صفحات مختارة

لمـاذا شعـب واحـد فـي بلديـن؟

رياض نجيب الريس
عند نشوء الدولة اللبنانية على شكل كيان لبنان الكبير، حصل خطأ مميت في بناء الحياة اللبنانية السياسية والاقتصادية كما مورست في ما بعد. وتمثل هذا الخطأ في أن أكثر من نصف اللبنانيين لم يكن يريد هذه الدولة، والنصف الثاني الذي يريدها كان يريد معها حماية أجنبية خوفا من أن يلتهمها الطرف الأول عن طريق إلحاقها بوحدة مع سوريا. والسبب الرئيسي في ذلك هو عدم التوافق بين اللبنانيين على رواية تاريخ معين تجد الأطراف اللبنانية نفسها فيه متساوية أو متوازية مع الأطراف الأخرى.
لم يكن لدى الجيل الاستقلالي العربي أي شعور بالتمايز «القطري» بين السوريين واللبنانيين. كان التطلع خارج الحدود اللبنانية أمرا طبيعيا، وكان التقوقع داخل الحدود اللبنانية أمرا انعزاليا. كانت بيروت وقتها امتدادا حقيقيا لدمشق، وكانت الحزبية السورية ـ اللبنانية، حزبية أشخاص عاشوا معارك الانتداب معا وسعوا إلى الاستقلال معا.
لكن هذا الجيل العربي لم يكن غافلا عن قصور النظام اللبناني وضحالة بعض أوجه الفكر السياسي اللبناني وشراسة العصبية القبلية اللبنانية وعمق التعصب الطائفي اللبناني المختبئة كلها وراء مظاهر الليبرالية الخادعة. كان يعرف ان ذلك كله يحمل في طياته أسباب الحساسية المفرطة التي يتمتع بها الفرد اللبناني تجاه «الغرباء» الى درجة الشوفينية، على عكس نظامه السياسي الذي أتاح دائما وعبر تاريخه كله «للغرباء» التدخل في شؤونه(1).
}}}
إن اللافت عند الاستغراق في متابعة بعض التفكير السياسي المسيحي، هو مدى التطرف الذي يلوّن معظم أفكاره وطروحاته في الابتعاد عما يجمعه بالعرب وبسوريا معا، مما دفع أصحابه الى الاجتهاد في تحريف التاريخ وتزويره، وتفسير المواقف وتأويلها في محاولة لتجريم العروبة وإدانة المتمسكين بها، وذلك لتبرير شعور المسيحيين بالخوف من طغيان الأكثرية الإسلامية في المنطقة، سواء كان هذا الخوف مستندا إلى أساس أو لم يكن.
نتيجة لذلك وقع بعض المسيحيين اللبنانيين في ورطة، فأوهموا أنفسهم أنهم برفضهم الانتماء العربي تخوفا واستعلاء، سيضعون قضية وجود المسيحيين في المنطقة على المحك. بل الأخطر من ذلك هو أنهم شككوا في تراث عربي وإسلامي عريق شارك المسيحيون العرب جميعا في صناعته لا بوصفهم مسيحيين قبل الإسلام وبعده، بل بوصفهم عربا كسائر إخوانهم العرب.
وما كان ليحصل هذا لولا سقوط حركة القومية العربية والانحطاط الذي أصابها، وفشل المشاريع الوحدوية، وضمور الأحزاب القومية، وانحلال الحركات العلمانية، فضلا عن الهزيمة العسكرية للأنظمة العربية في وجه إسرائيل، وإهمالها لقيم الديموقراطية فكرا وممارسة. وما من شك في أن هذه الحال التي انتهت اليها حركة القومية العربية شجعت على اختراع فهم ايديولوجي مضلل للكيان اللبناني، من شأنه تحويل الطائفية الى ظاهرة أزلية ـ أبدية.
لقد شجعت إسرائيل، منذ الهزيمة العربية في حزيران 1967، الصراعات الطائفية، وجيّرتها لمصلحتها ولحسابها. ونجحت طوال سنوات الحرب الأهلية في لبنان وما بعدها، في الإيحاء الى المسيحيين اللبنانيين وإقناع بعضهم بأن العدو الذي ينبغي لهم أن يحاربوه هو العروبة التي تهدد وجودهم، وهو سوريا التي تنوي ابتلاعهم. وعندما استطاعت إسرائيل أن تُدخل الى هذا الاتجاه اللبناني المسيحي عقلية الصليبية الغربية، كانت تعرف انها ستخلق في المقابل عند الطرف اللبناني المسلم عقلية الفتح الإسلامي(2).
لقد فتح لبنان أبوابه على مصاريعها لكل أجنبي يتوسله ويستخدمه لا لحماية استقلاله وكيانه بل لحماية طوائفه والحفاظ على مكاسبها وربط ما بقي من استقلاله في عجلة هذه أو تلك من الدول الأجنبية.
}}}
لعل قصة شعب واحد في بلدين المسكوت عنها في تاريخ العلاقات السورية ـ اللبنانية تبدأ أيام الانتداب الفرنسي وعند قيام الدولة اللبنانية المحكومة بوحدة التاريخ والجغرافيا مع سوريا التي هي من ثوابت التعامل بين البلدين.
في شباط 1933 أدلى غبطة بطريرك الموارنة مار أنطونيوس بطرس عريضة بحديث إلى جريدة «المقطم» المصرية إبان المفاوضات التي كانت جارية آنذاك بين المفوض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان المسيو بونصو وبين الحكومة السورية. وكان جل الحديث تعقيبا على بيان كان قد أدلى به بونصو أمام لجنة الانتدابات في عصبة الأمم، ذكر فيه ان لبنان بين البلدان التي قبلت الانتداب بطيبة خاطر وذلك لاختلاف مذاهب سكانه، ورأى ان جميع هذه المذاهب من الأقليات التي لا يمكن لواحدة منها أن تسود الأخرى. لكن بطريرك الموارنة علق لمراسل «المقطم» في بيروت على كلام المفوض السامي بقوله:
«نعم نحن قبلنا الانتداب بطيبة خاطر. أما الأقليات والأكثريات وقولهم فينا فلا يعنينا، فلبنان وطن مسيحي»(3).
غير أن مراسل «المقطم» عاد وسأل البطريرك: «لكن السوريين يا صاحب الغبطة يتشبثون بإرجاع الأجزاء التي ألحقتها فرنسا لبنان إلى سوريا».
فأجابه البطريرك: «ومتى كانت سوريا ممتلكة لهذه الأجزاء وسلبناها منها؟ ان هذه الأجزاء هي أصلا للبنان وقد سلبت منه في الأزمان الماضية، فإذا استعادها اليه فقد استعاد ما هو ملكه واسترد ما هو حق له. ألم يكن لبنان ممتدا حتى أنطاكية وحتى عكا وما وراءها؟».
قامت قيامة السوريين على هذا الحديث. فكُذّب ثم نُفي ثم أُكد إلى أن أصبح من العلامات الفارقة في العلاقات السورية ـ اللبنانية على الرغم من نفيه وتأكيده في آن معا واستمرار الأخذ والرد فيه الى نهاية الانتداب.
يومها فندت الصحافة السورية ما ورد على لسان البطريرك وكتبت «القبس» الدمشقية: «هذا سؤال نلقيه على الفرنسيين الذين اقتطعوا هذه الأجزاء السورية بقوتهم وضمّوها الى لبنان رغما عن أهلها. وسؤال نوجهه الى المفاوض السوري الذي تقدم الى المفاوضة باسم سوريا ذات القضية الوطنية التي تعرض اليوم على التصفية النهائية لنعلم كيف يكون موقف هاتيك الأجزاء من الوطن السوري. وهذا السؤال نفسه نوجهه إلى سكان هاتيك البلاد الذين ضموا الى لبنان بغير إرادتهم والذين لم يقولوا ساعة واحدة لا بالانتداب ولا بلبنان»(4).
وسخرت الصحافة السورية في مقالات كثيرة وطويلة وعلى امتداد أيام أقوال البطريرك اللبناني، خصوصا تلك التي زعمت بأن الأجزاء السورية هي أصلا للبنان وسلبت منه. ومن أطرف ما ورد من تعليقات، ما قاله نجيب الريس:
«لستم أنتم يا سيدي الذين سلبتم هذه الأجزاء من سوريا وألحقتموها بلبنان.. بل هم الفرنسيون أصحاب الأساطيل والجيوش والمدافع. فأنتم لستم الآخذين بل أنتم المأخوذ لكم».
وكتب نجيب الريس في «القبس» يقول:
«كنا نتمنى ألا يكون غبطته صاحب هذا الحديث الذي يتناول قضيتنا الوطنية والقومية في الصميم، لأننا نحن في الشام لا نعرف ولا نريد أن نعرف ولا نقبل أن يعرفنا أحد، بأن سكان دمشق غير سكان طرابلس وأهل حلب غير أهل اللاذقية، وأبناء حماه غير أبناء النبطية وبعلبك، فجميع هؤلاء سوريون عرب يطلبون الوحدة والاستقلال ويرفضون الانتداب».
وأضاف: «إذا كان اللبنانيون الذين تكلّم بلسانهم صاحب الغبطة لا يريدون هذا التحرر فهم أحرار. ولكن سكان طرابلس وصيدا وصور وجبل عامل وبعلبك والبقاع الذين لم يقبلوا بالانتداب من قبل والذين يريدون أن يتحرروا من نيره ويطلبون أن يؤلفوا مع إخوانهم هنا دولة سورية واحدة، إن هؤلاء لا يستطيع صاحب الغبطة أن يتكلم بلسانهم ولا أن يقول بالنيابة عنهم ان لبنان قبل الانتداب عن طيب خاطر(5).
}}}
وفي أيار 1935 (أي بعد سنتين تقريبا) تغيرت الأجواء حين أدلى غبطة البطريرك عريضة نفسه بحديث صحافي تعقيبا على تعليق خرجت به صحيفة فرنسية اسمها «لاديبيش نوفيل» سخرت فيه من تقارب الوطنيين في سوريا والموارنة في لبنان إثر شبه اتفاق اقتصادي تم بين البلدين، وسمّت هذا التقارب من الوطنيين السوريين «أزهاراً مسمومة يقدمونها لغبطة البطريرك ليخدعوه ويستغلوا نفوذه»، ورد يومها البطريرك اللبناني في حديثه الصحافي على هذا التحريض قائلا:
«إننا نقبل هذه الأزهار من السوريين سواء أكانت مسمومة أم نقية، لأن هذا أمر يعنينا وحدنا»، ثم تساءل بلهجة ملؤها الألفة والتقريع: «وماذا يضر الآخرين ان اتفقنا؟ ان قضية اتفاقنا مع السوريين ليست قضية أزهار مسمومة بل هي قضية مصلحة أو مصيبة جمعتنا».
وفي خلال سنتين خرج السوريون عبر صحافتهم، وكانت في حينه من أكثر الصحافات العربية حرية في التعبير وفي تعدد وجهات النظر، يرحبون بحديث البطريرك اللبناني ويؤيدون موقفه ويقولون انهم اذا أيدوا موقف البطريرك اليوم فلا ينكرون أنهم لم يكونوا كذلك بالأمس، وإن هذا الاعتراف الصريح منهم هو أكبر دعامة في اتفاقهم لأن الذين يعرفون لماذا كانوا يختلفون يعرفون ايضا لماذا غدوا يتفقون. فإذا فرقتهم أحقاد الماضي وسياسة الماضي فقد جمعتهم اليوم مصيبة الحاضر ومصلحة المستقبل. وليس عجبا ان يتحد المسلمون والنصارى في هذا الوطن المشترك أو الموارنة في لبنان والوطنيون في سوريا، ولكن العجيب أن يتأخروا في هذا الاتحاد الصريح الواضح حتى اليوم وهم يعلمون أنهم مرغمون على ما توجبه المصلحة ويفرضه حب البقاء.
وتساءلت «القبس» الدمشقية: «ولماذا كانوا يتهموننا بالتعصب يوم كنا مختلفين ولماذا كان جوابهم ان هذه البلاد لا تستحق الاستقلال إلا أن تزول منها الفوارق المذهبية، حتى إذا اتفقنا اليوم راحوا يعجبون من اتفاقنا ويحاولون تلغيمه. لقد أثبتنا باتفاقنا على المطالبة بسيادة بلادنا وحريتها وتخفيف الأعباء المالية عن كواهل أهلها، أن اختلاف المذاهب لا يمنع الاتفاق، وانه ليس ضروريا أن تزول هذه الفوارق حتى يعيش بعضنا مع بعض في وطن: نحن أهله ونحن أصحابه الشرعيون. فالمسلم يظل مسلما، والمسيحي يظل مسيحيا والوطن يبقى للاثنين ما دامت مصلحة سوريا في سيادتها وفي اقتصادياتها وفي ثروتها هي نفسها مصلحة لبنان».
بعد تسعة أشهر من هذا الاتفاق ومن التصريح البطريركي، مشت سوريا الى بكركي في كانون الثاني 1936، لتهنئ بطريرك الموارنة في لبنان بعيده. ولم يكن قراراً سهلاً، فقد قاد فخري البارودي، نائب دمشق وخطيب سوريا والمتكلم بلسانها، وفدا سوريا كبيرا الى بكركي، الذي كان الاول من نوعه. وقف فخري البارودي في حضرة البطريرك ليقول:
«إن دماءنا ودماءكم أيها اللبنانيون المارونيون قد سالت للدفاع عن هذه البلاد وعلى أرض الوطن الواحد وعلى ضفاف العاصي منذ مئات السنين. أجل لقد التقت سوريا ولبنان على أعواد المشانق في عهد جمال باشا كما التقت دماؤنا على ضفاف العاصي في عهد الغزاة الرومانيين. واليوم نلتقي من جديد في صعيد واحد وفي بكركي… في سبيل الألم الذي وحد قلوبنا، وفي سبيل إزاحة هذا النير الثقيل الذي يحز في أعناقنا، نلتقي لنطلب الحرية وننشد الخلاص…»؟(6).
وعلقت الصحافة السورية على هذا الحدث البارز الكبير في حينه بقولها إن: «هذه اول مرة تمشي فيها سوريا من دمشق الى لبنان لا للنزهة ولا للتجارة بل لتدشين عهد طالما بقينا عليه وطالما نادينا به، وطالما قلنا انه الوسيلة الوحيدة الناجحة لخلاصنا جميعا. فإذا بهذا العهد الذي نشدناه طويلا وأخفقنا في الوصول إليه كثيرا يدشن في بكركي وعلى باب كنيستها وأمام هيكل المسيح، بعدما دشن في الجامع الأموي وعلى باب محرابه»(8).
إن الحياة السياسية في لبنان، التي قامت على ما يمكن الاصطلاح عليه بـ«التكاذب التاريخي» بين نخب الطوائف وزعمائها، سوف تنشئ لعبة أقل ما يقال فيها إنها كانت واحدة من الثوابت المؤسسة للعنف المسلح وللحروب الأهلية الباردة المستمرة.
لقد لاحظ المؤرخ كمال الصليبي المنطق الداخلي لعناصر اللعبة اللبنانية التقليدية رائيا إليها بوصفها «لعبة تشمل تواليا من التعاملات المراوغة بين لاعبين يزعم جميعهم التمسك بأفكار ومبادئ قومية أو وطنية، تهدف الى خدمة الصالح العام، فيما يسعى كل منهم الى الاحتيال على الآخر وإطاحته، مدفوعا الى ذلك بولاءات وضغائن وأحقاد بدائية خبيثة تعود في أصولها الى غابر الأزمان».
المراجع:
رياض نجيب الريّس ـ «المسيحيون والعروبة» ـ سلسلة قضايا راهنة ـ رياض الريّس للكتب والنشر ـ لندن 1991.
المصدر نفسه.
نجيب الريّس ـ «لبنان وطن مسيحي (1)»جريدة «القبس» الدمشقية ـ 20/2/1932.
نجيب الريّس ـ «لبنان وطن مسيحي (2)» ـ جريدة «القبس» الدمشقية ـ 22/2/1933.
نجيب الريّس ـ «أزهار مسمومة» ـ جريدة «القبس» الدمشقية ـ 28/5/1935.
نجيب الريّس ـ «أرض التعصب» ـ جريدة «القبس» الدمشقية ـ 15/1/1935.
جريدة «البيرق» اللبنانية ـ عن جريدة «لاسيري» بيروت 1932.
كمال الصليبي، «تاريخ لبنان الحديث» ـ دار النهار للنشر ـ بيروت 1967.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى