هناك شبح يجول في العالَم الإسلاميّ، هو شبح السلفية
خلدون النبواني
إذ أستعير عبارة ماركس وانجلز الشهيرة التي استهلا بها بيانهما الشيوعي، محوّرا إياها، فإنني أودّ من ذلك الاتّكاء عليها لوصف الحالة البائسة التي وصل إليها حالنا في العالَم العربيّ، ولكن ذلك لن يتأتّى لي إلا إذا قُمتُ بقلب هذه العبارة رأساً على عقب. لقد كان شبح الشيوعية هو شبح ما سيأتي، أي شبحاً مُستقبلياً مُرتقباً ومُنتظراً بفارغ الصبر بالنسبة لمؤلّفي هذا البيان، في حين أنّ شبح السلفية الذي أتحدّث عنه هو نداء الماضي الذي يُصرّ على ألا يمضي من حياتنا. وإذ رأى ماركس وانجلز أنّ “كلّ قوى أوروبا العجوز قد اتّحدت لمحاربة شبح الشيوعية والتضييق عليه”، فإنّ كلّ قوى العالم العربيّ العجوز تتّحد الآن للترحيب بشبح السلفية وفتح كلّ الأبواب أمامه. ظلّ أن نقول إنّ شبح الماركسية الشيوعية ما لبث أن تبخّر في سماء التاريخ، ولم يتجسِّد يوماً بهيئةٍ واضحة. في حين أنّ شبحنا السلفيّ قد غادر عالم الأطياف وأخذ يكتسي من جديد لحماً ودماً حيّاً. الشيء الوحيد الذي يلتقي فيه شبح الشيوعيّة مع شبح السلفيّة، هو تلك الإيديولوجية التي تُبشر أو تُذكّر بمرحلةٍ بلغت أو ستبلغ فيها البشرية ذروة اكتمالها.
أكثر من ثمانية قرون تفصلنا عن ابن رشد الذي سقطت عقلانيته أمام التيّار السلفيّ الغزّالي، الذي يعود شبحه ليقضي على كلّ مظاهر الحداثة العربية (وإن كانت حداثةً رثَّّة). ثمانية قرون والعالم العربيّ ما أن ينهض قليلاً حتى يهوي من جديد، وما أن يُعلِن عن بوادر نهضةٍ في المهد حتى يأتي من يُجهضها. هل هي لعنةٌ تُلاحق نهضتنا الموءودة أم أنّ ماضينا قد ابتلع حاضرنا ومُستقبلنا نهائياً؟ ما الذي يُفسِّر هذا الموت التاريخيّ للعرب وللحضارة الإسلامية؟ لا شكّ أنذ الفكر العربيّ قد تأمّل طويلاً في حالة الانسداد التاريخي التي تعيشها الحضارة العربية الإسلامية منذ نهاية القرن الثاني عشر الميلادي فقدّم الكثير من الأجوبة على ذلك مثل: التدخّل الأجنبيّ في آليات الداخل العربيّ، بما في ذلك فترات الاستعمار الطويلة التي مُني بها العالم العربي، أو التخوّف الغربيّ من قوّة محمد علي باشا التي أسّست لبوادر نهضة عربية حديثة، فعملت هذه القوى الغربية- التي كانت قد غادرت مواقعها الليبرالية وتحوّلت إلى قوى امبريالية تريد اقتسام العالَم- إلى القضاء على تلك النهضة الصاعدة، ممّا حال دون تأسيس تنويرٍ عربيّ. هكذا يتّفق الأطبّاء على أسباب المرض وعلى أنّ حالة المريض حرجة، ولكنهم عاجزون تماماً عن تفسير مقاومة جسم المريض لكلّ أنواع العلاج. لقد ساد على تفكيرنا ولمدة طويلة تصوّر يقول إنّ القضية قضية وقت؛ فأوروبا أيضاً قد عاشت قروناً في ظلمات العصور الوسطى تحت سلطة الكنيسة الرجعية، إلى أن حقّقت نهضتها التي بدأت منذ منتصف القرن الخامس عشر. تقوم سذاجة مثل هذا التصوّر على فكرة حتمية التقدُّم وخطّية التاريخ الذي يتّجه دائماً نحو الأمام، حتى لو عرف صعوداً هنا أو نزولاً هناك إلا أنّ التاريخ يتّجه، وفقاً لهذه الرؤية، نحو الاكتمال. لقد مارس هذا التصوّر الخطّيّ للتاريخ تأثيراً كبيراً على تصوّرات الوعي التحرّريّ العربيّ حتى أنه مثّل قاعدة أو حقيقة fact فليس لنا إلا الانتظار.
ورغم أنّ 11/سبتمبر قد مثَّّل ذروة الرجعية السلفيَّة، إلا أن هذا الإرهاب لم يلقَ قبولاً لدى الإسلام الشعبيّ، وظلّت القاعدة في نظر أغلبية المُسلمين تطرّفاً لا ينتمي إلى تقاليد الإسلام السمحة رغم إدّعاء القاعديين أنهم يستمدّون جهادهم ودعوتهم من تعاليم الإسلام. لا شك أنّ هناك ذيولاً للقاعدة هنا وهناك وتقريباً في كلّ بلدٍ إسلامي، لكنّ هؤلاء لا يمثّلون صوت الإسلام الشعبيّ، إسلام الجماهير المُسلمة. أريدُ أن أقول هنا إنّ المجتمع الإسلاميّ لم يتحوّل، على ما يبدو لي، إلى مناصرٍ للإرهاب الدوليّ، أو أنّ القاعدة قد نجحت في توسيع أرضيتها لتشمل العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، بل والمُسلمين الذين يعيشون في الغرب. ولكن ما حصل عقب 11/سبتمبر قد قام بتجذير الهوية الإسلامية بشكلها السلفي المُعادي لكلّ أشكال الحداثة التي تُتهم أنها بضاعة الغرب. لقد رفض الإسلام الشعبيّ المقاومة على طريقة القاعدة، ولكنه وجد في العودة إلى أحضان الدين حصنه الأخير. هكذا أخذ العالَم العربي يكفهرّ بحُجُب الآلهة، وراح زمنه ينزلق سريعاً نحو ليل الأديان حيث يتزمن الماضي في الحاضِر، ويُصبح المُستقبل ارتداداً للوراء فيتوجّه الناس إلى الجوامع زرافاتٍ ووحدانا، وتمتلئ بيوت الله بمن سينقذون مجد السماء التي تُعيد وتطبق خناقها على الأرض. في هذا الزمن السلفي يتحوّل العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه إلى جامعٍ كبير تكثر فيه الأئمة وتتباين فيه الأدعية وتحمرّ فيه العيون على الآخر، المُختلف ديناً أو عقيدة، حيث تعود الآلهة لتتصارع في السماء طالبةً المدد من فرسانها على الأرض فيشعرٌ كلّ بمسؤوليته في الدفاع عن عرش إلهه المُهدَّد.
لعلّ أبرز ما أدّى إلى عودة بروز السلفية في العقود الأخيرة هو حالة الإحباط واليأس ليس من الخارج فحسب (إذ توقف العرب عن التعويل على الغرب السياسي منذ زمنٍ طويل)، وإنما من البدائل “الوطنية” الداخلية التي افتُضح تواطؤها (المباشر أو غير المُباشر) مع الغرب الاستعماري بشكلٍ أو بآخر. لقد أدّى الانتظار اللانهائي لآليات التغيّر والإصلاح الداخليّ، وكذلك الهزائم المُتكرِّرة التي حاقت بالعالم العربي الإسلاميّ، أن دفع بالشعوب العربية- التي شعرت بالخزي والخصاء أمام حكوماتها التي فقدت كل مصداقية- إلى أن تجد في الدين الملجأ الوحيد بعد اختفاء كلّ البدائل. أمّا السُّلطات “العربية” فإنّها، ومع إحساسها بانكشاف أمرها وبسقوط مصداقيتها أمام شعوبها، قد وجدت مصلحتها وخلاصها في فتح أبواب التديّن على مصراعيه مُتسائلةً ما الضير من اكتفاء شرّ الخطر الإسلامي الداخلي المُتفجِّر بالتحالف معه وفتح كل الأبواب أمامه طالما أن ذلك سيُنقذ كرسيّ الحكم من الطوفان؟
ألا تستولي مقولة “الإسلام هو الحلّ” على وعي الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، بل وعلى العالَم الإسلامي من ورائه؟ ألا نلحظ أننا حتى نحن العَلمانيين أو الداعين إلى مجتمعٍ تعدّديّ يعترف فيه الجميع بالجميع على قاعدة المواطنة قد دخلنا في اللعبة (بوعي أو بغير وعي)؟ ألم نتحمّس جميعنا لحماس سرّاً أو علناً (التي تُمثل تياراً دينياً جهادياً) في أحداث غزّة الأخيرة؟ لا شكّ أنّنا تحمّسنا، فلنعترف بذلك! والسبب بسيط، فلو لم تكن حماس الجهادية وحزب الله الجهادي فما هي إذن قوى المقاومة العربية التي يمكن أن تتصدّى للكيان الصهيوني الذي أذاقنا الذُّل؟ لا أحد. من هنا يظهر البديل الدينيّ بوصفه البديل الوحيد (والمُرحّب به شعبياً) ليس بوصفه أهون الشرور بل بما أخذ يُسيطر على وعي (وبالأحرى على لاوعي) الجماهير العربية بوصفه الخير المُطلق والحلّ النهائي المُرتقب، الذي سُيعيد الأمور إلى نصابها. وإذا كان العرب قد كوّنوا أمّةً قويّةً في الفترة الإسلامية الأولى، فليس هناك سوى الإسلام الذي يستطيع أن يعيد تلك الأمجاد وفقاً لتصورات هذه السلفية. رغم أنّ فترة جمال عبد الناصر لم تكن فترة ديمقراطية إلا أن الشخصية الوطنية العربية الصادقة قد ألهبت الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، باسم العروبة وقضايا العرب العادلة.
بعد عبد الناصر تمّ كتم صوت الشارع العربيّ ومنعه من التعبير أو الاحتجاج، لكننا سنلحظ عودةً لهذا الشارع العربي الذي أخذ يتفلّت من رقابة السلطات الرسمية في أحداث غزة الأخيرة. ولكن هل انتبهنا أنّ الشارع الذي تحرّك هذه المرَّة لم يكن يتحرّك باسم العروبة والنهضة، بل باسم السلفية الدينية التي تأخذ صفةً جهادية مقاومة. هكذا تُرتّب الساحة شيئاً فشيئاً لعودة الديني بشكل كاسح. أما قوى العلمانية والتنوير فإنها غالباً ما تجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: يتمثّل الأوّل في ركوب الموجة السلفية، ليس إكراهاً أو تزلُّفاً دائماً، بل تغيّراً في القناعات والثوابت، فتيّار السلفية يسير بقوّة بحيث يجرف كلّ شيءٍ أمامه حتى الوعي؛ وإمّا (وهذا ما يحصل غالباً) تراجُعاً مُكرَهاً وإحساساً بالعجز الكامل أمام طغيان المدّ المُتأسلم الذي أخذ يفرض نفسه كقوّةٍ كاسحة ومسيطرة على حاضر و”مستقبل” الأمّة التي لن تكون عمّا قريب عربية، إذا لم يتمّ كبح جموح التوجّه السلفيّ، بل ستُبتلع هويتها العربية في الهوية الإسلاميّة. المفارقة الطريفة في مقولة “الصحوة الإسلامية” التي تكتسح العالم العربي من المحيط إلى الخليج تتمثّل في كون الصحوة هي حالة يقظة ووعي بعد سباتٍ دام إلى فترةٍ ما، ولكنّ الجماهير المؤمنة تمشي وهي نائمة في نهر السلفية المُتدفق الذي يُمثِّل قوّة ثقلٍ رهيبة، شيئاً يُشبه حالة التنويم المغناطيسي أو نهراً من الجنون شرب منه الجميع، أمّا من لم يشرب بعد فهو “يشقى في النعيم بعقله”. هكذا لا يعود التطرّف ليستولي عندنا على الساحات العامّة والجوامع وعامّة الناس فقط، وإنما على الجامعات والعقول والنفوس ومناهج التربية والتعليم بما في ذلك التوجيه الإعلامي.
لا يُمكن لنا أن نأمل الآن بمقارنة وضع العالم العربي عمَّا كان عليه قبل خمسين أو ستين سنة أو حتى قرنٍ من الآن. من يجرؤ الآن على الحديث بتلك الحرية التي كانت عليها نهاية القرن التاسع عشر العربي؟ فكما انتبه الدكتور عبد الرزاق عيد إلى أنه إذا كان القرن العشرون قد ابتدأ مع طه حسين وعلي عبد الرازق، فإنّ القرن الواحد والعشرين يبتدئ مع أُسامة بن لادن والآلاف من خفافيش الظلام الذين يملئون الفضائيات العربية. لا يقتصر الأمر على العالَم العربي فقد انتقلت العدوى مع طلبة العلم إلى أوروبا، وإذا كان الطهطاوي قد جاء إلى باريس عام 1826 كإمامٍ وواعظ للبعثة التي رجع منها مُثقفاً مستنيرا،ً فإنّ طلبتنا يأتون إلى البلدان الأوروبية مُعتدلين ويعودون منها سلفيين متشدّدين. ألم ننتبه بعد أنّ الأمور تسير بشكلٍ خفيّ ولكنه متسارعٍ أيضاً في كل البلدان العربية، نحو تأويلاتٍ مُتطرّفة للدين ستشبه في يومٍ من الأيام تأويل طالبان للشريعة الإسلامية إن استمرّ هذا السقوط المُرعب؟
موقع الآوان