كيف نتقدم؟ الثقافة أولاً؟
ياسين الحاج صالح
ما هي العلاقة بين الإصلاح الديني والثقافي، والتقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟
السؤال حاضر بصيغ متنوعة في تفكيرنا المعاصر. من صيغه الأكثر مباشرة في السنوات الأخيرة التساؤل عما إذا كانت العلمانية تشرط الديمقراطية أم لا.
وفي التداول إجابة حاسمة على السؤال تقرر أنه ما من تقدم ممكن على مستوى الديمقراطية والتفتح الاجتماعي دون تغيير ثقافي أساسي، يطال بخاصة الدين مضمونا وموقعا. وتضع هذه الأطروحة “الثقافوية” نفسها قبالة نقيضة مفترضة لها، يظن أنها تمنح الأولوية بالأحرى للديمقراطية والتغير السياسي. لن نناقش في ذلك هنا. نذكره فقط كإحداثي إضافي لتعريف الأطروحة الثقافوية بـ”الآخر” الذي اختارت تعريف نفسها بالتمايز عنه.
بعد 11 أيلول 2001، تحولت الأطروحة التي تربط سببيا بين التعثر الشديد لأوضاع العرب وبين الإسلام عامة أو تشكله المعاصر، إلى تيار إيديولوجي واع بذاته إلى أقصى حد. وتزكي “السياسة” التي تقترحها هذه الأطروحة أولوية قطعية لـ”العلمانية” كشرط لأي إصلاح سياسي.
ولا يبرأ القول بهذه الأطروحة أو بعكسها من انحيازات وتفضيلات سياسية لا تفهم جيدا إلا على ضوء الواقع العياني. في سورية هذا واضح جدا.
لكن يبدو لنا أن التقدم في النقاش يقتضي فك ارتباط مبدئي بين الثقافي والسياسي، والاهتمام بكل منهما بصورة مستقلة عن الآخر. هذا من أجل تحرير النقاش من التوظيفية والنفعية، وليس للقول إن الثقافة محايدة حيال التقدم الاجتماعي والسياسي، أو إن التقدم ممكن دوما بالدرجة نفسها في جميع الثقافات وفي جميع الأشكال التاريخية لكل ثقافة. نرجح علاقة أكثر تركيبا وتداخلا و”جدلية” بين المجالين، ونتشكك في أي تصور سببي وخطي وواحدي.
الثقافة عامل واحد بين عوامل متعددة للتقدم الاجتماعي والسياسي، فإذا توفرت عوامل أخرى (عوامل جيوسياسية ملائمة، عوامل بيئية وأخرى خاصة بالموارد، نخب سياسية وثقافية أرفع مستوى، مصادفات التاريخ..) عوضت بقدر عن دور العامل الثقافي، وربما دفعته إلى التشكل بصورة أكثر ملاءمة للتقدم. وبالعكس، قد تغدو الثقافة والدين حصونا نفسية ووجدانية للتكيف مع أوضاع متفلتة من السيطرة الاجتماعية، على نحو ما يبدو الحال بخصوص فئات واسعة من العرب المعاصرين. في هذه الحالة تفاقم الظروف غير المواتية (صراعات غير محلولة، نقص في المياه والأراضي الزراعية، انفجار ديموغرافي، موارد ريعية، فضلا عن الاستبداد السياسي..) من الاستعدادات السلبية في الثقافة.
فك الارتباط يمكن أن يعني أيضا أن ثقافة بعينها قد تتشكل في صور أقبل أو أمنع حيال التقدم السياسي والمادي والاجتماعي. قد نتذكر أن الأطروحة الثقافوية تجد أصولها في كتاب ماكس فيبر الشهير “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، وأنها سبق أن طرحت بخصوص الكونفوشية، وقبلها الكاثوليكية الأوربية الغربية، الإيطالية بخاصة.
على أن هذا الطرح المبدئي والمجرد دفاعا عن تصور أقل اختزالية للعلاقة بين الثقافي والسياسي لا ينفي الحاجة إلى إصلاح أو إعادة هيكلة الموروث الديني والثقافي في أوضاعنا المعاصرة الملموسة. نسوق ثلاث قضايا في هذا الصدد.
أولاها، إن إعادة الهيكلة هذه أو الإصلاح غاية بحد ذاتها من أجل تنظيم علاقاتنا بالدين والثقافة، وتملكهما اجتماعيا وثقافيا. مطلب إصلاح الدين والثقافة يحيل إلى اتساق التفكير وتنظيم الوعي العام وتحرر المخيلة واستقلال الضمير، وليس إلى التقدم المادي والعملي حصرا. بالمقابل، إن وضعا مختلطا للدين، يتداخل فيه مع السياسة والمعرفة والقانون والأخلاقية و”الهوية” ..، يعرقل إبداعية التفكير وانفتاح آفاقه، سيّان كان الدين موجبا في علاقته مع التقدم المادي والسياسي أم سالبا. ونرجح أن فرص تشكل ثقافة متطورة أكبر بقدر ما تنخرط هذه في إعادة تملك مواردها وأطوارها الأقدم، وتستقل عنها. الثقافة الغربية الحديثة عظيمة لأنها تصارعت مع أصولها وتاريخها، وانفصلت عنها. وليس من المؤكد أن ما يصنع عظمتها كثقافة هو ذاته ما يجعلها أكثر ملاءمة للرأسمالية والديمقراطية وتحرر المرأة. هذا مع ترجيح أنه ما من توافق محتوم بين مقتضيات كل من تطور الرأسمالية ورسوخ الديمقراطية وتحرر النساء (المقصود المعنى الإجرائي للتعبير: اختلاط الجنسين، وانخراط النساء في سوق العمل والحياة العامة، وبالطبع المساواة القانونية مع الرجال).
وتفيد القضية الثانية أن تنظيم وضبط العتاد الثقافي والديني يمكن أن يكون بالفعل قاعدة أصلب للتقدم من عتاد غير منظم وغير مضاء وغير معاد الترتيب والتشكيل. كلما كانت ثقافتنا المعاصرة أقل تمركزا حول المقدس والمحرم والسلطة، وأكثر تحررا وتنظيما واستقلالا عن ماضيها، كان من المرجح لما يتحقق لنا من تقدم دنيوي أن يكون أثبت وأرسخ. بالعكس، يمكن لتقدمنا أن يكون هشا، قابلا حتى للنكوص، دون إصلاح وضع الدين وموقعه وتصوره.
ثالثة القضايا تفيد أن الإسلام كدين أكثريتنا يشبه في علاقته بالسياسة والعلم المسيحية الغربية قبل الإصلاح البروتستانتي والإصلاح المضاد، وهو يتدخل في شؤون الحياة وتفاصيلها، وينزع إلى احتكار تشكيل تفكير وتفاعل المسلمين مع العالم من حولهم. هذا يجعل فرص التقدم الاجتماعي والسياسي الخاصة بنا أشد تعذرا من نظيراتها عند الصينيين والهنود والكوريين مثلا إن لم تمر بإعادة تشكيل الدين والثقافة. الإسلام أكثر من دين اليوم، والمطلوب أن يكون دينا فحسب.
لا ندافع عن ارتباط حتمي مع ذلك، ونتشكك مبدئيا في كل حتمية (تتشكل حولها عقيدة للمطلق وعصبة مغلقة، وليس تفكير نقدي مفتوح). لكننا نرجح أن فرص تقدمنا تكون أعظمية حين يكون في رصيدنا أيضا إصلاح إسلامي. إصلاح الدين عندنا أكثر إلحاحا مما عند مجتمعات وثقافات أخرى، لأن للإسلام مطامح سيادية (ممارسة الإكراه، الولاية العامة، تعريف العِلم، تعريف الأمة عبر “التكفير”) نشك في وجودها عند أية أديان أخرى اليوم.
زبدة القول إننا نعترض على واحدية الأطروحة الثقافوية وحصريتها وتمركزها حول ذاتها (تستعيد تماما سيرة الاقتصادوية والإيديولوجية الشيوعية، وتحول نفسها إلى خرافة مثلها)، لكننا لا نشك في الحاجة إلى إصلاح عتادنا الثقافي والديني، وإن كنا لا نضع هذه الحاجة قبالة أو بالطبع ضد مطالب الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الأخرى.
خاص – صفحات سورية –