نثر واحدة. لا تكتفي اشارات درويش الى اقترابه من قصيدة النثر، أو ما يحيل إليها، بذلك الاقتباس، بل جعل لنا شاهداً في واحدة من قصائد الديوان ‘الموزون’ هو التالي:
‘وسمّي الزمان الجديد بأسمائه الأجنبية يا لغتي،
واستضيفي الغريب البعيد ونثر الحياة البسيط
لينضج شعري’.
هذا ما يقوله درويش في قصيدة ‘نهار الثلاثاء والجو صاف’، التي تدشن القسم الثاني من ديوانه المذكور.
فماذا يعني ذلك عند درويش الذي تتفجر طبقات الموسيقى الداخلية والخارجية من مجرد ملامسته الكلمات؟ إنه يعني شيئاً محدداً. فليس تلفّظ مثل هذا مجانياً. لا أريد أن أرقى بهذين الاقتباسين الى مرتبة ‘البيان الشعري’، ولكنهما، مع ذلك ينطويان على شيء من ذلك. التنصيص صريح. والقول واضح. فاقتباسه من أبي حيان التوحيدي قد يعني العودة بقضية ‘النثر’ و’الشعر’ الى جذر أبعد من سجالات اللحظة الراهنة، هو الذي خاض فيها قولاً وكتابة من موقعه الكبير في المدونة الشعرية العربية الحديثة وسهمه الوافر في ‘التلقي’ الذي لا شك أنه كان محسودا عليه. ولكن اختيار درويش لهذه القولة دون سواها من أبي حيان، أو غيره من أعلام التراث العربي، قد لا يعني، في رأيي، عودة الى الماضي، والقول ان هذا الفهم الذي يلحظ الشعر في النثر والنثر في الشعر كان موجوداً، دائما، في فهمنا ومنجزنا الشعريين واننا، ابناء اللحظة الراهنة، لم نأت جديداً عندما مالت كفتنا نحو النثر. مثل هذا الفهم الاستثنائي للعلاقة المعقدة بين النثري والشعري الذي تراءى للتوحيدي، لم يشكل سياقاً، أو منجزاً يمكن الركون اليه، بل ظل مجرد التماع ثاقب لم ينر طريق الشعرية العربية القديمة. قلة قليلة من الشعراء القدامى الذين يمكن ان يرى المرء في شعرهم النثر او حتى مخايله. فقد التزم السياق، كله، بما بدا لهم ‘شعراً’ صريحا لا شبهة فيه للنثر، بينما يمكننا أن نرى مخايل الشعر في الكثير من النثر العربي، خصوصاً، الصوفي منه. ليس من الإنصاف ان نسقط انشغالات اللحظة الأدبية العربية الراهنة على ماضي الكتابة العربية، فنحن، على الأغلب، اكتشفنا النثر في الشعر عن طريق المثاقفة مع ‘الآخر. فمن العبث رد شعرية النثر العربية الراهنة الى جذر عربي قديم. مثل هذا ‘التأصيل’ الذي حاوله البعض جاء في اطار ردّ تهمة العجمة او النبرة الاجنبية عن المدونة الوحيدة التي يفخر بها العربي: الشعر.
مؤكد، في ظني، أن قصيدة النثر العربية هي وليدة تلاقح مع شعريات أجنبية، ولا ضير في ذلك ما دامت انتجت، في نهاية الأمر، شعراً عربيا يستمد مادته وبلاغته من النثر. فإذا كانت قولة ابو حيان التوحيدي التي استهل بها درويش ديوانه المذكور تتحدث عن الكلام (الكتابة) التي تقوم صورتها ‘قوامها’ بين نظم (وزن، ايقاع) يتراءى نثراً وبين نثر يتراءى نظماً (موسيقى) فإن اقتباسنا الثاني من قصيدة درويش نفسها يشير الى نوع آخر من النثر هو’نثر الحياة’. بصراحة، ومن دون لبس، يطلب درويش من لغته (قصيدته) ان تستضيف الغريب (العجمة، الأجنبي) مثلما تستضيف ‘نثر الحياة البسيط. لماذا؟ يجيبنا درويش نفسه في نهاية المقطع بكل وضوح ‘لينضج شعري’. إذن الشعر حسب ما يقوله درويش، في هذه القصيدة، ‘لا ينضج إلاّ اذا استضاف ‘الغريب’ و’نثر الحياة البسيط. ولكن هل كان ‘الغريب’ و’نثر الحياة البسيط’ جديدين، تماماً، عند درويش؟ الجواب، من خلال معرفتي بشعر محمود درويش: كلا. فهما موجودان بشكل واضح في غير عمل. الغريب أساسي في شعر درويش، وهو يشير اليه، في غير موضع، باسمه وجنسه وأعلامه، أما ‘نثر الحياة’ فتمكن رؤيته، بوضوح، في أكثر من عمل له، خصوصا، في المرحلة التي دشنها ديوانه ‘لماذا تركت الحصان وحيداً’ وصولا الى ‘أثر الفراشة’ الذي أزعم انه يمثل حلول درويش في أرض قصيدة النثر من دون اعلان مسبق. يمكن لنا ان نتعقب هذا الأثر (النثر) في أعمال أخرى مبكرة. ولكن ما هو ‘نثر الحياة’؟ أظن أن درويش قصد المشهد اليومي وتفاصيله بما ينطوي عليه من شخصي وعام، بما هو موضوعي (خارج الذات) وما هو ذاتي صرف، ولدينا في القسم الأول من ‘كزهر اللوز أو أبعد’ ما يؤكد ذلك: الشارع، المقهى، البيت، الجريدة، الخ. نثر الحياة’ هو، بهذا المعنى، ما يبدو هامشياً، وربما مجانياً، ولا يعتبر من عدة ‘المدونات الكبرى’ وعتادها، بل ربما ما يسقط من هذه المدونات باعتباره لا يشكل، في نظر مدوني القضايا والجوهري، مادة للقول الشعري. ربما كان ‘نثر الحياة’ موجودا، منذ بواكير درويش ولكن الغنائية التي اعتبر أحد أسيادها النادرين، هي التي اثنى عليها التلقي العام وألحف في طلبها. حتى في قصائده الطويلة ذات النفس الملحمي كان نثر الحياة موجودا. تذكروا، على سبيل المثال، قصيدته عن راشد حسين ونيويورك، بل تذكروا ديوانه ‘المحاولة رقم سبعة’. من لم يقتنع بتلك التمهيدات لنثر الحياة عليه أن يرى نثر الحياة، إن لم يكن نثر القصيدة في ‘أثر الفراشة’ الذي يعتبره كاتب هذه السطور اكثر اقتراب ممكن لدرويش من قصيدة النثر ذات الكتلة الطباعية العريضة على الصفحة.
‘اليوميات’، هنا، ليست يوميات بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. سبق لدرويش أن كتب يوميات ونشرها في ‘الكرمل’ ولكنها لا تشبه هذه ‘اليوميات’ التي تتشح بكل مواصفات قصيدة النثر كما هي عليه عند الموجة الجديدة من شعراء قصيدة النثر الامريكية: البنية اللغوية المحكمة، السطر الطويل، بل الكتلة الطباعية العريضة على الصفحة، الحادثة العادية، أو التأملية التي لا تقصد إِخباراً بحد ذاته وإن انطوت على إخبار ما، التخفف، ما أمكن، من عبء البلاغي والغنائي، التوتر الداخلي الذي يصنع عصبا يشد الكلام بعضه ببعض، الايقاع العريض ولكن المضطرد. اليوميات هي مادة ‘إخبارية’. توثيق يلجأ إليه الناس لتسجيل لحظة حياتية، ذات طابع يومي، سواء في سفر أو إقامة. إنها أيضا ما يكتبه الموظفون العموميون من ملاحظات تتعلق بعملهم والشخوص الذين يحتكون بهم. هناك شكل ثابت ومعروف لـ ‘اليوميات’ في الغرب (ليس ثمة الكثير منها عربيا) يصعب أن توضع ‘يوميات’ درويش في اطارها. إنها، في زعمي، قصائد نثر تقتفي السجال الذي خضناه في السنين الأخيرة حول شكل قصيدة النثر ومضمونها. كان درويش يتابع هذا السجال. أنا أعرف ذلك من خلال أكثر من حديث معه. ربما أخذ على هذا السجال ‘تشدده’ ولكنه كان يتابعه. ليس لدي ‘برهان’ مادي ملموس على تأثر درويش بهذا السجال الذي قدم ‘نماذج’ و’تطبقات’ لقصيدة النثر الحقيقية على صفحات الصحف. ذلك مجرد حدس. هذا ليس مهما بالطبع. ما يهم، بالنسبة لي، أن درويش لم يكن ممكنا أن يكتب هذه ‘اليوميات’ لولا رغبته في تجريب كتابة قصيدة النثر من دون أن يقول إنه يكتب قصيدة نثر، خصوصا، في ظل ما هو شائع عنه: العداء لقصيدة النثر.
نحن، إذن، امام ‘قصائد’ حاولت مواصلة مشروع شعري انعطافي عند شاعر لم يقلقه ‘الجمهور’ لأنه، ببساطه، يمتلكه، ولكن تقلقه القصيدة. قلقه حيال قصيدته وصلتها بما يكتب عربيا وأجنبيا، هما اللذان جعلا هذه القصيدة تذهب في اتجاه معاكس لقارئها ‘التقليدي’ وتنصت، فقط، الى صوت نفسها وما يتطلبه الفن من حاجة، دائمة، الى توسيع حدوده والتفلت من الأطر التي يحاول التلقي، القرائي والنقدي، حبسه فيها.
لمن يريد أن يرى الشعر في نثر درويش هناك شواهد عديدة، ويمكن لمن يريد العكس أن يحصل على مبتغاه. آمل أنني لم أحمل نص درويش المعاين هنا أكثر مما يحتمل. الأمر لا يتعلق بانطباع، بل بقراءة. قدمت قراءة سريعة لهذا العمل عندما صدر ولم تزعج درويش. قلت له أكثر من ذلك: تلك ليست ‘يوميات’. فلِمَ اسميتها كذلك؟ فقال لأن مادتها ‘يومية’. قلت له: لو لم تضع تلك الشذرات الشعرية الموزونة في الكتاب لحصلنا على عمل ذي وحدة عضوية. فقال انها كانت ضرورية. أنا أعرف ‘ضرورتها’. لم يرغب درويش في قطع ‘حبل السرة’ مع قارئه. مع أفق التوقع.
القدس العربي